لبنان يسير على حبل مشدود.. وموقفه محفوف بالمخاطر

لبنان يسير على حبل مشدود.. وموقفه محفوف بالمخاطر

صلصلت سنابك خيول الجيوش عبر لبنان لآلاف السنين، بطبيعة الحال، لكن خاطبي وده الحاليين يتوافدون بتكرار يومي تقريباً. ويشهد اللبنانيون محاولة الاحتضان من الجارة سورية المنتصرة حديثاً، والتهديدات من إسرائيل، والتحذيرات من أميركا، والتقرب من الروس، والحب المتعاطف الأبدي من الإيرانيين الذين يمولون ويسلحون ميليشيا حزب الله اللبناني. كل هذا بينما يعاني البلد من ديون وطنية بقيمة 80 مليار دولار، ومن مليون ونصف مليون لاجئ سوري، وانقطاعات دائمة في الكهرباء –كل يوم بلا استثناء- منذ 1975.

*   *   *

في مواجهة احتمال الغزو من كل من بريطانيا وألمانيا في العام 1940، وانسجاماً مع تصميمها على البقاء محايدة، طلبت الحكومة الإيرلندية في دوبلن من أحد كبار وزرائها صياغة مذكرة حول كيفية البقاء خارج الحرب العالمية الثانية. وكان رده البليغ، وإنما القاتم، في ذلك الوقت: “الحيادية هي نوع من الحرب المحدودة”.

وسوف يوافق اللبنانيون على هذا الرأي. فعلى مدى سبع سنوات، كانوا يتوسلون ويصلون من أجل البقاء خارج الحرب السورية المستعرة في الجوار، وتجاهُل تهديدات إسرائيل، وتلافي عناق سورية الأخوي، وتحذيرات أميركا، ومقاربات روسيا وإغراءات إيران. وأتصور أنهم يجب أنهم يجب يكونوا شعباً موهوباً بشكل خاص حتى يتمكنوا من الابتسام بالتزام -ببهجة، ببساطة، بشجاعة، بكرامة، وبقلق- لكل الذين من حولهم، علكم تفلِتون من كل ذلك.

قال لي صديق على فنجان قهوة في بيروت هذا الأسبوع: “عندما يكون لبنان من دون حكومة لشهر، فإنك تعرف أن اللبنانيين هم المَلومون. ولكن، عندما يظل لبنان بلا حكومة لثلاثة أشهر، فإنك تعرف أن الأجانب متورطون”. وقد صلصلت سنابك خيول الجيوش عبر لبنان لآلاف السنين، بطبيعة الحال، لكن خاطبي وده الحاليين يتوافدون بتكرار يومي تقريباً. ويشهد اللبنانيون محاولة الاحتضان من الجارة سورية المنتصرة حديثاً، والتهديدات من إسرائيل، والتحذيرات من أميركا، والتقرب من الروس، والحب المتعاطف الأبدي من الإيرانيين الذين يمولون ويسلحون ميليشيا حزب الله اللبناني. كل هذا بينما يعاني البلد من ديون وطنية بقيمة 80 مليار دولار، ومن مليون ونصف مليون لاجئ سوري، وانقطاعات دائمة في الكهرباء -كل يوم بلا استثناء- منذ 1975.

إنه درس في كيف يمكن أن تكون صغيراً، وتبقى آمناً وتعيش مع الخوف. وقد تبنت حكومة تسيير الأعمال التي يقودها سعد الحريري -في الواقع، الحكومة اللبنانية السابقة للانتخابات والحكومة التالية التي جلبتها الانتخابات، وكل وزير تم اختياره وفق نظام البلد الطائفي المرهق على أساس مسلم ومسيحي- تبنت سياسة “الانفصال” عن الصراعات الإقليمية. و”الانفصال” هو نسخة من الحيادية، والتي يدعي فيها الجميع، من الأميركيين إلى الإيرانيين إلى الاتحاد الأوروبي، بأن لبنان مُتَّحد في حب متبادل، وأن وضعه بهذه الكيفية أكثر فائدة بما لا يقاس من تدميره في إعادة انبعاث لحرب 1975-1990 الأهلية. ويقوم الاتحاد الأوروبي، بطبيعة الحال، بإغداق الأموال على المريض اللبناني المفلس لأنه لا يريد تدفق المزيد من اللاجئين على أوروبا.

في الحقيقة، يعمل حياد لبنان على حمايته من نفسه أيضاً. وفيه يتلقى السُّنيون تمويلاً هائلاً من السعوديين، الذين يكرهون الإيرانيين وحزب الله واللبنانيين الشيعة الذين يدعمونهم. ويحب رئيس الوزراء السني، سعد الحريري، السعوديين -أو بالأحرى، يجب أن يحب السعوديين، بما أنهم يدعمون رئاسته ولأنه يحمل الجنسية السعودية ويعتقدُ السعوديون بأنه سيمثل مصالحهم. وقد يتذكر القراء ما قيل عن اختطاف ناعم للحريري في الرياض في العام الماضي وظهوره الشبحي على شاشة التلفاز السعودي “ليستقيل” من رئاسته لوزراء لبنان، إلى أن ذهب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون لإنقاذه وجلبه إلى باريس، حيث عاد إلى استئناف عمله كرئيس لوزراء لبنان. والحريري، بوصفه حاملاً لجواز سفر انتقائي، هو مواطن فرنسي أيضاً.

والمسيحيون اللبنانون أيضاً منقسمون، كما هي عادتهم -الرئيس ميشال عون صديق للأسد، ويخشى البقية من “تدخل” سوري آخر في لبنان- في حين يقول حزب الله أنه إذا ضربت إسرائيل إيران، فإن الحرب بين الميليشيات الشيعية وإسرائيل سوف تشتعل مرة أخرى في جنوب لبنان. وتهدد إسرائيل حزب الله بانتظام -بما يسعد الحزب- في لبنان. وما يزال دروز وليد جنبلاط ينتظرون دمار الأسد. ولك أن تحاول شرح كل هذا لدونالد ترامب. فبعد كل شيء، مضت بالكاد سنة على كيل الرئيس الأميركي المشوش المديح للحريري على كونه “في الخط الأمامي من القتال ضد حزب الله” -غير مدرك لسوء الطالع أن الحريري المسكين يجلس بجوار وزراء حزب الله في الحكومة اللبنانية.

بذلك، يواصل الأميركان (والسعوديون) نصائحهم المستمرة وغير المجدية للبنان بوجوب نزع سلاح حزب الله، وتفكيكه، ودمجه في الجيش اللبناني -بما أنه يتلقى التسليح من إيران (أصل كل الشرور)، وبما أنه عدو إسرائيل (أصل كل الخير)، وحليف سورية (التي ما يزال الأميركيون يريدون -نظرياً- الإطاحة برئيسها لأنه أصل كل الحرب الكيماوية)- بينما يقومون بإرسال الأسلحة إلى الجيش اللبناني. وإلى جانب ذلك، لن يقوم أي جندي لبناني -وخاصة الشيعة منهم- بمهاجمة إخوته وأخواته الشيعة في جنوب لبنان لمصلحة الأميركان، أو السعوديين أو الإسرائيليين.

وهكذا، يستمر الدعم الأميركي في القدوم حتى نقطة معينة؛ قبل شهرين فحسب، كان قائد الجيش اللبناني، الجنرال جوزيف عون، يتواجد في واشنطن لمناقشة مسألة “التعاون في مكافحة الإرهاب” -بعد أشهر فقط من قيام جنوده بالاشتراك مع مقاتلي حزب الله (“الإرهابي”، وفق وزارة الخارجية الأميركية) بالمساعدة في طرد الإسلاميين من جَيب عرسال في شمال شرق لبنان. وقد أعطى الأميركان للجيش اللبناني أربع طائرات قتالية خفيفة من طراز “أ-29 سوبر توكانو”، القوية بما يكفي لإطلاق النار على “داعش”، وإنما الضعيفة بما يكفي لكي لا تشكل أي تهديد لإسرائيل. كما يساعد الجيش الأميركي لبنان أيضاً بمبلغ ضئيل يصل بالكاد إلى 70 مليون دولار في العام -قارن هذا بمبلغ 47 مليار دولار على مدى أربعين عاماً التي تُقدم للجيش المصري، الذي لا يستطيع حتى أن يقمع انتفاضة “داعش” الحالية في شبه جزيرة سيناء. وسوف تتوقف الأسلحة الأميركية عن الوصول إلى بيروت، كما أوضح الأميركيون بلا أي لبس، في اللحظة التي يميل فيها اللبنانيون إلى الخضوع لإغراء العروض الإيرانية.

كان الإيرانيون، باقتصادهم المتهالك، يعرضون على بيروت من المال -من أين، بالضبط، لا ندري- حتى أكثر من الأميركيين أنفسهم، إلى جانب البنادق، والمساعدات الزراعية والصناعية. وبعد اتفاقيات إيران العسكرية والدفاعية الجديدة مع سورية، و”الدور المنتج” الذي ستلعبه في إعادة إعمار سورية ما بعد الحرب -بكلمات وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي- ناهيك عن إعادة بناء المؤسسات العسكرية السورية، والقواعد الجوية، والمدارس والمستشفيات (بالمقارنة، تبدو هذه الخطة بمقادير شبيهة بخطة مارشال)، يجب أن يكون هناك بالتأكيد دمج للمال والخيال. وما كان المرء ليفكر بأن وزير الاقتصاد الإيراني طُرد هذا الأسبوع. وغني عن البيان أن الروس يريدون حصتهم في إعادة إعمار سورية -وكذلك يفعل اللبنانيون، كما قد يضيف المرء- لكن لدى الروس فريق في لبنان يعرض إعادة آلاف من اللاجئين السوريين إلى وطنهم تحت ضمانات بالسلامة.

وهذه أخبار جيدة بالتأكيد للرئيس عون ووزير خارجيته جبران باسيل (الذي يصادف أنه صهر عون)، اللذين يريدان التخلص من مخيمات اللاجئين السوريين المنتشرة في أنحاء لبنان والمساعدة على استعادة “التطبيع” لسورية. لكن هذا أثار الكثير من الاعتراضات من الأوروبيين والأمم المتحدة، الذين سيتعين عليهم أن يشاركوا والذين يريدون التأكد من أن لا يتم اقتياد اللاجئين العائدين إلى السجن في اللحظة التي يعبرون فيها الحدود، ويريدون أكثر من أي شيء آخر تجنب “تطبيع” سورية ما بعد الحرب تحت حكم الأسد.

في الأثناء، يريد السوريون استئناف علاقاتهم “الأخوية” السابقة مع لبنان وينفد صبرهم عندما يقاوم اللبنانيون –خاصة الحريري- ذلك. وتقوم سورية، التي تعاني من انقطاعاتها الهائلة الخاصة في الكهرباء مسبقاً، بعرض الكهرباء على لبنان، وقد فرح اللبنانيون بسماع أن الحكومة السورية قد استعادت السيطرة للتو على معبر نصيب على الحدود السورية-الأردنية. فسوف يعيد هذا بالتأكيد فتح معبر الترانزيت البري الوحيد للصادرات اللبنانية إلى الأردن ودول الخليج.

ولكن، كان ثمة شيء بهذا الخصوص أيضاً. في الأسبوع الماضي، أدلى سفير سورية إلى بيروت، علي عبد الكريم، بتصريح بعثي نمطي: “الأعداء يبحثون الآن عن طريقة لوضع كبريائهم جانباً، ولذلك” -وكان يشير هنا إلى لبنان- “ماذا عن البلد الشقيق الذي يتقاسم كل حدوده البرية مع سورية، بالإضافة إلى فلسطين المحتلة”؟ (فلسطين المحتلة تعني إسرائيل). وأضاف عبد الكريم: “سورية تحتاج لبنان بطبيعة الحال، لكن لبنان يحتاج إليها أكثر”. ثم جاءت التقارير -غير المؤكدة، وإنما المحبطة لمعسكر الحريري الموالي للسعودية- بأنه في حين أن اللاجئين العائدين يستطيعون عبور نقطة نصيب الحدودية، فإنها ليست مفتوحة بعد أمام الشاحنات اللبنانية التي تحمل صادرات البلد من الخضار والفواكه. “ابتزاز”، هتف الحريري. بل إن الأكثر إثارة للحنق بالنسبة للبنانيين كان نشر صورة تُظهر عناصر الشرطة العسكرية الروسية إلى جانب القوات السورية في نصيب.

وإذن، إذا كان لبنان يحتاج إلى سورية أكثر مما تحتاج سورية إلى لبنان، فإنني أفترضُ أن لبنان يحتاج إلى أميركا أكثر مما تحتاج أميركا إلى لبنان –لكن إيران تحتاج إلى لبنان أكثر مما يحتاج لبنان إلى إيران. والسعوديون يحتاجون لبنان، لأنهم يمكن أن يستخدموا الحريري كقائد صوري للسُّنية ضد محور حزب الله/ سورية الشيعي، وبذلك يتم إلحاق الضرر بإيران الشيعية. واللبنانيون، بديونهم الوطنية البالغة 80 مليار دولار -الذي جاء، فيما ينطوي على مفارقة، نتيجة لسياسات والد الحريري المقتول، رفيق- يحتاجون إلى السعوديين. والروس؟ إنهم بالتأكيد، بينما يمخر أسطولهم العباب مدينة طرطوس السورية الساحلية، ليسوا في حاجة إلى أحد. ربما كان ذلك الوزير الإيرلندي -فرانك آيكين، المحارب القديم في حرب الاستقلال الإيرلندية والحرب الأهية الإيرلندية- محقاً في العام 1940. إن الحيادية هي نوع من الحرب المحدودة.

روبرت فيسك

الغد