ميركل أمام معضلة مدّ يد العون لأردوغان أو سحبها

ميركل أمام معضلة مدّ يد العون لأردوغان أو سحبها

 

 

 

من المتوقع أن يقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بزيارة رسمية إلى العاصمة الألمانية برلين أواخر سبتمبر الجاري، وتعتبر الزيارة بمثابة نقطة تحوّل بالنسبة إلى تركيا، خاصة في الوقت الحالي أمام تعثر اقتصادها بسبب العقوبات الأميركية، حيث يطمح أردوغان إلى الحصول على دعم مالي وسياسي ينقذ به الليرة وينقلها إلى بر الأمان، ورغم توتر العلاقات الألمانية التركية منذ محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016 لتنديد برلين بسياسة القمع وانتهاك حقوق الإنسان على يد النظام التركي، إلا أن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعي أن إنقاذ الاقتصاد التركي وعودة التقارب الدبلوماسي مع أنقرة يصبان لصالح برلين أمام تواصل أزمة اللاجئين حيث من المحتمل أن تحدث عملية نزوح كبيرة لن تقل عن مليوني (2) لاجئ سوري بعد انطلاق معركة إدلب.

لم يمض سوى عام على إجراء الانتخابات البرلمانية في ألمانيا، وقد لعب الألمان من ذوي الأصول التركية ممن يعيشون في ألمانيا دورا فاعلا في انتخابات البرلمان الاتحادي البوندستاغ الذي يمثل المرجعية الأهم في اتخاذ القرار داخل جمهورية ألمانيا، التي تتبع نظام الحكم الفيدرالي.

وكعادته دائما لم يتردد أردوغان، الذي تسيطر عليه نزعة أن تكون له الغلبة في علاقاته الخارجية والداخلية على حدٍّ سواء، في التدخل في الانتخابات البرلمانية بألمانيا؛ حيث وجه رسالة إلى مؤيديه في ألمانيا من ذوي الأصول التركية قائلا “لا تصوتوا للأحزاب التي تناصب تركيا العداء!”، ولم يتردد حينها في أن يذكر أحزابا بعينها مثل الحزب المسيحي الديمقراطي والحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر. وربما تأكد لديكم الآن أن هذه الرسالة التي كررها مرتين لم تكن عابرة، بقدر ما كانت محاولة خُطّط لها سلفا من أجل التدخل في الانتخابات البرلمانية في ألمانيا.

لا نستطيع الجزم يقينا إن كان الليبراليون وحزب مثل “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف وحزب اليسار “أصدقاء لتركيا” أم لا؟ لكن من المؤكد أن أردوغان كان يستهدف -بدعوته تلك -السيدة أنجيلا ميركل التي لم تسانده، ورأى أنها لم تعطه نفس القدر من الاهتمام، الذي لاقاه داوود أوغلو عند زيارته لألمانيا، بالإضافة إلى الحزب الديمقراطي المسيحي وحزب الخضر اللذين دأبا على توجيه الانتقادات إلى تركيا في موضوع حقوق الإنسان.

ولكن هل هذه الأحزاب “تناصب تركيا العداء” حقا؟ الإجابة هي لا؛ لأن الحكومة الألمانية التي كانت السبب في بدء مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وظلت لسنوات تساند سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية هي -في حقيقة الأمر- حكومة ائتلافية من تكتل الحزب الديمقراطي الاجتماعي وحزب الخضر. وهذا يعني أن تحالف غيرهارد شرودر- يوشكا فيشر هو الذي مهَّد الطريق أمام تركيا لبدء التفاوض مع الاتحاد الأوروبي.

زيارة برلين
لم يكن أردوغان يوما ذلك السياسي الذي يتحرك من منطلق الحقائق والتحليلات السياسية، بقدر ما كان يندفع خلف آرائه ومعتقداته الخاصة فقط. من أجل هذا، لم يتردد أردوغان، الذي لا يُغلّب لغة الحوار بقدر إيمانه بمنطق القوة، في إطلاق صفة “العدو” على أي شخص لا يؤيده في آرائه أو ينتقد أيا من قراراته. السؤال المحير هنا هو: كيف ستجعل الآلة الإعلامية، التي تدور في فلك أردوغان، المواطنين يتناسون العناوين العريضة، التي نشرتها عن ألمانيا قبل عام، وهم يصفون زيارته بالانتصار اليوم؟

وعلى الرغم من هذا، فقد كان الإعلام الموالي لأردوغان مُحقا في موضوع واحد؛ وهو أن وضع زيارة برلين على جدول أعمال أردوغان، بعد زيارتين سيقوم بهما لكل من باريس ولندن، أمر موفق للغاية.

على أيّ حال، فهي زيارة لا يمكن التقليل من شأنها؛ خاصة مع الأزمة الاقتصادية التي تتعرض لها تركيا في الوقت الراهن. ومع هذا، فمن الصعوبة بمكان التنبؤ بالنتائج التي قد تسفر عنها هذه الزيارة؛ لأننا لم نعرف حتى الآن الكثير عن تفاصيلها أو البرنامج المقرر لها.

لا نعرف حتى الآن كيف سيستقبلون أردوغان، وأين سيجري اللقاء المقرر مع القادة الألمان. هل سيكون استقبالا رفيع المستوى، أم ستكتفي ألمانيا باستقبال في حدود قواعد البروتوكول المتعارف عليها فحسب. هذا ما ستكشف عنه الأيام المقبلة. من المهم معرفة قواعد البروتوكول المتبعة في هذه الزيارة، التي تقترح برلين أن تكون “زيارة عمل”، في حين تصر أنقرة على أنها “زيارة رسمية”. ليكن البروتوكول على أيّ صورة كانت، فالمهم بالنسبة إلينا أن نعرف أن زيارة برلين قد تصبح عاملا محفزا لليرة التركية يصل بها إلى بر الأمان، بنفس القدر الذي قد تتسبب فيه زيارة أخرى لبلد مثل إنكلترا في النزول بها إلى الحضيض.

ونظرا لأن الإعلان عن زيارة برلين تعني أن السيدة ميركل ستمد يد العون لأردوغان، ولأنه لم يكن من الصعب عليها أن تعترض على توقيتها، وتقول “الوقت ليس مناسبا، فلنؤجلها إلى وقت آخر!”؛ لذا لم يكن من الخطأ أن ننتظر من هذه الزيارة أن تسفر عن نتائج إيجابية.

ولا تقتصر أهمية هذه الزيارة على وجود عدد من القضايا ذات الاهتمام المشترك مثل العلاقة مع الولايات المتحدة فحسب، بل تتعداه إلى شعور ألمانيا بالقلق من تردي الوضع الاقتصادي في تركيا؛ لإيمانها أن تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتنمية في تركيا سيعود بالنفع على ألمانيا أيضا. أضف إلى هذا أن تركيا ليست بالدولة الهامشية التي لا تهتم لأجلها ألمانيا ودول الاتحاد الأوروبي.

لكن لنجتهد قليلا كي نعرف السبب الذي سيجعل السيدة ميركل تمد يد العون إلى أنقرة خلال هذه الزيارة؛ باستعراض موجز لبعض الموضوعات السياسية، ودون الخوض في الأبعاد الاقتصادية للموضوع. تأتي الأزمة السورية ومشكلة اللاجئين على رأس الموضوعات المطروحة بين الجانبين. وأعتقد أن جمهورية ألمانيا ستكون من أكثر الدول التي ستتأثر بموجات اللاجئين السوريين إذا فتحت تركيا الباب أمام ما يزيد عن مليون لاجئ للعبور إلى أوروبا. لهذا يمكننا القول إن السيدة ميركل، وليس أردوغان، هي التي ستدفع فاتورة باهظة لضمان استمرار حياتها السياسية.

وفي الإطار نفسه، يرى اليمين المتطرف أن السيدة ميركل وجَّهت إهانة بالغة لألمانيا بفتحها الباب أمام السوريين، ورأينا كيف تخلت الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي عن ألمانيا في قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة التي عقدت لهذا الغرض، وتركتها تجابه هذه المشكلة بمفردها.

تمخضت هذه القمة عن قرارات مشتركة تخص موضوعين يمسان تركيا بشكل كبير؛ القرار الأول: تزويد دول الاتحاد الأوروبي الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود الخارجية وحمايتها والمعروفة باسم “فرنتيكس” وهي وكالة تابعة للاتحاد الأوروبي، وتعنى بمراقبة الحدود في منطقة شنغن الأوروبية بميزانية إضافية كبيرة من أجل تمويل عمليات المراقبة الحدودية التي تشمل حدود تركيا المائية على بحر إيجة، أما القرار الثاني فيتمثل في اعتماد خطة لمنع الهجرة إلى أوروبا عبر توفير دعم مالي، وبناء مخيمات للاجئين في دول شمال أفريقيا وخاصة ليبيا وتونس والمغرب، وفي دول وسط أفريقيا.

من المنطقي أن تقدم ألمانيا يد العون لتركيا؛ لأنها من ناحية ستكون إحدى أكثر الدول التي سيصيبها الضرر من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة هناك، وهناك عامل آخر يجعل أوروبا كلها، وليس ألمانيا فقط، تقدم على هذا وهو إبعاد تركيا عن التملق الروسي

وكما هو واضح فإن خطة دول الاتحاد الأوروبي تعتمد في الأساس على فكرة التصدي لموجات اللاجئين عبر تأمين الحدود وإن كان من غير المعلوم هل ستنجح في تنفيذ هذه الخطة أم لا. والواضح أن دول الاتحاد الأوروبي تحاول الآن تنفيذ هذه الخطة في تركيا؛ فقد نجحت ميركل في إقناع دول الاتحاد الأوروبي بمنح تركيا تمويلا قدره 6 مليارات دولار، وقامت تركيا على إثره بإغلاق حدودها أمام اللاجئين.

المصالح الأوروبية
ترجع أهمية مناقشة هذا الموضوع في مباحثات برلين إلى سببين مهمين؛ فتركيا الآن صارت في مواجهة مشكلة جديدة في إدلب، ومن المحتمل أن تحدث عملية نزوح كبيرة للاجئين لن تقل عن مليوني (2) لاجئ سوري. وألمانيا تعرف جيدا من خبرتها السابقة أن موضوعا كهذا لن يصيب تركيا وحدها. لأجل هذا، يُنتظر أن تبحث تركيا وألمانيا وبروكسل تبنّي سياسة مشتركة حيال هذا الموضوع.

ومن المتوقع أيضا أن يضمّ برنامج الزيارة موضوعات أخرى مثل “الاتحاد الجمركي”، وموضوع “رفع تأشيرة الدخول” الذي لم يتمّ حله على الرغم من ارتباطه بمشكلة اللاجئين، حيث يمثل موضوع إلغاء تأشيرة الدخول بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي أهمية كبيرة في علاقة تركيا بهذه الدول تتخطى القيمة الرمزية أو الشكلية له. تعلمون أن العلاقة بين داوود أوغلو وميركل حيال هذا الموضوع كانت تتصف بالوضوح؛ فتركيا ستغلق الحدود، وفي المقابل ستحصل على مساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي في شكل 3+3 مليارات دولار. وإلى جانب ذلك، سيُعفى المواطنون الأتراك من الحصول على تأشيرة الدخول في نطاق منطقة شنغن.

وصرَّحت مفوضية الاتحاد الأوروبي في 5 مارس عام 2016 أن تركيا نفَّذت كافة الاشتراطات المطلوبة منها تمهيدا لرفع تأشيرة الدخول، وأنه لم يتبق سوى خمسة معايير فقط، وأعربت عن قناعتها بأن تركيا ستنفذ المعايير المتبقية في موعد غايته آخر يونيو.

قضايا مشتركة
على الجانب الآخر، كان أردوغان ينظر إلى الدعم المالي، الذي استطاع الحصول عليه داوود أوغلو، على أنه ضربة وُجِّهت إليه شخصيا. من أجل هذا، لم يكتف بالانقلاب على داوود أوغلو فقط؛ بل تخطى هذا إلى تحدي الاتحاد الأوروبي نفسه، فكانت النتيجة أن توقفت إجراءات رفع تأشيرة الدخول.

من أجل هذا، فإن اتخاذ أيّ خطوة في موضوع التأشيرة -خاصة في هذه الأيام التي وصلت فيها علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي إلى الحضيض- قد تصب في صالح الاقتصاد التركي المتهاوي، كما سيُنظر إليها باعتبارها رسالة سياسية مهمة في علاقة تركيا بالاتحاد الأوروبي.

ولكن هل من الممكن حقا رفع التأشيرة؟ أعتقد أن هذا الأمر ينطوي على بعض الصعوبات؛ لأن وزير الخارجية التركي يتحدث الآن عن سبعة معايير مطلوبة من تركيا، وليس عن خمسة كما كان في السابق. وهذا يعني أن الأمور كانت تتجه إلى الأسوأ خلال العامين الماضيين.

وإذا استثنينا المعايير التقنية من إصدار جواز السفر وما شابه من المعايير الخمسة، التي كانت مطلوبة من تركيا قبل عامين، فسندرك أن الاتحاد الأوروبي لم يطلب من تركيا، آنذاك، سوى تحقيق معيار واحد فقط؛ يتعلق باتخاذ إجراءات خاصة بمكافحة الإرهاب وحماية حقوق الإنسان الأساسية في تركيا.

وكما رأينا، فقد تفجَّرت الأزمات الخاصة بهذه الموضوعات خلال العامين الماضيين، ولم تقلّ على عكس المُتوقع؛ فقد شهد العامان الماضيان انهيارا تعدّى حرية الصحافة إلى انهيار دولة القانون أيضا، وتحولت تركيا إلى دولة يسعى مواطنوها إلى اللجوء السياسي في دول أوروبا.

وفي الجهة المقابلة ستتمسك ألمانيا بالتفاوض في موضوعين مهمين آخرين؛ يدوران في نطاق دولة القانون والحقوق الأساسية للمواطنين الأتراك. وفي سياق متصل، صرَّح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس لوسائل الإعلام بأن المباحثات بين الجانبين ستتطرق إلى وضع 50 مواطنا ألمانيا محتجزين في السجون التركية. ولن يكون من المستبعد أن تتناول المباحثات موضوعات أخرى مثل حرية الصحافة وحقوق الإنسان التي طالما نددت بها أحزاب المعارضة.

لهذا السبب، لم يكن قول وزير الخارجية الألماني هايكو ماس “إن مشكلات المواطنين لا تخفى على أحد”، وهو يتأهب للسفر إلى أنقرة، مفاجئا بالنسبة إلينا. وحتى لو تمخضت الزيارة عن بعض القرارات الإيجابية، التي تصب في صالح الاقتصاد، فلن تترك ألمانيا الفرصة للحديث عن هذا الموضوع.

وعندما نتحدث عن المساعدات المالية والاقتصادية، التي تمثل الموضوع الأهم بالنسبة إلى تركيا، فلا غروّ أن ألمانيا هي المقصد الأول بالنسبة إلى تركيا للخروج من عثرتها تلك. ولا تقتصر أهمية ألمانيا بالنسبة إلى تركيا على أن حجم التجارة الخارجية لتركيا مع هذه الدولة قد وصل إلى 26 بالمئة فحسب، بل لأن أهم الشركات الألمانية مثل سيمنز وبوش وهوغو بوس لها استثمارات ضخمة في تركيا. من أجل هذا، يمكن اعتبار زيارة ألمانيا بمثابة نقطة تحول بالنسبة لتركيا، خاصة في الوقت الحالي؛ حيث توقفت الاستثمارات الأجنبية، وتحولت تركيا إلى دولة طاردة لرؤوس الأموال.

ومن المنطقي أن تقدم ألمانيا يد العون لتركيا؛ لأنها من ناحية ستكون إحدى أكثر الدول التي سيصيبها الضرر من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة هناك، ومن ناحية أخرى فهناك عامل آخر يجعل أوروبا كلها، وليس ألمانيا فقط، تقدم على هذا وهو إبعاد تركيا عن التملق الروسي.

والحقيقة أن تحقيق التنمية الاقتصادية والاستقرار في تركيا يعود بالنفع على أوروبا من كافة النواحي؛ فتركيا لا تُعَدّ سوقا مهمّة فحسب، بل هي دولة لا يمكن لدول أوروبا الاستغناء عنها؛ بسبب دورها في تأمين الوصول إلى مصادر الطاقة، وتنفيذ السياسة الدفاعية لدول حلف الناتو، بالإضافة إلى أهميتها في حل مشكلة اللاجئين التي تحدثنا عنها.

وعلى الرغم من الصورة السيئة، التي تظهر بها السيدة ميركل أمام الرأي العام في ألمانيا بوصفها أكثر السياسيين سوءا، إلا أنها لن تتردد في مدّ يد العون إلى أردوغان. ولن يكون من السهل على أحد، حتى على أناسٍ مثلي؛ قضوا حياتهم في التحليلات السياسية، التكهن بما ستسفر عنه زيارة برلين؛ لأنني أجد صعوبة خلال السنوات الماضية في فهم قرارات رجال القصر وتصريحاتهم. ألا تشاطرونني الرأي بأن السياسة الداخلية والخارجية لتركيا صارت منذ عدة سنوات مثل حقل الألغام الذي يتعين علينا اجتنابه؟

العرب