الوحشية الإسرائيلية ومأزق فلسطين

الوحشية الإسرائيلية ومأزق فلسطين

بينما يقف في حرم جامعة بير زيت في رام الله، فلسطين، يستطيع المرء أن يتذوق نكهة جمال فلسطين، وتوترها المشحون أيضاً. الجفاف في التلال تكسره باقات من الزهور. وبينما أتأمل المشهد، يقترب مني طالب شاب ويسألني عما أنظر إليه. أشير إلى حوض من الزهور -الحمراء بشكل أساسي، وإنما الأرجوانية والزرقاء أيضاً. ويقول الطالب إن هذه شقائق النعمان. لكَم هي مُبهرة. ويخبرني الطالب عن التوترات في الجامعة. هناك دائماً توترات في الجامعة. قبل بضعة أيام، حاولت الشرطة الإسرائيلية دخول الحرم لاعتقال بعض قادة الطلبة. وهو وضع طبيعي. يوم دافئ، وزهور جميلة، وتهديد العنف من السلطات الإسرائيلية.
*   *   *
افتُتحت بير زيت في العام 1924، عندما كانت فلسطين فلسطين، كمدرسة ابتدائية للبنات، ثم أضيف إليهن الصبيان بعد سنتين لاحقاً. وفي وقت لاحق، أخذها حنا ناصر، الذي كان أبوه وعمته قد أسسا المدرسة، خطوة أبعد بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وجعلها جامعة في العام 1972. وقالت الحكومة الإسرائلية لحنّا ناصر إن عمله “غير قانوني”. وليس هناك أي دليل يظهر أن الإسرائيليين -منذ 1948 وحتى الآن- كانوا حريصين على تعليم الشعب الفلسطيني.
وما تزال جامعة بير زيت، الأكثر عراقة بين مدارس فلسطين ومؤسساتها، تحت التهديد العسكري الإسرائيلي منذ ذلك الحين وحتى الآن.
ولكن، كما كتب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في العام 1998، فإن “مجرد بقاء بير زيت هو من القصص الكثيرة للمقاومة الفلسطينية ضد القمع الإسرائيلي الصريح”. وكان بوسع سعيد أن يقول “الوحشية” الإسرائيلية. وثمة مثال آخر على هذه الوحشية يتجسد الآن: على مدى السنوات الثماني الماضية -منذ العام 2010- رفضت إسرائيل تسليم البريد العادي إلى دائرة البريد الفلسطينية. والآن، وصلت صناديق البريد إلى أريحا؛ حيث لم يجد موظفو البريد الرسائل فحسب، وإنما وجدوا كرسياً متحركاً أيضاً.
القتل على أيدي القناصة الإسرائيليين عند سياج غزة، وتجريف قرى بأكملها في الضفة الغربية، ومصادرة الأجزاء الرئيسة من القدس الشرقية، والتصريحات العنصرية للساسة الإسرائيليين، وقانون يقول إن إسرائيل دولة يهودية (بمعنى أن المواطنين المسلمين والمسيحيين واللادينيين أصبحوا الآن ثانويين)، والحرمان من التعليم وخدمات البريد -هذه هي قائمة الوحشية.
*   *   *
في العام 2005، دعا الناشطون الفلسيطنيون حلفاءهم خارج فلسطين للانضمام إلى حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل. والهدف من نضال حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات هو ممارسة الضغط على إسرائيل المتعجرفة، وإجبار قوة الاحتلال على التفاوض مع الفلسطينيين. وقال أبواق إسرائيل الدعائية بعدوانية إن حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات معادية للسامية؛ وقالوا إن أي انتقاد لإسرائيل أو للصهيونية يرقى إلى منزلة العنصرية. لكن المزيد والمزيد من الناس ينضمون إلى حركة المقاطعة، وقد وجدوا فيها طريقة مناسبة -وسلمية- لممارسة الضغط على طبقة إسرائيلية تصبح أكثر يمينية وكراهية للأجانب باطراد. وقد شرع موسيقيون ومفكرون، وفرق رياضية وسياح، في وضع أختام مصادقتهم على نشاط حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات.
دفعت الشعبية التي تتمتع بها هذه الحركة إسرائيل وحلفاءها الدوليين إلى اتخاذ خطوات متطرفة. فأصدرت إسرائيل قانوناً لمناهضة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات في العام 2011 واستخدمت أي وكل وسائل تتوافر لديها لمنع دخول ناشطي الحركة إلى البلد. كما طاردت كل شخص قال شيئاً منتقداً لإسرائيل، للصهيونية، أو لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو. وحتى الصحفيين الأميركيين الليبراليين، مثل بيتر بينارت، تعرضوا للمضايقة في مطار بن غوريون. ولا يُمنح أي شخص لديه كلمه يقولها ضد السياسة الإسرائيلية فرصة ثانية.
بذلك، يُتوقع أن تكون إسرائيل قد حظرت الآن دخول نصف الأجانب الذين يدرّسون في جامعة بير زيت ومؤسسات التعليم العالي الفلسطينية الأخرى (من جامعة فلسطين في غزة، إلى جامعة الاستقلال في أريحا). ومن بينهم أستاذ للتاريخ كان يدرّس في بير زيت منذ خمسة وثلاثين عاماً -روجر هيكوك- واختصاصية الصحة، لورا ويك. وكنتُ قد التقيت بروجر ولورا مرات عدة في لبنان على مدى السنوات ووجدت فيهما أناساً دافئين وكرماء، ملتزمين بقيم الحقيقة والعدل والكرامة. وقد انتقلا إلى فلسطين في العام 1983، قادمَين من أميركا الوسطى؛ حيث كانا قد ذهبا لتقديم خدماتهما للثورة الساندينستية. وفي العام 1987، أدين روجر بتهمة “إقلاق السلام” بسبب مشاركته في مظاهرة. وقال روجر: “هذا يوم أسود لحكم القانون”. كان قد ذهب إلى إحدى البلدات لجلب بعض العصير، ورأى نساء فلسطينيات يتظاهرن واقترب ليرى ما كان مكتوباً على لافتاتهن. وهو ليس غريباً عن الوحشية الإسرائيلية. والآن، تم منع روجر، ولورا وأجانب آخرين ممن يلعبون دوراً رئيسياً في المؤسسات الفلسطينية من دخول البلد.
هؤلاء هم الأساتذة. وفي الأثناء، تواصل السلطات الإسرائيلية تجريف المدارس الفلسطينية وتحاول منع أطفال الفلسطينيين من الوصول إلى المدارس عبر نقاط التفتيش. وفي حي الطواني في يطة الفلسطينية، أرسل الإسرائيليون جيشاً من الجرافات العسكرية لتدمير الغرف الصفية المتنقلة. وفي بيت أُمَّر، جنوب شرق بيت لحم، جاءت القوات الإسرائيلية ودمرت الكرفانات التي كانت تستخدم كمدارس مؤقتة. ليس من المفاجئ إذن أن 40 في المائة من المجتمعات في الضفة الغربية ليست فيها مدارس ابتدائية. ولذلك، يتعين على الأطفال الفلسطينيين السير مسافات طويلة من أجل الدراسة، وكثيراً ما يتعرضون للإيقاف والمضايقات عند نقاط التفتيش الإسرائيلية. وهذه حرب ضد التعليم، وحرب ضد الأطفال الفلسطينيين، وحرب ضد الذاكرة والتاريخ.
في الأثناء، ما تزال الصفوف التي يُدرِّسها الأساتذة الأجانب في بير زيت في انتظار مدرِّسيها.

فيجاي براساد

الغد