العلاقات الأميركية الإيرانية بعد فرض العقوبات.. احتمالات التصعيد والاحتواء

العلاقات الأميركية الإيرانية بعد فرض العقوبات.. احتمالات التصعيد والاحتواء

أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في السابع من آب/ أغسطس 2018، فرض حزمة أولى من العقوبات الاقتصادية على إيران، وحذّر الدول والشركات التي تُبقي على تعاملات تجارية معها بـ “عواقب وخيمة”، مطالبًا الجميع بـ “الانصياع التام” في تنفيذ جميع العقوبات. وكان ترامب قرّر، في أيار/ مايو 2018، الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، المبرم عام 2015، تحت إدارة سلفه، باراك أوباما، وإعادة فرض عقوبات عليها، بذريعة أن الاتفاق “سيء”، ولا يمكنه “منع تصنيع قنبلة نووية إيرانية”.

تفاصيل القرار
مع إعلان الحزمة الأولى من العقوبات الأميركية، تكون الفترة الانتقالية التي منحتها إدارة ترامب للشركات العالمية، لتصفية تعاملاتها مع إيران قد دخلت حيز التنفيذ، استنادًا إلى بيان وزارة المالية الأميركية في أيار/ مايو 2018، الذي حدد آلية إعادة فرض العقوبات على إيران. ونص البيان على أن إعادة فرض العقوبات سيتم على مرحلتين: الأولى، تصبح سارية المفعول بعد فترة تسعين يومًا، وتنتهي في السادس من آب/ أغسطس 2018. أما الثانية، فتدخل حيز التنفيذ بعد ستة أشهر، وتنتهي في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018.
تشمل المرحلة الأولى منع الحكومة الإيرانية من التعامل بالدولار الأميركي في معاملاتها التجارية الدولية، كما تشمل العقوبات التجارة بالذهب والمعادن النفيسة، بيعًا وشراء، وتحظر العقوبات الجديدة التوريد والنقل للغرافيت والمعادن الخام، أو شبه المصنعة، كالألمنيوم والصلب، وكذلك الفحم وبرامج الكمبيوتر المرتبطة بالصناعة. وتتسع العقوبات، لتشمل قطاعَي السيارات والطيران التجاري، كما يشمل الحظر الواردات الإيرانية إلى الولايات المتحدة، مثل السجاد والفستق وبعض المواد الغذائية. أما المرحلة الثانية، فتمسّ قطاع الطاقة، والبنك المركزي الإيراني، ومشغّلي الموانئ في البلاد، وشركات الشحن وبناء السفن، فضلًا عن خدمات التأمين والقطاع المالي. ونصحت الولايات المتحدة دولًا حليفة لها ببدء تخفيض مشترياتهم من النفط الإيراني، على أمل إيصالها إلى الصفر في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2018، بهدف حرمان طهران من مصدرها الرئيس للدخل والعملات الأجنبية.
وقد لخّص ترامب المرحلة الجديدة في سياق التصعيد مع إيران، في تغريدةٍ له بالقول: “هذه هي العقوبات الأشد على الإطلاق، وستصل في تشرين الثاني/ نوفمبر إلى مستوىً أعلى. كل من يجري معاملات مع إيران لن يتعامل مع الولايات المتحدة”. وقال في بيان إعلان العقوبات الجديدة على طهران: سنعمل عن كثب مع الدول التي لها تعاملاتٌ مع إيران، لضمان الانصياع التام. وسوف يواجه كل من لا يلتزم، أفرادًا وكياناتٍ، عواقب وخيمة. وأضاف، من دون أن يهتم بتقديم أي دليلٍ على ما يقول: لقد استخدم النظام الإيراني الأموال التي حصل عليها في إطار الاتفاق النووي لعام 2015 “لبناء صواريخ قادرة على حمل أسلحة نووية، وتمويل الإرهاب، وتغذية الصراعات في الشرق الأوسط وأماكن أخرى”.

الخلفيات
لم يخفِ ترامب، منذ كان مرشحًا للرئاسة، معارضته الاتفاق النووي مع إيران، ولم يتوقف

يومًا عن انتقاد إدارة أوباما بسببه. وقد أعاد تأكيد أسباب رفضه الاتفاق في البيان الذي تلاه، عندما فرض الحزمة الأولى من العقوبات على إيران. وجاء فيه: “فشلت خطة العمل الشاملة المشتركة [الاتفاق النووي] في تحقيق الهدف الأساسي لها، والمتمثل في سد جميع الطرق المؤدية إلى قنبلة نووية إيرانية، كما أنها ألقت بطوق نجاة مالي لدكتاتورية قاتلة، مستمرة في نشر الدماء والعنف والفوضى”.
وبناءً على ذلك، حدّدت إدارة ترامب، في أيار/ مايو 2018، عبر وزير الخارجية، مايك بومبيو، اثني عشر شرطًا لبدء مفاوضات جديدة مع طهران، تفضي إلى اتفاق جديد. وتمثلت أهم الشروط في إنهاء إيران جميع عمليات تخصيب اليورانيوم والبلوتونيوم، وفتح جميع منشآتها المدنية والعسكرية أمام المفتشين الدوليين. كما جاء فيها ضرورة وقف إيران برامجها لتطوير صواريخ باليستية، وكذلك وقف نشاطاتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، والتوقف عن تهديد خطوط الملاحة الدولية، وكذلك دول المنطقة. واشترط بومبيو إنهاء طهران دعمها تنظيمات تعتبرها الولايات المتحدة إرهابية، كحزب الله وحركتَي حماس والجهاد الإسلامي، وكذلك وقف دعم الحوثيين في اليمن، وسحب جميع القوات والميليشيات التابعة لها من سورية، والامتناع عن التدخل في الشؤون العراقية، والإفراج عن جميع المواطنين الأميركيين، ومواطني الدول الحليفة المعتقلين، أو المفقودين داخل الأراضي الإيرانية.

الأهداف
تسعى إدارة ترامب، عبر فرض عقوبات صارمة على طهران، إلى إرغامها على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، لإصلاح ما تراه واشنطن عيوبًا في الاتفاق النووي لعام 2015، وللتباحث معها بشأن دورها الإقليمي. وبحسب ترامب، فإن النظام الإيراني “يواجه خيارين: تغيير سلوكه المهدّد والمزعزع للاستقرار وإعادة الاندماج في الاقتصاد العالمي، أو الاستمرار في مسار العزلة الاقتصادية”. وأضاف، إنه ما زال “منفتحًا للتوصل إلى صفقة أكثر شموليةً، تتعامل مع المدى الكامل لنشاطات النظام (الإيراني)، بما في ذلك برنامج الصواريخ الباليستية ودعمه الإرهاب”.
وعند الحديث عن الأهداف، لا ينبغي أن نسقط الفائدة المرجوة لإسرائيل التي قادت اللوبي الأهم ضد الاتفاق النووي في مرحلة أوباما، والتي يتفاخر رئيس حكومتها (بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية) أنه هو الذي أقنع ترامب بإلغائه.
وتراهن إدارة ترامب على أن الضغوط الاقتصادية التي ترزح تحتها طهران، وانهيار العملة الإيرانية (الريال)، والتي أفضت إلى اضطراباتٍ شعبيةٍ، ستجبر النظام الإيراني على المجيء إلى طاولة المفاوضات، من دون شروط مسبقة. وبحسب مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، فإن فرصة إيران الوحيدة للنجاة من العقوبات هي قبول عرض ترامب بالتفاوض على اتفاقٍ يضمن “التخلي عن برامجها للصواريخ الباليستية والأسلحة النووية بشكل كامل، يمكن التحقق منه فعليًا”. وترفض إدارة ترامب تعليق العقوبات أولًا كما تطلب إيران شرطًا للتفاوض، ومنطقها في ذلك أن إبقاء الضغط على إيران، وحرمانها من موارد اقتصادية يجعل إمكانية امتثالها للشروط الأميركية أكبر. وعلى الرغم من أن الضغوط الاقتصادية على طهران قد تزعزع النظام الإيراني، ما زالت واشنطن تؤكد أن هدفها هو “تعديل سلوك” إيران لا “تغيير” نظام الحكم فيها. وأن ترامب مستعد للقاء الزعماء الإيرانيين في أي وقت، في مسعىً إلى التوصل إلى اتفاق جديد.

