أنقرة وواشنطن: من التحالف الإستراتيجي إلى الشراكة المهددة

أنقرة وواشنطن: من التحالف الإستراتيجي إلى الشراكة المهددة

في الوقت الراهن، تشهد العلاقات الأمريكية التركية حالة من التوتر الشديد، العامل المستجد البارز في الأزمة بين الدولتين كان إعلان وزارة الخزانة الأمريكية قبل أيام فرض عقوبات على وزيري الداخلية والعدل في تركيا على خلفية احتجاز القس أندرو برانسون، الذي تتهمه تركيا بارتكاب جرائم دعم لمنظمة «خدمة» التابعة للداعية المقيم في أمريكا فتح الله غولن، وحزب العمال الكردستاني، وهما تنظيمان تعتبرهما أنقرة حركتين إرهابيتين. وتطبيقًا لسياسة الرد بالمثل،  أمر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بتجميد أي أصول في تركيا لوزيري الداخلية والعدل الأمريكيين، وقال أردوغان إن الإجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة بشأن القس أندرو برنسون “لا تليق بشريك استراتيجي، وهي إهانة لتركيا”.

ولا يعد هذا التوتر هو الأول من نوعه في تاريخ العلاقات بين الدولتين في التاريخ المعاصر،  اذ فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حظرا للاسلحة على تركيا في عام 1975  بعد اجتياحها لشمالي قبرص ، وردت تركيا باغلاق جميع القواعد الامريكية فيها ، ومع ذلك لم يكن الامر حقا يشير الى انهيار في العلاقات الامريكية التركية الثنائية على الرغم من ان حل المشكلة لم يتم الا بعد ثلاث سنوات من المفاوضات المطولة. ولكن الظروف مختلفة تماما. فقائمة الخلافات بين الدولتين طويلة، فهي تتعلق بمجمل العلاقات السياسية الخارجية لهما، كما أنها تتعلق، إلى حد كبير، بالشؤون الداخلية التركية، التي جعلها التحالف الطويل بينهما، على مدى سبعين عاما، شديدة التداخل والتأثير، ولكن من طرف واحد هو واشنطن.

بدأت الأزمة الراهنة بين أنقرة وواشنطن على خلفية إطلاق الرئيس ترامب ونائبه تهديدات مباشرة بفرض «عقوبات كبيرة» على تركيا في حال لم تطلق سراح راهب أمريكي يحاكم في تركيا بتهم تتعلق بالإرهاب، وهو ما رفضته أنقرة وأكدت أن قرار القضاء التركي سيكون الفيصل في هذه القضية.​ وبشكل لافت، ركز كتاب أتراك كبار على أن التحول في الموقف الأمريكي والهجوم غير المسبوق لترامب ونائبه على تركيا يشبه إلى حد كبير تعامل الأخير مع ملفي إيران وكوريا الشمالية، محذرين من وجود لوبيات داخل الولايات المتحدة تهدف إلى تدمير العلاقات بين البلدين لصالح أطراف أخرى تسعى لذلك، على حد تعبيرهم.​ ومقابل رفع الولايات المتحدة حدة خطابها لمستوى غير مسبوق مع تركيا وإطلاقها تهديدات مباشرة بفرض عقوبات واسعة عليها، شدد كبار المسؤولين الأتراك على أن بلادهم «لم ولن تخضع أمام التهديدات من أي طرف»، كما أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخاطباً ترامب بأن «تركيا لن تخضع أمام تهديداتكم».​

 والسؤال الذي يُطرح في هذا السياق لماذا تفتعل الولايات المتحدة الأمريكية أزمة دبلوماسية مع شريك استراتيجي كتركيا ؟ فقضية القس الأمريكي أندرو برانسون قضية قضائية بيد المحاكم التركية، وواشنطن تعلم أنها ليست قضية سياسية، فليس لدى الحكومة التركية مصلحة بافتعال أزمة دبلوماسية معها، ويكفيها ما لديها من مشكلات معها حول سوريا والأحزاب الكردية الإرهابية والعلاقات التركية الروسية والإيرانية وغيرها. ولدى واشنطن نفسها سابقة كبرى مع تركيا في الموضوع نفسه والحجج نفسها، فالأدلة التركية القضائية كثيرة جداً على زعيم التنظيم الموازي فتح الله غولن في الانقلاب الأخير 15 تموز/يوليو 2016، وقد طالبت أنقرة واشنطن بتسليمه مراراً، حيث يقيم في ولاية بنسلفانيا الأمريكية، ولكنها تقول إن المسألة بيد القضاء الأمريكي، بالرغم من تقديم وزارة العدل التركية منذ سنتين لأكثر من مئة ألف وثيقة قانونية تدين غولن بالانقلاب السابق وأعمال إرهابية ومخالفة للقانون، فلماذا على أنقرة أن تقبل الحجج الأمريكية بشأن غولن، بينما لا تلزم واشنطن نفسها بالحجج ذاتها بحق القس برانسون؟

إن الحجج التي تقدمها واشنطن تقوم على اتهام أنقرة بأنها تحاكم القس برانسون ظلما وانه بريء وتطالب بالإفراج عنه بدون محاكمة، بل وتطالب كما صرحت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية هيذر ناورت رفع الإقامة الجبرية عن أندرو برانسون واعادته إلى منزله، وهذا موقف غريب وغير مقبول بالقانون التركي ولا الدولي، فإذا كان بريئا كما تقول متحدثة الخارجية الأمريكية، فلا بد أن يثبت ذلك بحكم قضائي وليس بقرار سياسي، إلا إذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية لا تعترف بالقانون ولا بالمحاكم في تركيا.

تعتبر بعض التحليلات تصعيد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونائبه مايكل بنس ضد تركيا في خصوص القسّ المحتجز محاولة للحصول على أصوات ولايات «الحزام الإنجيلي» في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الانتخابات النصفية المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر، ففي هذه القصة بعض عناصر الدراما الدينية اللازمة لذلك الجمهور الأمريكي حيث تحتجز دولة يحكمها حزب ورئيس إسلاميان قسا إنجيليا، وذلك لتعويض الخسائر المتوقعة لترامب على خلفيّة الفضيحة المستمرة للتدخل الروسي المستمر في الانتخابات، وهجمة الديمقراطيين والليبراليين الكبيرة لكسب مقاعد جديدة في الكونغرس، وانفضاض بعض اتجاهات اليمين العنصري عن ترامب. وترى الولايات المتحدة أن تركيا قد ذهبت بعيدا فى معارضتها السياسة الأمريكية، وأنها تجاوزت نقطة اللاعودة، وماضية فى تعميق علاقتها بخصوم الولايات المتحدة وفى مقدمتهم روسيا وإيران والصين، فقد أعلنت تركيا الأسبوع الماضى رفضها طلب الولايات المتحدة بالمشاركة فى فرض عقوبات على إيران، وفى التوقيت نفسه كانت تركيا تشارك فى الجولة العاشرة فى مباحثات سوتشي، وتعهدت تركيا بأن تلعب دورا رئيسيا فى احتواء معظم المعارضة السورية المسلحة، بل مضت تركيا فى اتفاق شراء منظومة صواريخ إس 400 من روسيا، لتكون الدولة الوحيدة فى حلف الناتو التى تشترى أسلحة متطورة من روسيا، وفشلت كل المحاولات الأمريكية فى إلغاء تلك الصفقة.

 أما الأزمة من المنظور التركي، فهناك عدة عوامل ساهمت في نضجها منها: فشل الرهان التركي على حلفائه في حلف الناتو وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية فعندما أسقط سلاح الجو التركي المقاتلة الروسية من طراز  “سوخوى” فى 24تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015، أدان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشدة إسقاطها على الحدود بين سوريا وتركيا ووصفه بأنه “طعنة في الظهر” من “شركاء الإرهابيين”. وهدد بإسقاط أى طائرة تركية تقترب من السماء السورية، فاستعان رجب طيب أردوغان بحلف شمال الأطلسي والولايات المتحدة، وجاءت الإجابة عكس ما يرجوه بأن الحلف لا ينوى التدخل، ليجد نفسه وحيدا فى مواجهة روسيا، لكن التحول الأكبر كان محاولة الانقلاب الفاشلة ضده فى 15 يوليو 2016، والتى يعتقد أردوغان أن إدارة الرئيس الأمريكي السابقة ضالعة فيها، على الأقل بشكل غير مباشر، واتهم غريمه فتح الله كولن المقيم فى الولايات المتحدة بتدبير محاولة الانقلاب، ورفضت الولايات المتحدة طلب أردوغان بتسليمه، هنا ازدادت الفجوة في العلاقة بين الدولتين، فقد شعر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن الولايات المتحدة تستهدف تصفيته شخصيّا، وتعمقت الهواجس مع الدعم العسكرى الأمريكى للقوات الكردية فى شمالي سوريا، والتى يراها أردوغان خط أحمر  يهدد وحدة التراب التركي، ولم يتمكن أردوغان من إثناء الولايات المتحدة عن زيادة اعتمادها على أكراد سوريا وتدريب عشرات الآلاف منهم على أسلحة متطورة، وأخذ يلوح أردوغان بأنه سيغير وجهته بتعزيز علاقته مع روسيا، والتى بدأت بتوقيع عدد من الاتفاقيات، من بينها إقامة خط غاز السيل الجنوبى من روسيا إلى جنوب ووسط أوروبا مرورا بتركيا بدلا من أوكرانيا، إلى جانب بناء محطات نووية وزيادة حجم التبادل التجاري، كما يعتقد أردوغان أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين وراء الأزمة الاقتصادية الأخيرة، والتى أدت إلى تدهور سعر الليرة التركية، وأخذت الهواجس تزداد، ومع ذلك كانت العلاقات الاقتصادية والعسكرية الوطيدة بين تركيا وكل من الولايات المتحدة وأوروبا تحول دون انفلات الغضب إلى أمد لا يمكن السيطرة عليه، لأن الطرفين سيخسران كثيرا، فالاقتصاد التركى يعتمد بصورة كبيرة على الاستثمارات الأمريكية والأوروبية، وفى المقابل هناك مخاوف أوروبية من الجالية التركية الكبيرة وأهم خطوط دفاعها من جهة الشرق.. كل هذه السدود حجبت الغضب لسنوات، لكن الشروخ اتسعت والهواجس تراكمت وأصبحت أضخم من أن يتم كبتها، وجاءت سياسة ترامب التصادمية لتوسع من حجم الصدع، فقد طلب ترامب من أردوغان إما أن يكون معه أو ضده، فتقلصت مساحة المراوغة أمام أردوغان الذى كان يريد كسب المزيد من الوقت، واستمراره فى وضع قدم مع روسيا وأخرى مع الولايات المتحدة، وأن يقفز بين الحبال، معتمدا على مهاراته والوضع الجغرافى المتميز لتركيا وأهميتها لحلف الناتو، وهكذا وجدت كل من تركيا والولايات المتحدة أن ساعة الحساب قد اقتربت.

هذه الأزمة الدبلوماسية في سياقها الأمريكي لها أسبابها العميقة بين الدولتين، والذي يعود إلى عقود من النفوذ الأمريكي القويّ في المؤسسة العسكرية التركية، وإلى التغيّرات الكبرى التي شهدتها السياسة الدولية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وحدث الهجوم على برجي التجارة في نيويورك في أيلول/سبتمبر عام 2001، وما تبعه من احتلال لأفغانستان في ذات العام والعراق في 9 نيسان/أبريل عام 2003م، ودخول حقبة العداء للمسلمين والإسلام في العالم كبديل عن النزاع مع المنظومة الشيوعية السابقة. وهذا يؤكد بأن الأيدلوجية السياسية مستمرة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة ولكن وليس تدعي المؤسسات الفكرية والسياسية الغربية بأن الأيدلوجية انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي وانتهاء مرحلة الحرب الباردة، الأزمة الدبلوماسية الأمريكية التركية تؤكد مجددًا، أن الايديولوجية مازالت تفعل فعلها في عالم السياسة، وليس صحيحا انتهت بنهاية الحرب الباردة ، فهي تجدد نفسها من اقتصادية اجتماعية الى دينية. هذه التصدّعات الفكرية الكبيرة في السياسة الدولية تكاد تصل إلى نتائجها الأخيرة مع عودة النفوذ الروسيّ بطرق أخرى، وظهور التأثير الصيني، وصعود الفاشيات والاتجاهات العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وقراءة الخلاف التركي ـ الأمريكي يجب أن تتم ضمن هذه السياقات كلها.

معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية