العالم يواجه أزمة مالية عالمية جديدة

العالم يواجه أزمة مالية عالمية جديدة

شذى خليل*

تبقى احتمالية تأزّم الاقتصاد العالميّ قائمة ، إذ أن الثقة الزائدة في السوق كانت أهم أسباب الأزمة المالية في العام ألفين وثمانية ، حين أغفلت معظم الدول وقوع الأزمة ، وسط الإسراف في التفاؤل الذي قاد تلقائيًا إلى الإسراف في المضاربة والمخاطرة ، وقد كانت النتيجة هي الأزمة الكبيرة التي ضربت الاقتصاد العالميّ قبل عشر سنوات .
أسباب الأزمة العالمية :

يرى العديد من المتخصصين أن أهم أسباب الأزمة العالمية يمكن إيجازها كما يلي :
• طبيعة النظام المالي العالمي السائد في العالم ، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الاوروبي (النظام الرأسمالي) ، الذي يعطي حرية كاملة في التعاملات الاقتصادية والمالية دون تدخل الدولة ، والسماح بمضاربات غير منضبطة للأسهم ، ما أدى إلى رفع أسعارها السوقية بشكل كبير وغير منطقي .
• المضاربات غير المسئولة والمجنونة في أسعار النفط ، ما دفع الأسعار للوصول لقيمة خيالية .
• عدم وضع قواعد معينة ومحدد للبنوك لتنظيم عمليات الائتمان والإقراض ، ما جعل البنوك تقوم بعمليات الائتمان والإقراض بشكل كبير فيه مخاطرة كبيرة .
• عدم تدخل الدول في بادئ الأمر في إنقاذ كثير من البنوك والشركات من الإفلاس ، بحجة عدم تدخل الدولة في الاقتصاد (الحرية الاقتصادية) .
• عدم القدرة على التكهن في الوقت الحاضر بأسباب الأزمة المالية العالمية ، وان هناك عوامل عديدة ساهمت في هذه الأزمة ، ومنها: ارتفاع أسعار النفط ، وارتفاع أسعار الأسهم ، والتضخم .
• الإنفاق الكبير على الحروب ، وزيادة الإنفاق العسكري ، ما أدي إلى قلة الإنفاق في مجال التنمية .
• زيادة الخسائر الناجمة عن المشاكل والكوارث الطبيعية والبيئية بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري .
• توظيف الاقتصاد في خدمة الأهداف السياسية والعسكرية بدلا من التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
• الفساد الإداري والمالي وظهور الكثير من عمليات النصب والاحتيال حول العالم .

وفي ذات السياق – أي الأزمة العالمية ، أكد “جاك أتالي” رئيس البنك الأوروبي للتنمية في التسعينيات ، أن الأزمات المالية غير مستبعدة في ظل عجلة النمو التي تدور ، وإن ثمة مؤشرات ، أبرزها: تضخم معدلات الدين وتسجليها معدلات قياسية ، فالدين العام والخاص في الدول الأربع والأربعين الأكثر ثراءً بلغ (235%) من الناتج المحلي ، في حين سجلت (190%) فقط في ألفين وسبعة ، قبل الأزمة المالية الأخيرة ، بالإضافة إلى المغالاة في تقدير قيمة أصول الشركات وتزييف أسعارها من خلال عمليات الدمج .
وأضاف أتالي ، إن ترجيح احتمال تخفيف قيود التشريعات الأميركية المصرفية التي أرسيت إثر الأزمة المالية في 2007 ، يشير إلى أخطار جديدة ، وهو الأمر الذي يتبناه ترامب وتحدث عنه في أكثر من مناسبة ، لهذه الأسباب يرى “أتالي” أن الذُعر آت لا محالة ، سواء كان بعد شهر أم عام أم عشرة أعوام ، فما أن يدرك الدائنون أن ديونهم لن ترد لهم ، ستندلع موجة الذعر .

وقد تندلع موجة الذعر إثر حادثة في إيطاليا أو أميركا أو الصين ، فتسارع المصارف المركزية الى تقليص القروض المجانية التي تقدمها الى البنوك ، وتدرك الحكومات والشركات أثمان قروضها المتعاظمة ، وبعض الشركات هذه والحكومات ستضطر الى تقشف كبير ، فتنبعث الأزمة والبطالة ، وتتدنى القيمة الشرائية ، إذ بمقدور الحكومات والأشخاص والشركات إعداد العدة واستباق هذه الأزمة عن طريق المسارعة الى تقليص ديون سعر فوائدها المتغيرة (وفق نوع التبادل الذي تحصل فيه) ، وبيع مثل هذه الديون بأعلى الأسعار ، ولكن إذا عمّ الإقدام على هذه الخطوات العالم ، ساهم في اندلاع الأزمة ، عوض تقليصها ، لذا ، آن أوان البحث جماعياً في تقليص الدين ، وإرساء تشريعات مالية تُلتزم على المستوى الدولي .

بينما يرى “كين روجوف” أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد ، غالبًا ما يقع على كاهل البنوك المركزية العالمية المهام الأكثر حساسية خلال الأزمات المالية ، والأهم في العالم الوضع في البنكين المركزيين (الفيدرالي الأميركي والمركزي الأوروبي) ، قد يكون الوضع ضبابيًا بعض الشيء ، إذ أن الانهيار الذي حدث في بورصة نيويورك مؤخرًا ، كان في نفس اليوم الذي تسلم فيه “جيروم باول” منصبه رئيسًا للاحتياطي الفيدرالي خلفًا لجانيت يلين ، التي كانت تتبع سياسة حذرة جدًا ، في حين أن باول الذي عينه ترامب ، ربما لن يسلك الطريق نفسه ، بل على الأرجح سيلجأ لسياسة نقدية توسعية .

أما البنك المركزي الأوروبي ، فبات على مسافة قريبة جدًا من إنهاء التيسير الكمي ، الذي يعني الخطوات المتخذة من قبل البنك المركزي لدولة معينة بهدف تحفيز الاقتصاد ، فإن الدول التي عادةً تتبع التيسير الكمي ، هي الدول التي يعاني اقتصادها من ركود أو جمود اقتصادي ، كما يعرف التيسير الكمي على أنه عملية ضخ الأموال في السوق على شكل أصول مالية ، والهدف من ذلك هو إغراق السوق بالأموال وزيادة السيولة ،.
فيما حذر وزير المالية الألماني “وولفغانغ شوبل” خلال حديث لصحيفة “فاينانشال تايمز” في أكتوبر الماضي ، من أن الاقتصاد العالمي قد يشهد أزمة مالية جديدة ، بسبب اتباع البنوك المركزية سياسة نقدية توسعية ، وهو ما قد يؤدي إلى فقاعات جديدة ، مماثلة لتلك التي حدثت في العام ألفين وثمانية.

بينما يرى رئيس البنك المركزي الأوروبي “ماريو دراجي” أنه ما زالت هناك حاجة إلى تيسير نقدي “سخي” لأن أي خطوة سابقة لأوانها أو متسرعة ، قد تبدد العمل الذي أنجزه البنك ، لكن الفيصل في هذا الأمر يبقى هو مدى استعداد الأسواق المالية لقبول انتهاء سياسة التيسير الكمي ، لأن عدم الاستعداد يعني صدمة مالية قد ينتج عنها أزمة كبيرة .
أما وزير الخزانة الأمريكي “ستيفن منوتشين” فقد قال خلال مشاركته بالمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا في بداية العام الجاري “إن تراجع الدولار أفاد الميزان التجاري”، وأصبح لدى الكثيرين شبه قناعة أن هذا التصريح هو إعلان لحرب تجارية عالمية ، سيكون الدولار السلاح الأهم فيها ، إذ أن خفض الدولار عزز القدرة التنافسية للصادرات الأميركية ، لكن هذه الحرب التي ستبدأ بحرب العُملات ، ستنال من الصادرات الأوروبية واليابانية والصينية ، أو بمعنى آخر ستنال من كل الاقتصادات العالمية ، وهو ما يدفع الاقتصاد العالمي بالطبع لأزمة مالية عالمية لن تكون أقل حدة من أزمة 2008 .