شروط نجاح الإستراتيجية الأميركية
حتى يتحقق الهدف الأميركي بإرغام إيران على العودة إلى طاولة المفاوضات، يتطلب ذلك

التزامًا دوليًا، أوروبيًا على وجه الخصوص، بالعقوبات الأميركية على طهران. مبدئيًا، لا يبدو أن روسيا والصين ستلتزمان، فإيران بالنسبة إلى روسيا التي تخضع بدورها لعقوبات أميركية هي حليف. أما الصين فهي مستورد كبير للنفط الإيراني. وأكثر الشركات الصينية التي تتعامل مع إيران مملوكة للدولة، ولا تخشى العقوبات، ولذلك يرجح أن تستمر في التعامل مع طهران. أما الهند، والتي تعتبر من أكبر مشتري النفط الإيراني، فتتعرّض لضغوط أميركية شديدة، لتقليص مشترياتها من النفط الإيراني، ولا سيما في ظل العلاقات المتينة والإستراتيجية التي تربطها بالولايات المتحدة وإسرائيل. كما تتعرّض تركيا التي تربطها بإيران علاقات اقتصادية واسعة، لضغوط. وتتحفظ الدولتان، الهند وتركيا، على العقوبات الأميركية.
أما الأوروبيون فهم الأكثر انكشافًا أمام الضغوط الأميركية، وذلك على الرغم من معارضتهم قرار فرض العقوبات على إيران، وتعهدهم بالتصدي له. وقبل يوم واحد من دخول المرحلة الأولى من العقوبات الأميركية على إيران، أعلن وزراء خارجية ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، ومفوضة الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي، في بيان مشترك، تعهدهم بالعمل على الحفاظ على تدفق الأموال وصادرات النفط والغاز بين دولهم وإيران. كما فعّلوا قانونًا يعرف بـ “قانون المنع” لحماية الشركات الأوروبية من أي عقوباتٍ أميركيةٍ، بسبب تعاملها مع إيران، فضلًا عن نصه على عدم اعتراف الاتحاد الأوروبي بأي أحكام قضائية، تضع تلك العقوبات موضوع التنفيذ. وكان القانون سنّ عام 1996 لحماية الشركات الأوروبية التي كانت تعمل مع كوبا حينها من العقوبات الأميركية. وينص على منع شركات الاتحاد الأوروبي من الالتزام بالعقوبات الأميركية، ما لم تحصل على تصريح استثنائي من المفوضية الأوروبية.
مع ذلك، من المستبعد أن يتمكن الأوروبيون من التصدّي للعقوبات الأميركية، وإقناع شركاتهم الكبرى بمواصلة العمل مع إيران، فقد سارعت شركات أوروبية كبرى كثيرة إلى وقف علاقاتها بإيران، كشركة النفط الفرنسية “توتال”، وشركتَي “رينو” و”بي إس أي” PSA الفرنسيتين لصناعة السيارات، وكذلك شركة دايملر الألمانية لصناعة السيارات. وتنطلق حسابات تلك الشركات الأوروبية، وأكثر من مئة أخرى، من أن السوق الإيرانية صغيرة جدًا مقارنة بالسوق الأميركية الواسعة، والتي ترتبط تلك الشركات بها عبر مصالح واستثمارات ضخمة. وثمّة مؤشرات على بوادر امتثال أوروبية للتهديدات الأميركية؛ إذ أدخل البنك المركزي الألماني تغييرًا في قواعد عمله في تموز/ يوليو 2018، بما قد يعوق تحويل مئات الملايين من اليورو من بنك إيراني في هامبورغ إلى إيران.
ومن ثم، من الصعب جدًا المراهنة على موقف أوروبي صارم وحاسم أمام العقوبات الأميركية. وبحسب مسؤولين أميركيين، تبدو واشنطن مطمئنة إلى أن أوروبا ستلتزم في النهاية بالعقوبات على إيران. وبحسب مستشار الأمن القومي الأميركي، جون بولتون، فإنه حتى إن كانت “الحكومات الأوروبية ما تزال متمسّكة بالاتفاق النووي، لكن شركاتها تهرب منها [إيران] بأسرع ما يمكن، لذلك فإن أثر العقوبات الأميركية مستمر على الرغم من ذلك [تمسكها بالاتفاق]”.

الموقف الإيراني
تصرّ طهران على أنها لن تخضع للابتزاز الأميركي، وعلى أنها ستتجاوز العقوبات، ولن تقبل بإعادة التفاوض تحت التهديد، خصوصًا في ظل التأكيدات الروسية والصينية والأوروبية بعدم الالتزام بها، واحترام الاتفاق النووي، ما دامت إيران تحترمه، غير أن الالتزام الأوروبي، كما بيّنا، غير مضمون. وهو ما دفع إيران إلى التهديد بإغلاق مضيق هرمز، لمنع تدفق نفط الخليج عبره، وقد ردّت الولايات المتحدة على ذلك بتحذير طهران من مغبّة تهديد خطوط الملاحة الدولية في المنطقة. في المقابل، تعيش إيران على وقع غليان شعبي، واحتجاجات، من جرّاء تصاعد الضغوط الاقتصادية. ومنذ نيسان/ أبريل 2018، فقد الريال الإيراني نصف قيمته في ظل التهديدات باستئناف العقوبات الأميركية، كما ارتفعت معدلات التضخم ارتفاعًا ملحوظًا. وكان صندوق النقد الدولي قدّر، في آذار/ مارس 2018، أن احتياطي العملات الأجنبية الإيرانية انخفض إلى 110.7 مليارات دولار أميركي في العام المالي 2017، وتوقع أن ينخفض ذلك الاحتياطي عام 2018 إلى 97.8 مليار دولار، وهو ما يكفي لتمويل 13 شهرًا فقط من الواردات.
أمام هذا الواقع، وعلى الرغم من نبرة التحدي، تواجه إيران معضلة حقيقية، وقد بات النظام يخشى تفجّر اضطرابات شعبية واسعة، قد تؤثر في استقراره، خصوصًا إذا ما تراجع

الأوروبيون أمام الضغوط الأميركية. ولعل في تلميح الرئيس الإيراني، حسن روحاني، إلى ترحيب بلاده “بالحوار والمفاوضات”، وإلى أنه ليس لديه “شروط مسبقة، وإذا كانت الحكومة الأميركية مستعدةً فلنبدأ الآن”، ما يدلّ على أن الموقف الإيراني يتراجع فعليًا. وفي كل الأحوال، تبدو المواجهة الإيرانية – الأميركية أمام احتمالين: الأول، أن تفشل الضغوط الأميركية في دفع إيران إلى طاولة المفاوضات. وفي هذه الحال، تتصاعد الضغوط الشعبية على النظام الإيراني، بسبب استمرار العقوبات الأميركية، ما قد يدفع إيران إلى الانسحاب من الاتفاق النووي، واستئناف تخصيب اليورانيوم، مع تصعيد نشاطاتها لزعزعة المصالح الأميركية ومصالح حلفائها في المنطقة واستهدافها، ما يزيد من احتمالات المواجهة مع الولايات المتحدة. الاحتمال الثاني، وهو المرجّح، أن يلجأ الطرفان إلى مفاوضاتٍ سرّية، ويتوصلا إلى اتفاق جديد، وهو الأمر الذي طلبه ترامب. ويبدو أن الاتصالات جارية عبر سلطنة عُمان، وربما دول أخرى. فترامب مهتم أكثر بتحقيق اتفاق جديد، غير اتفاق أوباما، لكي يبدو في أعين مصوتيه كمنْ حقق إنجازًا عبر سياسة العقوبات الصارمة، حتى لو كان ضمن الإطار نفسه، مع بعض الشروط التحسينية الهامشية.

خاتمة
كما في أماكن أخرى، أطلق ترامب سياسة مغامرة تتوافق مع مواقف إسرائيل واليمين في الولايات المتحدة، ومن الصعب معرفة نتائجها. لقد بدأ الضغط على إيران، بعد أن استكملت مهمة إنقاذ مجرمي الحرب الحاكمين في سورية بالتعاون مع روسيا، ولم تعد هذه العقوبات المـتأخرة تفيد الثورة السورية والشعب السوري الذي لا يدخل في حساباتها. وقد تكون العقوبات ضاغطةً على إيران في العراق. أما داخليًا في إيران، فيتعرّض النظام الإيراني لضغط داخلي شديد، لا تعرف نتائجه بعد. الواضح حاليًا أن سياسة ترامب تزيد من التباعد بينه وبين الحلفاء الأوروبيين، كما تقلل من إمكانيات الحوار لحل الخلافات، بالطرق السلمية في الخليج.

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات