الحكومات العراقية المتعاقبة تتناقل ميراث الأزمات المتفاقمة

الحكومات العراقية المتعاقبة تتناقل ميراث الأزمات المتفاقمة

بغداد – يسير العراق بصعوبة نحو تشكيل حكومة جديدة تأخّرت لأشهر بسبب ما شاب انتخابات مايو الماضي من شبهات تزوير فرضت إعادة جزئية لفرز الأصوات يدويا لم تفض إلى تغيير يذكر في النتائج، حيث بدا أنّها كانت شكلية إلى حدّ بعيد.

وستكون النتائج ذاتها سببا في تعسّر ميلاد الحكومة بفعل تقارب الكتل الفائزة وعدم وجود فائز كبير يمكنه أن يجمع حوله شتات كتل أقل حجما في عدد المقاعد البرلمانية المتحصّل عليها بالانتخابات، لتشكيل الكتلة البرلمانية الأكبر القادرة على تشكيل الحكومة واختيار من يرأسها.

وبعد اجتياز امتحان التشكيل العسير، ستكون الحكومة الجديدة، مثل سابقتها، أمام تركة من الأزمات والمشاكل المعقّدة، حيث اعتادت الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سنة 2003 على ترحيل القضايا وتأجيلها، وفي أحسن الأحوال معالجتها بطرق ترقيعية لا تنهيها بشكل جذري بل تحجبها إلى حين، ما جعل البلد اليوم أمام تراكم من المعضلات المستعصية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

وحين تسلّم رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي سنة 2014 رئاسة الحكومة من سلفه نوري المالكي، كان أمام كارثة أمنية كبرى ذات امتدادات اجتماعية واقتصادية متشابكة، تمثّلت في سيطرة تنظيم داعش على ما يقارب ثلث مساحة البلاد وما سببّه ذلك من مآسٍ لأعداد من سكان محافظات بشمال وغرب البلاد.

ولم يرث العبادي مؤسسة أمنية وعسكرية شبه منهارة فحسب، بل ورث خزينة دولة تقول مصادر إنّها كانت شبه خاوية. وازداد الوضع الاقتصادي والمالي، ومن ورائه الوضع الاجتماعي تعقيدا من التراجع الكبير الذي بدأت في تلك الفترة تشهده أسعار النفط مصدر الدخل الوحيد للعراق.

ومن المفارقات أنّ المهمّات العسيرة التي وجد العبادي نفسه إزاءها، آنذاك وعلى رأسها تجميع صفوف القوات المسلّحة ووقف زحف تنظيم داعش والمبادرة لاحقا باستعادة المناطق التي احتلّها التنظيم، وفّرت له طيلة أغلب فترات ولايته عذرا عن ضعف الأداء الاقتصادي والاجتماعي لحكومته، وساعدت في تجميع صفوف العراقيين خلفه حيث كان اهتمامهم الأوّل منصبّا على مواجهة التحدّي الأمني متمثّلا بالتنظيم الدموي.

وحقّق العبادي إنجازا كبيرا بقيادته الموفّقة للحرب على تنظيم داعش والتي أفضت إلى هزيمة التنظيم وطرده من المدن والمناطق التي احتلها، وعلى رأسها، تكريت مركز محافظة صلاح الدين، وكل من الفلوجة والرمادي بمحافظة الأنبار، وصولا إلى المعقل الأهم لداعش في العراق، مدينة الموصل مركز محافظة نينوى.

وعن تلك الحرب ترتّب ميراث بالغ الثقل سيتمّ تمريره إلى الحكومة القادمة، ويتمثّل في الدمار الهائل الذي طال البنى التحتية والمرافق الخاصّة والعامّة في المناطق التي دارت فيها الحرب على تنظيم داعش والتي سيتعيّن على الحكومة المرتقب تشكيلها، ترميمها وإعادة إعمارها، ومساعدة من نزح من سكانها على العودة إليها واستئناف حياتهم الطبيعية فيها.

وسيتطلّب ذلك توفير موارد مالية ضخمة، سبق لوزارة التخطيط في حكومة العبادي أن قدّرتها بما يفوق الـ88 مليار دولار، دون وجود أفق حقيقي لتجميع ذلك المبلغ في ظلّ المصاعب المالية والاقتصادية التي يعيشها العراق الذي يواصل اعتماده على النفط كمصدر شبه وحيد للدخل.

الحرب على تنظيم داعش غطت ظرفيا على ضعف أداء حكومة حيدر العبادي وأتاحت له تحقيق إنجاز مشهود

ولم يمنع انشغال العراقيين بالحرب ضدّ تنظيم داعش من التفاتهم لهمومهم الحياتية وأوضاعهم الصعبة فخرجوا في مظاهرات احتجاجية شهدت العاصمة بغداد أكبرها على الإطلاق، ووصلت في ربيع سنة 2016 إلى حدّ اقتحام المنطقة الخضراء بالغة التحصين والتي تضمّ مقرّات السفارات الأجنبية ومؤسسات الدولة ومن بينها مقر البرلمان الذي تمكّن عدد من المحتجين من الوصول إليه واقتحام مبناه تعبيرا عن الغضب من نوابه المتهمين شعبيا بالانشغال عن خدمة القضايا العامة بتأمين مصالحهم الشخصية والحزبية.

ولم تفض الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها ولاية العبادي المنقضية وعادت مؤخّرا لتندلع بقوة في محافظات وسط وجنوب العراق على خلفية أزمات الكهرباء والماء والبطالة، إلى تحسّن يذكر في الأوضاع الاجتماعية، لكنّها فتحت بقوّة ملف الفساد المستشري في جميع مفاصل الدولة العراقية، ولفتت النظر بشكل غير مسبوق إلى مخاطره وحتمية مقاومته والتصدّي له.

ورغم الوعود الكثيرة التي صدرت عن رئيس الوزراء وغيره من كبار المسؤولين بالتصدّي لآفة الفساد ومحاسبة المسؤولين عنها إلاّ أنّ ما تحقّق منها كان ضئيلا وسطحيا، بسبب اصطدام جهود محاربة الظاهرة بنفوذ شخصيات كبيرة في الدولة توجّه إليها أصابع الاتهام دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها وفتح ملفاتها وعرضها على القضاء.

ومن هنا فإنّ ملف الفساد سيكون بدوره من أعقد الملفّات المرحّلة إلى الحكومة العراقية القادمة ضمن الإرث الثقيل للحكومة الحالية.

ورغم كثرة وتعقّد الملفات التي تنتظر الحكومة العراقية الجديدة، ورغم عظمة المسؤوليات التي تنتظرها، يواصل الفرقاء السياسيون العراقيون الفائزون بالانتخابات سباقهم المحموم للظفر بامتياز تشكيل تلك الحكومة وقيادتها عبر محاولاتهم تشكيل الكتلة البرلمانية الأكثر عددا.

ولا يزال رئيس الحكومة الحالي حيدر العبادي من كبار المرشحين للمنصب الذي يسعى إليه من خلال تحالف ائتلافه الانتخابي “النصر” مع تحالف “سائرون” المدعوم من زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، و”تيار الحكمة” بقيادة عمار الحكيم، وائتلاف “الوطنية بقيادة إياد علّاوي، وقد شكلوا معا إلى حدّ الآن ما سمّوه “نواة الكتلة الأكبر” ويسعون إلى اجتذاب فائزين آخرين بالانتخابات إلى نواتهم. وإذا نجح العبادي في ذلك، فسترث حكومته الجديدة ذات الملفات التي حاولت حكومته الأولى معالجتها دون تحقيق نجاح كبير في ذلك، عدا بعض الاستثناءات.

العرب