الأمر الذي يبعث إلى المزيد من القلق الناتج عن الأخطاء السياسية في الولايات المتحدة وفي الصين ، والتي قد تقود إلى أزمة اقتصادية عالمية .
مع بداية العام الجاري ألفين وثمانية عشر ، بدأت الحرب التجارية ، حيث اتخذت لجنة التجارة الدولية الأميركية إجراءات مرتبطة بمنتجات صينية مثل صناديق العدة ، ومنجنيز السيليكون ، ما يؤدي إلى فرض رسوم كبيرة على تلك الواردات من الصين ، ومن الواضح أن البيت الأبيض بقيادة ترامب ، يبدأ باتخاذ إجراءات ضد واردات الخلايا الشمسية والصلب والألومنيوم من الصين ، هو تحرك يستهدف نظام الملكية الفكرية ، وممارسة إرغام نقل التكنولوجيا من قبل الشركات الأجنبية التي تعمل في الصين ، فهل ستنتهي هذه الحرب بكارثة اقتصادية ؟!
يرى الخبراء الاقتصاديون أن الحرب التجارية ستنال من التجارة العالمية بشكل عام ، ولن تدعم صادرات أمريكا فقط ، لأن الحرب لا يكون لها طرف واحد فقط ، وهو أمر يثير الذعر بالأسواق بكل تأكيد ، وهو ما دفع “جاكوب فرينكل” رئيس شركة “جي بي مورجان تشيس إنترناشيونال” للتحذير من أن حرب العملات لأغراض تجارية قد تدمر الاقتصاد العالمي ، مشيرًا إلى ضرورة منعها “بأي ثمن” موضحًا خلال تصريحات لوكالة “بلومبيرج” أن حرب العملات هي انعكاس للحمائية في السياسة النقدية .

في حين قالت “كرستين لاغارد” مدير عام صندوق النقد الدولي: إن الأزمة المالية العالمية ستظل علامة فارقة للجيل الذي خاضها .
وأكدت “لاغارد” على ضرورة الاستفادة من الأزمة المالية العالمية في ذكرى مرور عشر سنوات على إعلان رابع أكبر بنك أميركي “ليمان براذرز” آنذاك إفلاسه ، إثر الخسارة التي حدثت في سوق الرهن العقاري ، لاسيما بعد أن بلغت الحصة السوقية للقروض العقارية عالية المخاطر في الولايات المتحدة (40%) من مجموع سندات الدين المضمونة برهن عقاري بحلول عام 2006 ، بعد أن كان هذا النوع من القروض شبه معدوم في مطلع تسعينات القرن الماضي .

إن تداعيات انهيار بنك “ليمان براذرز” خلقت توجهاً جماعياً لسحب الودائع من النظام المالي ، ما تسبب في أزمة نظامية ، فكانت المحصلة وقوع (24) بلداً ضحية للأزمات المصرفية ، ولم يعد النشاط الاقتصادي إلى سابق عهده ، ولا زالت انعكاسات الأزمة موجودة حتى اليوم .
وتابعت “لاغارد” قائلة ، إن التكاليف الاقتصادية الثقيلة التي تحملها الأشخاص ، جعلتهم يستشعروا الغضب من إنقاذ البنوك وإفلات مسؤوليها من العقاب ، كانت من العوامل المؤثرة لظهور رد الفعل المناهض للعولمة ، وبخاصة في الاقتصادات المتقدمة ، وفقدان الثقة في الحكومات والمؤسسات .

وأضافت “لاغارد” لكن مرور عشر سنوات على انهيار “ليمان براذرز” يعطينا فرصة لتقييم الإجراءات المتخذة لمواجهة الأزمة على مدار العقد الماضي .
لذا ، لا بد لدول العالم أن تتكاتف وتحاول أن تجد حلا يساهم بشكل جذري في حل هذه الأزمة بأسرع وقت ممكن ، وضرورة القضاء على أسبابها وتلافيها في المستقبل ، منعا لظهورها مرة أخرى .
عندما يتجه الاقتصاد العالمي نحو الركود والكساد ، يؤدي الى عجز الحكومات عن تنفيذ سياساتها التنموية ، كما يجعل المؤسسات المالية والبنوك تشدد وربما لا تقوم بعمليات التمويل والإقراض ، وهذا بدوره يحد من أعمال التنمية والتشييد ، وبالتالي تراجع الطلب على الكثير من المواد والمنتجات المختلفة ، ما يؤدي إلى تراجع مستويات الدخل القومي ، ودخل الفرد حول العالم ، وهذا بدوره يقلل من مستويات الرفاهية والقدرة على الإنفاق ، وانخفاض القوة الشرائية ، وانخفاض الإقبال على مختلف المنتجات ، وهذا ينعكس بدوره على وحدات الإنتاج المختلفة ، ما يجعلها تستغني عن الكثير من العمال .

وهنا ، لا بد لدول العالم أن تتكاتف وتحاول أن تجد حلا يساهم بشكل جذري في مواجهة أي أزمة مالية يمكن أن تعصف باقتصاديات دول العالم .

وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية