مهمة لا يمكن إيقافها: لماذا تدير الـ CIA سياسة أمريكا الخارجية؟

مهمة لا يمكن إيقافها: لماذا تدير الـ CIA سياسة أمريكا الخارجية؟

بدءًا من غارات الطائرات بدون طيار، وصولًا إلى السجن والتعذيب، كانت وكالة المخابرات المركزية CIA هي من تحرك خيوط السياسة الخارجية الأمريكية منذ هجمات 9/11؛ وإذا كان التاريخ دليلًا من الممكن الاستعانة به، فإن هذه الوكالة هي التي ستقرر مجريات الأمور في الشرق الأوسط لسنوات قادمة.

كان دنيس بلير يحك جلده باحثًا عن معركة. وفي مايو 2009، كان أميرال البحرية الأمريكية المتقاعد هذا يشغل منصب مدير الاستخبارات الوطنية (DNI). ومن الناحية النظرية، يعطي هذا المنصب لبلير إمكانية الإشراف على وكالة المخابرات المركزية، وكوكبة واشنطن من وكالات التجسس الـ 16 الأخرى. أما في الواقع، فقد كان هذا المدير عاجزًا حتى على تعيين كبير الجواسيس الأمريكيين في دولة ما. وعلى مدى عقود، كانت هذه المهام تمنح تقليديًا لرئيس محطة وكالة المخابرات المركزية (CIA) في جميع العواصم، من لندن إلى بيروت.

ولكن، بلير رأى أن من حقه الحصول على هذه المهمة؛ ولذلك تجاوز البيت الأبيض، وأرسل أمرًا مكتوبًا يقول إن مدير الاستخبارات الوطنية هو من سيكون مسؤولًا من الآن فصاعدًا على تحديد معظم كبار الجواسيس الأمريكيين في الدول الأخرى. وما هو أهم من ذلك، هو أن هذا القرار أشار إلى إمكانية أن يكون الجواسيس تابعين لأي من وكالات مجتمع الاستخبارات. ورغم قول بلير إن المعينين سيستمرون في أن يكونوا دائمًا تقريبًا من وكالة المخابرات المركزية؛ إلا أن هذا القرار لم يرق لمدير الوكالة آنذاك، ليون بانيتا، الذي رد بإرسال برقية لجميع محطات وكالة الاستخبارات المركزية في الخارج، يقول لهم فيها بأن يتجاهلوا مذكرة بلير تمامًا.

وقد أطلقت وسائل الإعلام اسم “حرب عصابات” على هذه المعركة؛ إلا أن هذه الحرب لم تكن متناظرة بالتأكيد، وما حدث هو أن مكتب بلير العاجز وضع جانبًا ببساطة من قبل CIA العازمة على تأمين قبضتها على السلطة.

وبعد بضعة أشهر، عندما كان العام الأول للرئيس باراك أوباما في منصبه يقترب من نهايته، رأى بلير أن لديه فرصة أخرى لإعادة التأكيد على حقوق مكتبه، وفقًا لما كتبه الصحفي مارك مازيتي في كتابه “طريق السكين”، الذي يوفر وصفًا تفصيليًا لتلك الفترة. لقد ورث أوباما عددًا من برامج العمليات السرية للغاية من الرئيس السابق جورج دبليو بوش، وأراد الرئيس الجديد القيام باستعراض كامل لكل واحدة من هذه العمليات. وشملت تلك البرامج مسائل من قبيل جهود وكالة الاستخبارات المركزية لعرقلة برنامج إيران النووي، واستخدام الوكالة لطائرات بدون طيار لقتل متشددين داخل باكستان. ومرة أخرى، ظهرت الشقوق في سلطة بلير؛ حيث إن مدير الاستخبارات الوطنية كان محوريًا بالنسبة لاستخبارات الرئيس وغيره من القادة الحكوميين رفيعي المستوى، وسمح له بالتدخل في المسائل المتعلقة بالميزانية، ولكنه لم يمنح أي قيادة أيًا من البعثات السرية في الخارج.

وقد كانت فكرة أن وكالة الاستخبارات المركزية لديها خط مباشر مفتوح مع البيت الأبيض فيما يتعلق ببرامجها السرية أمرًا مثيرًا لقلق بلير. وبالنسبة له، كان هذا الخط بمثابة طريقة مغرية لاتخاذ خيارات سهلة من قبل واضعي السياسات غير المتأكدين من كيفية التفاوض حول قضايا معقدة مثل قضية إيران. وأراد بلير أن تكون كل برامج الوكالة قابلة للنقاش بالكامل قبل اتخاذ القرارات النهائية حول ما إذا كانت ستستمر، يتم الحد منها، أو حتى ما إذا كان سيتم التخلي عنها. وأما بانيتا، فقد كان رأيه مخالفًا، وكانت حجته أن محاولات فرض المبادئ والإجراءات الرسمية من شأنها أن تقوض فعالية برامج الوكالة.

وفي خريف عام 2009، وقعت الإدارة رسميًا على كل جهود وكالة المخابرات المركزية السرية؛ مما مهد الطريق لحصول الوكالة على موارد أكثر من أي وقت مضى. وفي عام 2013، على سبيل المثال، طلبت الوكالة تمويلًا بمقدار 14.7 مليار دولار، بعد أن كان تمويلها في عام 1994 لا يتجاوز الـ 4.8 مليارات دولار، وفقًا لصحيفة واشنطن بوست والوثائق المسربة من قبل عميل المخابرات السابق، إدوارد سنودن.

وفي نفس الخريف، عندما طلب بانيتا من البيت الأبيض توسيع حرب وكالته السرية ضد القاعدة وحلفائها بشكل ملحوظ، اعتقد رئيس وكالة المخابرات المركزية أنه في أحسن الأحوال قد يحصل على خمسة من الأشياء العشرة التي كان قد طالب بها، وفقًا لما كتبه دانيال كاليدمان في كتابه “قتل أو اعتقال”. ولكن بدلًا من ذلك، حصل بانيتا على كل ما طلبه، بما في ذلك المال لشراء المزيد من الطائرات بدون طيار المسلحة، وإذن صريح باستخدامها فوق مساحات واسعة من باكستان. وقال أوباما صراحةً لمساعديه: “وكالة المخابرات المركزية تحصل على ما تريد”. وبعد ذلك بسبعة أشهر، أجبر بلير على التخلي عن منصبه.

ومنذ إنشائها في عام 1947، تطورت وكالة المخابرات المركزية بشكل مطرد من وكالة مكرسة للتجسس على الحكومات الأجنبية، إلى وكالة أولويتها الحالية هي تتبع وقتل مسلحين أفراد في عدد متزايد من الدول. ويعكس تزايد نطاق عمل الوكالة، وعمق تأثيرها في معركة مكافحة الإرهاب، تنامي مهارتها في صيد أعداء أمريكا من باكستان إلى اليمن. وما هو أكثر إثارة للدهشة، كان براعة وكالة الاستخبارات المركزية في الإبحار عبر الفضائح العامة، وتفوقها بدهاء على الـ DNI والمعارضين لها في البيت الأبيض، والكونغرس، ووزارة الدفاع، وبقية أجهزة الاستخبارات. ومن خلال المكائد، تمكنت الوكالة من إضعاف أو القضاء على القوات المنافسة، وتعزيز ثقلها وسلطتها.

وللتأكيد، كان لتمتع وكالة الاستخبارات المركزية بسلطة وحكم شبه ذاتي تداعيات عالمية. وقد كانت هذه الوكالة هي منشأ الكثير من الأمور التي ربط العالم أمريكا بها منذ هجمات 9/11، بما في ذلك هجمات الطائرات بدون طيار في منطقة الشرق الأوسط، وشبكة السجون السرية في جميع أنحاء العالم، والتعذيب الذي وقع داخل جدران هذه السجون. ونظرًا لهيمنتها أيضًا، يبدو أن لوكالة الاستخبارات المركزية دورًا كبيرًا في تحديد كيفية تصرف الولايات المتحدة ونظرها لما يحدث في الخارج. ومع تواجد الوكالة في طليعة حرب أمريكية جديدة تلوح في أفق الشرق الأوسط، فإن تفوق هذه الوكالة على المحك مرة ​​أخرى.

اليوم، وكالة الاستخبارات المركزية هي رأس رمح الجهد المتزايد للإدارة في صد الدولة الإسلامية، التي تسيطر على مساحات واسعة من العراق وسوريا. وقد ساعد ضباط وكالة المخابرات المركزية المتواجدون في قواعد صغيرة على طول الحدود التركية والأردنية في العثور على، وتعليم، وتدريب أفراد ما يسمى بالمعارضة السورية المعتدلة، حتى يتمكنوا من المحاربة لإزاحة الدولة الإسلامية، وفي نهاية المطاف، نظام الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق. وبالإضافة إلى ذلك، الوكالة هي المسؤولة عن تحويل مساعدات الأسلحة وغيرها من الإمدادات إلى الثوار السوريين. وفي الوقت نفسه، تقوم وزارة الدفاع بإيفاد أفراد القوات الخاصة إلى المنطقة لإجراء مهمة التدريب نفسها. ولكن، في حال تصادمت الوزارة مع الوكالة بشأن العراق وسوريا، فسيكون من الخطأ أن نفترض أن وكالة الاستخبارات المركزية هي التي سوف تخسر الصدام؛ حيث اعتادت الوكالة على الفوز بهذا النوع من المعارك منذ بدء الحرب على الإرهاب قبل 14 عامًا.

2222

في خريف عام 2002، شاهدت طائرة بريداتور بدون طيار كانت تحلق بصمت في سماء اليمن سيارة دفع رباعي تسير على طريق ترابية في منطقة غير كثيفة بالسكان من هذه الدولة الفقيرة. وهنا، قام مراقبو الفيديو القادم من هذه الطائرة بتنبيه مدير وكالة الاستخبارات المركزية آنذاك، جورج تينيت، الذي كان قد ساعد في الإشراف على الجهود المبذولة للعثور على سالم سنان الحارثي، وهو قائد ميداني كبير في تنظيم القاعدة في اليمن ومشتبه به في تفجير حاملة الجنود يو إس إس كول في أكتوبر 2000، الذي أسفر عن مقتل 17 بحارًا وجرح عشرات آخرين. وبدوره، اتصل تينيت بالجنرال مايكل ديلونغ، وهو ضابط كبير في قيادة المنطقة الوسطى في الجيش، وطلب منه أن يقرر ما يجب القيام به. وقال ديلونغ لاحقًا في مقابلة مع برنامج تلفزيوني، إن تينيت قال له: “هذه السيارة تحتوي على الحارثي“، فرد عليه دلونغ: “حسنًا، كما تعلم، أطلقوا عليه النار“.

وهنا، أعطى تينيت الأمر، وأطلقت الطائرة بدون طيار صاروخ هيلفاير نحو السيارة، وقتل الحارثي في ​​الهجوم، جنبًا إلى جنب مع عدد من المسلحين من المستوى المنخفض. وقد كانت عملية الاغتيال هذه أول عملية تؤدي لمقتل إرهابي مطلوب عن طريق استخدام طائرة بدون طيار تابعة لـ CIA؛ وبالتالي، شكلت هذه العملية علامة فارقة في تحول الوكالة المذهل مما وصفه مازيتي بأنه “خدمة تجسس تقليدية مكرسة لسرقة أسرار الحكومات الأجنبية” إلى “آلة قتل، ومنظمة تستهدف صيد الرجال“.

وبحلول عام 2004، تعمقت الوكالة أكثر في عالم الاغتيالات المظلم من خلال توظيف مقاولين خارجيين مرتبطين بـ “بلاك ووتر”، وهي الشركة التي ارتكبت الانتهاكات في العراق. وفي يونيو 2009، أبلغ بانيتا الكونغرس بوجود هذا البرنامج السري، مضيفًا أنه أنهى هذا البرنامج بعد فترة وجيزة من توليه أعلى منصب في وكالة التجسس في وقت سابق من العام نفسه.

وقال بانيتا ومسؤولون آخرون في CIA إن المقاولين الخارجيين لم يقتلوا أي شخص أبدًا، ولكن هذا لم يكن كافيًا لتهدئة غضب المشرعين من فكرة تعاقد الوكالة مع مرتزقة لاغتيال الأعداء من دون رقابة حكومية كبيرة.

وكان الرئيس جيرالد فورد قد وقع في عام 1976 الأمر التنفيذي رقم 11905، الذي يحظر على وكالة المخابرات المركزية الانخراط في الاغتيالات السياسية في أي مكان في العالم؛ إلا أن الوكالة عادت لتنفيذ أعمال القتل انتقامًا بعد وقوع هجمات 9/11، وجعل بوش وأوباما في وقت لاحق الطائرات بدون طيار سلاح واشنطن المختار في مطاردة المسلحين الأفراد في جميع أنحاء العالم.

ويقول مسؤولو البيت الأبيض ووكالة الاستخبارات المركزية إن هذه الطائرات توفر مستوى عاليًا تاريخيًا من الدقة، ويصرون على أنها أسفرت عن عدد قليل من الضحايا المدنيين؛ إلا أن جماعات حقوق الإنسان بدورها جمعت الكثير من الأدلة التي تشير إلى أن غارات الطائرات بدون طيار قتلت المئات من الأبرياء. وفي باكستان وحدها، يقول مكتب تقديرات الصحافة الاستقصائية إن طائرات الـ CIA هذه قتلت ما لا يقل عن 960 مدنيًا بين يونيو 2004 حتى أبريل 2015، بما في ذلك ما يصل إلى 207 أطفال.

وقد كانت وكالة المخابرات المركزية من المؤيدين الأوائل للاستفادة من الطائرات بدون طيار المسلحة؛ حيث كانت الوكالة تعمل على مكافحة الإرهاب قبل أن يصبح هذا الأمر محط التركيز الرئيس لواشنطن لفترة طويلة. وأسست وكالة المخابرات المركزية مركزها لمكافحة الإرهاب في عام 1986، وشكلت فريق مكرس لتعقب أسامة بن لادن في عام 1996، وأعلنت “الحرب” على القاعدة في 1998.

003

جعلت وفرة الموارد المكرسة لمكافحة الإرهاب لدى وكالة الاستخبارات المركزية فشل الوكالة في الكشف عن، أو منع تنفيذ، مؤامرة 11/ 9 أكثر إيلامًا. وفي أعقاب الهجمات، أنشأت الحكومة الأمريكية لجنة من الحزبين لبحث ملابسات الكارثة، وتقديم توصيات بشأن طرق الحد من خطر وقوع هجمات مماثلة في المستقبل. وعندما أصدرت نتائجها في عام 2004، اتهمت اللجنة وكالة الاستخبارات المركزية بالفشل في تعقب اثنين من خاطفي الطائرات، هما خالد المحضار ونواف الحازمي، بشكل صحيح، وبعدم “إبلاغ مكتب التحقيقات الفيدرالي عنهما”.

ووجد تقرير منفصل للجنة أن وكالة المخابرات المركزية كانت على علم بأن لدى الرجلين علاقات بالإرهاب، ولكنها لم تعط هذه المعلومات إلى FBI حتى قبل أسابيع من الهجمات. وقد أدى هذا التأخير، وفقًا لتقرير اللجنة، إلى عدم استفادة مكتب التحقيقات الفدرالي من حقيقة أن أحد مخبريه كان على علاقة بكل من المحضار والحازمي.

وكانت وكالة الاستخبارات المركزية قد أخطأت أيضًا فيما يتعلق بمزاعم امتلاك صدام حسين لترسانة من أسلحة الدمار الشامل، وهو الخطأ الكارثي الذي سهل الطريق أمام حرب العراق، وترك بقعة سوداء دائمة في سجل الوكالة. وفي الآونة الأخيرة، اتهمت الـ CIA بالفشل في التنبؤ بصعود الدولة الإسلامية أو بخطط روسيا لغزو وضم شبه جزيرة القرم. وبدا أوباما نفسه عاتبًا على وكالة المخابرات المركزية، ووكالات المخابرات الأخرى، في مقابلة أجراها في أواخر عام 2014، عندما قال إن المجتمع بشكل جماعي “قلل” من احتمالات أن تؤدي الفوضى في سوريا إلى ظهور الدولة الإسلامية. وبدورها، تصر وكالة المخابرات المركزية والمدافعون عنها على أن الوكالة قدمت إنذارات مبكرة بشأن كل من المتشددين والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكن هذه الإنذارات تعرضت للتجاهل من قبل البيت الأبيض.

ولامتلاكها عددًا من المزايا البيروقراطية، كانت وكالة الاستخبارات المركزية قادرة دائمًا على البقاء متقدمة بخطوة على منتقديها وخصومها داخل مجتمع الاستخبارات. مدير الاستخبارات الوطنية، وهو المنصب الذي كان يشغله بلير قبل خسارته للمعركة مع الوكالة، لا يملك سلطة تعيين أو إقالة مدير وكالة المخابرات المركزية؛ ومن يمتلك هذه السلطة هو الرئيس الأمريكي. ونتيجةً لذلك، كان لدى مدراء CIA علاقات أوثق مع الرئيس. وفي حين أن عمر منصب مدير الاستخبارات الوطنية هو بالكاد عشر سنوات، يمتد سجل وكالة المخابرات المركزية في الحفاظ على روابط قوية مع البيت الأبيض، وغيره من أصحاب النفوذ في واشنطن، إلى بدايات وجود الوكالة.

وبالنسبة لكبار المسؤولين في البيت الأبيض والمشرعين الأقوياء على حد سواء، “كان الناس الذين يديرون وكالة المخابرات المركزية هم من نفس الناس الذين من المحتمل أن يكونوا قد ذهبوا إلى الجامعة معهم”، وفقًا لما قاله محلل سابق، طلب عدم الكشف عن هويته. ومن إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور، عندما ترأس خريج جامعة برينستون، ألين دالاس، الوكالة، إلى إدارة فورد، عندما أدار خريج جامعة ييل، جورج دبليو بوش، وكالة الاستخبارات المركزية، ووصولًا إلى إدارة أوباما، عندما تولى خريج برينستون، ديفيد بترايوس، حكم الـ CIA، كانت الاتصالات خلال الحياة الجامعية رصيدًا قيمًا لأولئك الذين شغلوا أعلى منصب في الوكالة.

ومازالت وكالة الاستخبارات المركزية محافظة على علاقتها الجيدة مع رئيس البلاد. وقد كان جون برينان، وهو المدير الحالي للوكالة، واحدًا من مستشاري أوباما في شؤون الاستخبارات ومكافحة الإرهاب خلال حملة الأخير الرئاسية لعام 2008، وقد قضى أربع سنوات في منصب مساعد الرئيس لشؤون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب. وفي الوقت الذي تم وضع برينان فيه رئيسًاًلوكالة الاستخبارات المركزية عام 2013، كان أوباما في ولايته الرئاسية الثانية، وكان قد فهم قيمة الوكالة.

ويقول جون ماكلولين، الذي كان نائبًا لمدير وكالة المخابرات المركزية وأمضى عشرات السنين فيها، إن أوباما، ومثله مثل العديد من الرؤساء الآخرين، لم يكن لديه الكثير من التقدير لما فعلته وكالة المخابرات المركزية أو ما يمكنها القيام به. ويضيف: “لا أعتقد أنه جاء إلى منصبه مع موقف سلبي تجاه CIA، ولكنني أعتقد بأنه وصل إلى الرئاسة مع اهتمام خاص بالشؤون الداخلية، ومن ثم وجد أن السياسة الخارجية كانت على وشك أن تصبح أكثر أهمية بالنسبة لإدارته، وعند هذه النقطة، أدرك أن وكالة المخابرات المركزية كانت جزءًا من مجموعة أدواته، وأنه سيكون من الأفضل استخدام هذه الأداة”.

وقد تكون هذه في الحقيقة أكبر ميزة لوكالة الاستخبارات المركزية، وهي أنها لا تستجيب عمليًا لأي أحد باستثناء الرئيس. الـ DIA، الذي يجمع ويحلل الاستخبارات العسكرية، يعمل لصالح وزارة الدفاع الأمريكية؛ ومكتب التحقيقات الفدرالي، الذي يتحمل مسؤوليات مكافحة التجسس ومكافحة الإرهاب المحلية، يستمع إلى وزارة العدل؛ ومكتب وزارة الخارجية للاستخبارات والبحوث، الذي يضمن أن المخابرات تدعم الدبلوماسية الأمريكية، يعمل لصالح زعمائه في الوزارة؛ وحتى وكالة الأمن القومي (NSA)، وهي إلى حد بعيد أكبر وأفضل جزء من مجتمع الاستخبارات تمويلًا، تتبع من الناحية الفنية لوزارة الدفاع الأمريكية.

6

أدى كل هذا إلى امتلاك وكالة المخابرات المركزية سلطة غير مسبوقة في العمل السري. وقد عملت الوكالة جاهدة للحفاظ على هذه السلطة، حتى عندما كان هذا يعني نشوب صراعات مع الأعضاء الآخرين في مجتمع الاستخبارات.

وفي ربيع عام 2012، كشفت DIA النقاب عن خطة طموحة لتوسيع فرقتها الصغيرة من الجواسيس، وأطلقت على هذه الفرقة اسم خدمة الدفاع السرية (DCS). وجعل اللفتنانت جنرال مايكل فلين، الذي تولى قيادة DIA في ذلك الصيف، هذا الجهد على رأس أولوياته، مشددًا على أهمية نشر المزيد من الموظفين في مناطق الحرب الفعلية أو المحتملة، بهدف جمع المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بأولويات الدفاع، مثل المعلومات عن المطارات التي يستطيع الجيش الأمريكي استخدامها في حالات الأزمة.

ولكن، بعض المسؤولين في الـ CIA عملوا بنشاط لمنع ظهور هذه الفرقة، باعتبارها قد تشكل منافسًا محتملًا لخدمة وكالة الاستخبارات المركزية، NCS، وهي ذراع الاستخبارات البشرية للوكالة المكلف بسرقة الأسرار ذات الأهمية الاستراتيجية من الحكومات والمنظمات الأجنبية. وبما أن هذه الجهود تشكل الأساس المهني والأخلاقي للوكالة، فإن الـ CIA تخشى من أي جهود لمنافستها على هذا الصعيد تطلق من قبل البنتاغون.

7

وينفي المتحدثون باسم الوكالة أن تكون الـ CIA قد حاولت إفشال إنشاء منظمة جديدة للتجسس في البنتاغون. وبدلًا من ذلك، يقولون إن وكالة المخابرات المركزية كانت تأمل بأن تكون قادرة على مشاركة هذه المنظمة في تحمل عبء جمع وتحليل طوفان من المعلومات الاستخباراتية القادمة عن أعداء البلاد.

ولكن رغم هذا النفي، يقول العديد من مسؤولي وزارة الدفاع الحاليين والسابقين إن البعض في وكالة المخابرات المركزية كانوا معارضين بشدة لإنشاء الـ DCS، وكانوا يخشون من تداخل محتمل بين عمل الوكالتين. وفي كل الأحوال، ليست هذه المشاجرات شيئًا جديدًا بين الجهتين، وقد كان لوكالة المخابرات المركزية في كثير من الأحيان اليد العليا في صراعات كهذه؛ بسبب وجود عدد هائل من موظفيها السابقين في مناصب رئيسة من حكومة الولايات المتحدة. وقد أصبح مديران سابقان لوكالة المخابرات المركزية، هما روبرت غيتس وليون بانيتا، وزراءً للدفاع في البلاد.

وكان مايكل فيكرز، الذي يرجع إليه الفضل في لعب دور رئيس في حرب وكالة المخابرات المركزية السرية في أفغانستان في الثمانينيات، مساعدًا لوزير الدفاع لشؤون العمليات الخاصة والصراع منخفض الشدة بين عامي 2007 و2011، قبل أن يصبح وكيلًا لوزارة الدفاع لشؤون الاستخبارات، وهو المنصب الذي قدم له فرصة السيطرة على جميع وكالات وبرامج الاستخبارات في البنتاغون.

في يوم دافئ ومشمس من مارس 2014، سارت رئيسة لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ آنذاك، ديان فينشتاين، باتجاه المنصة الخشبية في المجلس، وكشفت عن سلسلة من الاتهامات غير العادية ضد وكالة المخابرات المركزية. وقالت فينشتاين إن الوكالة أخلت بالقانون عن طريق البحث في أجهزة كمبيوتر موظفي مجلس الشيوخ العاملين على التحقيق في اعتقالات الوكالة وتعذيبها للمشتبه في صلتهم بالإرهاب في عهد بوش.

وقالت فينشتاين: “لدي مخاوف كبيرة من أن بحث وكالة الاستخبارات المركزية قد يكون انتهك مبدأ فصل السلطات المنصوص عليه في دستور الولايات المتحدة”. وأضافت: “قد تكون الوكالة قوضت الإطار الدستوري الضروري لإشراف الكونغرس بشكل فعال على أنشطة الاستخبارات أو أي وظيفة حكومية أخرى”.

وكان ديمقراطيون أقوياء آخرون قد أثاروا اتهامات مماثلة ضد الوكالة، وقال السيناتور باتريك ليهي، الذي كان رئيس اللجنة القضائية بمجلس الشيوخ حينها، إن لهذه المزاعم “آثارًا دستورية خطيرة”. ولكن رد فعل فينشتاين كان الأكثر لفتًا لانتباه الكثيرين داخل وخارج وكالة المخابرات المركزية؛ لأنها كانت تعتبر منذ فترة طويلة واحدة من أقوى المؤيدين لمجتمع المخابرات في الكابيتول هيل.

وفي عام 2013، عندما بدأت تسريبات سنودن بالظهور في وسائل الإعلام، جادلت عضوة مجلس الشيوخ المخضرمة في افتتاحية صحيفة USA Today، بأن جمع وكالة الأمن القومي للمكالمات الهاتفية لمئات الملايين من الأمريكيين العاديين كان أمرًا “قانونيًا، وفعالًا في المساعدة على منع المؤامرات الإرهابية ضد الولايات المتحدة وحلفائها“. وقد دعمت فاينشتاين بشدة أيضًا استخدام وكالة المخابرات المركزية للطائرات بدون طيار بهدف قتل المشتبه في صلتهم بالإرهاب، ومن بينهم مسلحون يحملون الجنسية الأمريكية، من دون محاكمة أو حتى كشف علني عن الأنشطة التي جعلتهم هدفًا مشروعًا للوكالة.

وقد كان السبب في تغير قلب فاينشتاين نزاعًا يبدو أشبه بمؤامرة رواية تجسس، منه بسلسلة من الأحداث الفعلية القادرة على خفض العلاقة بين وكالة المخابرات المركزية والمشرفين في الكابيتول هيل إلى أدنى مستوى لها في 40 عامًا. وابتداءً من عام 2009، أمضى المحققون في مجلس الشيوخ أكثر من خمس سنوات من البحث لصقل تقرير من 6000 صفحة، يتضمن التحقيق في سياسات الاستجواب والاعتقال التي اتبعتها الوكالة في عهد بوش، وتضمنت هذه السياسات تقنيات همجية، مثل محاكاة الغرق، وصفها أوباما نفسه صراحةً على أنها تعذيب.

وللكشف عن خفايا برنامج الـ CIA هذا، كان على العاملين في التحقيق استخدام أجهزة الكمبيوتر التي قدمتها الوكالة لهم، وتم وضعها في منشأة تابعة للوكالة في شمال ولاية فرجينيا. وفي كلمتها، اتهمت فينشتاين وكالة المخابرات المركزية بالبحث بشكل غير قانوني في أجهزة الكمبيوتر التي كان العاملون في التحقيق يستخدمونها لدراسة الملايين من الوثائق السرية للغاية.

ومن جانبهم، اتهم مسؤولون في الوكالة العاملين في تحقيق مجلس الشيوخ بإزالة وثائق سرية تقع خارج نطاق تحقيق الكونغرس الأولي. وحولت وكالة المخابرات المركزية مزاعمها هذه إلى وزارة العدل، وفتح مكتب التحقيقات الفدرالي تحقيقًا في أنشطة العاملين. وقال برينان إن مزاعم فينشتاين “زائفة” و”غير معتمدة على الحقائق بالكامل”. وطلبت فينشتاين بدورها من وزارة العدل التحقيق فيما إذا كانت الـ CIA قد خالفت القانون. وفي يوليو 2014، اعترف برينان بأن موظفيه تجسسوا في الواقع على أجهزة الكمبيوتر التي استخدمها المحققون من مجلس الشيوخ، تمامًا كما قالت فاينشتاين في اتهاماتها لوكالته.

وحاول البيت الأبيض بدوره أن يقوم بفعل نهائي لتخفيف تأثير تقرير التعذيب المقبل. وفي إشارة ملموسة على استعداد الإدارة للذهاب إلى حضيرة الوكالة، طلب أوباما من رئيس موظفي البيت الأبيض، دنيس ماكدونو، أن يطير إلى سان فرانسيسكو للضغط شخصيًا على فينشتاين لحجب أجزاء كبيرة من التقرير. وبالفعل، أجرت فينشتاين بعض التغييرات على التقرير في اللحظة الأخيرة لاسترضاء البيت الأبيض، ولكنها تجاهلت طلباته الأخرى، وأصدرت موجزًا تنفيذيًا غير سري للتقرير في أوائل ديسمبر/ كانون الأول. وتضمن الموجز السلوك الذي وصفته فينشتاين بأنه “وصمة عار على قيم، وعلى تاريخ، [الولايات المتحدة]”.

واتهم التقرير الوكالة صراحةً بتعذيب السجناء بشكل منهجي، وبتضليل إدارة بوش والكونغرس والرأي العام حول قيمة معلومات المخابرات التي استقاها من سنوات من الممارسات الوحشية، التي شملت التهديد باغتصاب وقتل أمهات المعتقلين، وتغذية بعض السجناء قسرًا من خلال الشرج. ويوضح مقطع واحد بالتفصيل كيف هدد عملاء الوكالة في أواخر عام 2002 وأوائل عام 2003، عبد الرحيم الناشري، بالمثقب الكهربائي أثناء التحقيق معه. وخلص قسم آخر من التقرير إلى أن وكالة المخابرات المركزية كذبت في عام 2011 عندما قالت إن استجواباتها العنيفة لمعتقلي القاعدة أسفرت عن المعلومات التي أدت إلى مقتل بن لادن. وبدلًا من ذلك، أشار التقرير إلى أن المخابرات حصلت على هذه المعلومات قبل البدء بتعريض المعتقلين للتعذيب. وفي غضون أيام من صدور التقرير، استدعت الـ CIA الصحفيين إلى لانغلي لعقد مؤتمر صحفي نادر مع برينان.

وقال مدير الوكالة إن نظام احتجاز واستجواب المشتبه في صلتهم بالإرهاب بعد 9/11، تضمن بعض الأساليب “البغيضة”. ولكن، رئيس وكالة المخابرات المركزية أغضب العديد من الديمقراطيين من خلال رفضه استخدام مصطلحات أوباما نفسه، والاعتراف بأن الوكالة استخدمت “التعذيب”. وقال أيضًا إنه لا توجد قوانين تحظر صراحةً ما فعله موظفو وكالته لمن كانوا في عهدتهم، وهو ما يعني أن الرئيس المقبل يستطيع أن يأمر من جديد باستخدام التعذيب الوحشي للمعتقلين في حال رغب بذلك.

وقد أغضبت هذه التعليقات فاينشتاين، التي استخدمت موقع تويتر للرد على كل نقطة من حديث برينان في الوقت الحقيقي تقريبًا لخطابه. وكتبت في إحدى تغريداتها: “الرئيس المقبل يستطيع عكس الأمر التنفيذي، وإعادة تفعيل برنامج (تقنيات الاستجواب المعززة). هناك حاجة إلى تشريع”.

وبعد أقل من ثلاثة أسابيع، أرسلت فاينشتاين خطابًا إلى أوباما يوضح خطتها لتقديم مشروع قانون من شأنه “إغلاق كافة الثغرات أمام التعذيب”، من خلال منع اعتقال وكالة المخابرات المركزية للسجناء لفترات طويلة، ومنع موظفي الوكالة من استخدام أساليب الاستجواب غير المدرجة في الدليل الميداني للجيش.

وتعد حقيقة أن فاينشتاين تشعر بالحاجة لصياغة مثل هذا القانون علامة أخرى على استعداد أوباما المطرد لاحتضان أنواع الانتهاكات التي ارتكبتها الـ CIA في عهد بوش، والتي جاء إلى منصبه متعهدًا بإيقافها. ومازال البيت الأبيض يرفض قول ما إذا كان سيدعم تشريع فاينشتاين الجديد، الذي لا يمتلك أي فرصة تقريباً للمرور عبر مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون.

وفي الوقت نفسه، لا يزال برينان في منصبه. وقد قال في مارس 2014، إن “(أوباما) هو الشخص الذي يمكنه أن يطلب مني البقاء أو الذهاب“.

وقد حصل رئيس وكالة المخابرات المركزية على دور إضافي، حيث بات واجهة لجهود الإدارة الأمريكية لبيع محادثاتها النووية المثيرة للجدل مع إيران إلى المشرعين المتشككين، وللدفاع ضد المنتقدين الذين يقولون إن الإدارة تفتقر إلى استراتيجية لهزيمة الدولة الإسلامية.
وقد خسرت فاينشتاين منصبها كرئيسة للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ عندما حصل الجمهوريون على أغلبية المجلس في انتخابات التجديد النصفي عام 2014. وقال رئيس اللجنة الجديد، وهو الجمهوري ريتشارد بور من ولاية كارولينا الشمالية، إن وكالة الاستخبارات المركزية حصلت على رقابة عامة أكثر من اللازم في السنوات الأخيرة. وأضاف: “لا أعتقد شخصيًا بأن أي شيء يحدث في لجنة الاستخبارات ينبغي أن يكون موضع نقاش علني أبدًا“.

وقد بدأ بور بتحويل الأقوال إلى أفعال؛ وكان أول أعماله كرئيس للجنة الاستخبارات هو إرسال رسالة إلى أوباما، يطلب فيها استعادة جميع نسخ التقرير الكامل حول التعذيب، التي بعثتها فاينشتاين إلى مختلف وكالات السلطة التنفيذية، “على الفور”. ويعتقد خبراء الخصوصية أن بور يتصرف بناءً على طلب من وكالة التجسس، للتأكد من أنه لن يتم الكشف عن هذا التقرير لاحقًا من خلال لجوء الإعلام إلى قانون حرية المعلومات. وعادةً، كما تقول عبارة أوباما، “تحصل وكالة المخابرات المركزية على ما تريد“.

التقرير