لماذا قد تفقد إيران “عمقها الاستراتيجي” في سورية؟

لماذا قد تفقد إيران “عمقها الاستراتيجي” في سورية؟

تقف إيران في هذه الآونة على شفير الإفلاس الاقتصادي والجيوسياسي، بينما يلوح شبح العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة عليها في الأفق. وفي أعقاب انسحاب الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من الاتفاق النووي الإيراني، هددت واشنطن بمعاقبة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بـ”أقوى عقوبات في التاريخ” ما لم تنجح القوى الأوروبية الكبرى في الضغط لانتزاع صفقة أفضل من طهران.

وفي حين أن مصير الاتفاقية النووية المحتضرة غير مؤكد، فإن ترامب يبدو حازماً في تطبيقه الكامل لسياسته المتمثلة في ممارسة “أقصى ضغط ممكن” على الجمهورية الإسلامية، سعياً إلى التعجيل بانهيار اقتصاد إيران، وبالتالي إقناع طهران بالقوة بتغيير المسار. ويأمل ترامب وفريقه للسياسة الخارجية أيضاً في أن يتم، بفضل فرض العقوبات الاقتصادية الصارمة، كبح جماح الجمهورية الإسلامية، أو حتى إجبارها على إنهاء طموحاتها الجيوسياسية في سورية.

وفي مواجهة الضغوط الاقتصادية المتزايدة، قام زعماء إيران بدورهم بالضغط على ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة من أجل التوصل إلى خطة عملية لإنقاذ الاتفاق النووي. وتحت الضغوط الجيوسياسية التي تواجهها في سورية، تعمل إيران أيضاً على التأكد من أن الروس سيقفون إلى جانب طهران في أوقات الصعوبة الاقتصادية، وأنهم لن يستجيبوا لمطالب إسرائيل والولايات المتحدة بطرد إيران ووكلائها من سورية.

لكن ذلك يبدو بلا طائل مع ذلك. ويبدو أن إيران تواجه واقعاً صعباً حقاً. ولم يقتصر الأمر على فشل القوى الأوروبية الكبرى (حتى الآن) في الوفاء بوعودها بإنقاذ الصفقة النووية فحسب، وإنما أظهرت روسيا أيضاً إشارات إلى إعادة اصطفاف تكتيكية (إن لم تكن استراتيجية) مع كل من واشنطن وتل أبيب في سورية.

والسؤال الكبير الآن هو: هل ستكون إيران قادرة على الاحتفاظ بعمقها الاستراتيجي في سورية في مواجهة الضغوط الاقتصادية المتزايدة، والانفراج الأخير في العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا؟

روسيا تتوسط في تسوية مؤقتة بين إيران وإسرائيل

منذ حزيران (يونيو) 2013، كانت إيران تدعم نظام بشار الأسد وتحقق أقصى استفادة من كل فرصة لتوسيع موطئ قدمها الجيوسياسي في سورية تحت إشراف روسيا. وقد أدى زوال تنظيم “الدولة الإسلامية” بالتزامن مع تزايد إضعاف المتمردين في سورية، من درعا في الجنوب المضطرب إلى حلب في الشمال، إلى ظهور فراغ جيوبوليتيكي ليملأه اللاعبون الرئيسيون مثل إيران.

في هذه الأثناء، أصبح الكثير من جنوب غرب سورية، الذي كان يُعد منطقة لخفض التصعيد وفق اتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن، أرضاً خصبة لنشوب صراع عسكري محتمل بين إيران وإسرائيل.

ويقال إن بعض وكلاء إيران شوهدوا وهم يرتدون الزي العسكري السوري في المناطق الاستراتيجية في درعا والقنيطرة على طول الحدود مع مرتفعات الجولان التي تحتلها إسرائيل. ونتيجة لذلك، كان المسؤولون الإسرائيليون يحثون روسيا بقوة من أجل تأمين انسحاب كامل للإيرانيين والميليشيات الشيعية من المنطقة. وقد ذهب المسؤولون الإسرائيليون إلى حد رفض عرض موسكو بإبقاء قوات إيران على بعد 100 كيلومتر (62 ميلاً) من الحدود الشمالية لإسرائيل.

عندما كان ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين يتجهان إلى قمة هلسنكي التاريخية، كانت هناك تكهنات بأن “صفقة كبرى” حول سورية سوف تخرج من مناقشاتهما -صفقة توافق بموجبها الولايات المتحدة على رفع العقوبات المرتبطة بأوكرانيا والمفروضة على روسيا، في مقابل إخراج إيران ووكلائها من سورية.

من السابق لأوانه القول الآن إن قمة هلسنكي، بغض النظر عن جميع خصائصها التاريخية، قد حددت مصير الوجود العسكري الإيراني في سورية. وإلى جانب ذلك، ما تزال إسرائيل وروسيا على خلاف حول حدود النشاط الإيراني في سورية. ومع ذلك، يجب أن يكون ترامب وبوتين قد تبادلا وجهات النظر، بل وربما يكونان قد توصلا إلى إجماع حول معالجة مكامن قلق إسرائيل من تورط إيران المتزايد في سورية بالقرب من الحدود السورية الإسرائيلية المتنازع عليها.

قبل أيام قليلة فقط من انعقاد قمة هلسنكي، كان بوتين قد التقى برئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي قال في الاجتماع للرئيس الروسي أن “إيران يجب أن تغادر سورية”. وفي اليوم نفسه، أرسلت إيران علي أكبر ولايتي، المستشار الرفيع للمرشد الإيراني الأعلى آية الله علي خامنئي، إلى موسكو لنقل رسالة مهمة من خامنئي وروحاني إلى بوتين.

ومن المؤكد أن القادة الإيرانيين أرادوا التأكد من أن روسيا لن تبيع إيران في سورية، مع تزايد الخلافات في طهران حول “الدوافع الخفية” لموسكو واتصالاتها الأخيرة مع إسرائيل. أضف إلى مخاوف طهران التصريح الأخير لوزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، بأن “قوات الحكومة السورية فقط هي التي يجب أن يكون لها وجود على الحدود الجنوبية للبلاد”.

كان تصريح لافروف بمثابة إشارة ضمنية إلى الميليشيات المرتبطة بإيران، فضلاً عن كونه إشارة واضحة إلى رغبة روسيا القوية في إنهاء المرحلة العسكرية في سورية بسرعة، وتسريع المرحلة السياسية القائمة على فكرة المصالحة في إطار صفقة أستانة. لذلك، وفي هذا المنعطف الحرج، فإن آخر شيء تحتاجه روسيا باعتبارها وسيطاً رئيسياً هو نشوب صراع عسكري آخر، هذه المرة بين إيران وإسرائيل في جنوب سورية.

البراغماتية الروسية في مواجهة معضلة إيران السورية

مع أخذ المصالح والمخاوف الإيرانية والإسرائيلية المتضاربة في سورية بعين الاعتبار، تحاول روسيا منع الطرفين من الدخول في حرب محفوفة بالمخاطر وغير ضرورية في سورية، والتي ستكون لها تداعيات جيوسياسية وأمنية سلبية كبيرة على المنطقة كلها. ومع ذلك، فإن المشكلة المحيرة هي أن طهران تفسر مبادرات روسيا الدبلوماسية المتعددة مع إسرائيل على مدى الأشهر القليلة الماضية بأنها سحب للبساط من تحت أقدام “محور المقاومة” المترسخ في سورية.

ومما يثير استياء إيران كثيراً حقيقة أن روسيا تسعى إلى تحقيق توازن بين المصالح الإسرائيلية والإيرانية، بينما تشير في الوقت نفسه لطهران بأن موسكو لن تتسامح مع الوجود العسكري الإيراني إلا في ظرفين محددين. أولاً، يجب أن لا يستفيد الوجود العسكري الإيراني من الإنجازات العسكرية والسياسية الأوسع التي تحققت خلال سبع سنوات من الفوضى وسفك الدماء في سورية؛ وثانياً، أنه سيكون من الأفضل كثيراً إذا ساهمت طهران في المزيد من تعزيز مصالح روسيا الجيوسياسية في البلد الذي مزقته الحرب.

على عكس ما يعتقده الكرملين من الناحية الاستراتيجية، فإن إيران تنظر إلى أي قرارات تتخذها روسيا والتي تهدف إلى تقليل نفوذ طهران في سورية على أنها تسيء إلى “محور المقاومة” من خلال تجاهل الأموال التي صرفت والقوة البشرية التي وفرها النظام الإيراني من أجل خاطر سورية والحرب ضد “داعش”.

كل ذلك حدث في وقت غير ملائم لإيران، لأن الولايات المتحدة تستعد لفرض عقوبات اقتصادية عليها بداية من آب (أغسطس) ثم بعد ذلك في تشرين الثاني (نوفمبر). بل إن الوضع الاجتماعي الاقتصادي داخل إيران أكثر خطورة. فقد أدت أزمة العملة الإيرانية، إلى جانب تصاعد مشاعر عدم الرضا لدى الجماهير بشأن فشل الحكومة في معالجة هذه القضايا الملحة، إلى تقريب البلد من الانهيار الاقتصادي. وعلاوة على ذلك، أطلقت إدارة ترامب العنان لجهود دبلوماسية شاملة لإقناع الدول بخفض الواردات النفطية من إيران إلى الصفر.

وهكذا، إذا فشلت إيران في تصدير نفط يكفي لتمويل تكاليف وجودها العسكري في سورية، فإنها ستفقد على الأرجح كل “عمقها الاستراتيجي” الشامل وتقتصر نفسها على مجرد الاحتفاظ بنفوذ سياسي هناك. وبشكل أكثر دقة، يدرك كل من ترامب وبوتين جيداً أن إيران لن تكون قادرة على الاحتفاظ بنفوذها العسكري في سورية إذا كانت تحت ضغوط داخلية وخارجية ضارية.

عندما يتعلق الأمر بسورية، فإن البراغماتية الروسية تملي في هذه المرحلة أن البلد الآن إلى عملية المصالحة السياسية أكثر من حاجته إلى الوجود العسكري للدول الأجنبية. وتماشياً مع هذا المنطق، بدأت كل من روسيا والولايات المتحدة العمل -ولو تكتيكياً- في اتجاه تضييق الخلافات المباشرة حول سورية، وليس بالضرورة لأن مصالحهما قد تتناغم مع بعضها البعض، وإنما في المقام الأول لأنهما تنظران إلى الحالة السورية على أنها اختبار لتحسن العلاقات الثنائية بينهما.

كما ذكرنا من قبل، فإن قمة ترامب-بوتين ربما لم تقرر بعد مصير الوجود العسكري الإيراني في سورية، لكن عدداً كبيراً من المشكلات الاقتصادية التي تواجهها إيران، إلى جانب إعادة العقوبات التي تقوم بنسيقها الولايات المتحدة، ستجعل من الصعب للغاية ومن غير المحتمل تقريباً أن تتمكن طهران من المحافظة على وضعها العسكري في سورية وما وراءها.

تواجه إيران  الآن معضلة كبيرة ومقلقة: إذا تابعت بإصرار سعيها إلى الحفاظ على العمق الاستراتيجي- العسكري في سورية، فإنها ستدخل نفسها في صراع عسكري مباشر مع إسرائيل. وإذا قررت مغادرة سورية، إما بسبب الضغط الداخلي أو بسبب مطالب الولايات المتحدة وروسيا، فسيكون ذلك بمثابة إحراج كامل للقادة الإيرانيين. وفي الوقت الحالي، لم يؤد المسعى الإيراني الخطير في سورية سوى إلى جلب طهران أقرب إلى الفشل الاقتصادي والجيوسياسي.

حسين أغايي جوباني

الغد