خطة الإنقاذ العمانية تحولت إلى ورطة كاملة لإيران

خطة الإنقاذ العمانية تحولت إلى ورطة كاملة لإيران

واشنطن – تحولت “خطة إنقاذ” عمانية تقود إلى إخراج إيران من عزلتها الدولية ورفع العقوبات الإقتصادية، عبر التوصل إلى اتفاق نووي مع القوى الكبرى يمنحها شرعية دولية جديدة، إلى كارثة على الإيرانيين، بعد انهيار الاتفاق، الذي خلق خلفه مقومات جديدة لمنظومة عقوبات أميركية غير مسبوقة، وحصارا لم تعهده إيران من قبل.

وكانت النوايا العمانية تبنى على استراتيجية دقيقة تحولها إلى “حلال المشاكل” في المنطقة، وتضعها في موقع نادر استنادا إلى علاقات وطيدة مع قطبي الصراع في المنطقة، الخليج وإيران.

لكن يبدو أن استراتيجية الرئيس الأميركي دونالد ترامب قضت على آمال مسقط، لكن تأثيرا على إيران كان أكثر عمقا وقسوة. فقبضة النظام الإيراني على الحكم ترتخي تدريجيا، وصادرات النفط تتجه إلى الانهيار، مع بقاء ناقلات النفط الإيرانية في مياه الخليج، مع امتناع المصدرين عن استقبالها خوفا من إغضاب الولايات المتحدة، كما أن أذرعها والميليشيات المدعومة منها في المنطقة تواجه ضغطا وهزائم متلاحقة من اليمن إلى العراق.

فشل “الدبلوماسية الوقائية”
تجسد الدور المركزي العماني في المراحل الأولى التي أفضت لاحقا إلى توصل الدول الكبرى وإيران إلى اتفاق مشترك بشأن برنامجها النووي، لكن الجهود العمانية منيت أيضا بانتكاسة من نوع آخر، إذ توقفت عجلة “الدبلوماسية الوقائية” عن الدوران نحو أهداف مسقط الحقيقية التي تقف وراء لعب دور الوسيط منذ البداية.

وتحول مصطلح “الدبلوماسية الوقائية” إلى علامة تجارية بالنسبة لوزير الخارجية العماني يوسف بن علوي، الذي دأب على استخدامه للإشارة إلى خطة متراكمة تتكون من طبقات فوق بعضها من التحركات والمشاورات والاتصالات، التي أخذت سلطنة عمان المبادرة فيها، وأوصلت مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين وألمانيا بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي) إلى توقيع الاتفاق في 2015، وصعدت بالسياسي الأميركي المخضرم جون كيري إلى موقع وزير الخارجية.

الجهود العمانية منيت بانتكاسة من نوع آخر، إذ توقفت عجلة “الدبلوماسية الوقائية” عن الدوران نحو أهداف مسقط التي تقف وراء لعب دور الوسيط منذ البداية

وكان كيري أول المشاركين في وضع أسس “القناة الخلفية” التي أنشأتها سلطنة عمان بين الولايات المتحدة وإيران، والتي أطلقتها في شهر مايو 2011، بحسب ما جاء في مذكرات كيري، التي صدرت بعنوان “كل يوم جديد إضافة”.

وقتها كان كيري مازال يشغل موقع رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، عندما تعرف على سالم الإسماعيلي، المبعوث الخاص للسلطان قابوس بن سعيد، والذي سيتحول لاحقا إلى حجر الزاوية في عملية اتصالات مكثفة بين طهران ومسقط وواشنطن.

وعلى ما يبدو، فإن إدارة الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما كانت منقسمة حول قدرة العمانيين على إنجاز مهمة الوساطة بين بلدين لم يقيما أي علاقات دبلوماسية بينهما منذ أكثر من 40 عاما. وكانت وزيرة الخارجية الأميركية وقتها هيلاري كلينتون أحد أكثر المشككين في قدرة مسقط على كسر الجليد بين الجانبين، فقرر الأميركيون وضع سلطنة عمان في اختبار مبدئي، قبل المضي قدما في الحديث إلى الإيرانيين.

يتلخص هذا الاختبار في توسط سلطنة عمان، متمثلة في سالم الإسماعيلي، لدى إيران في الإفراج عن أحد أو كل الأميركيين الثلاثة الذين كان يحتجزهم الحرس الثوري الإيراني وقتذاك بتهمة التجسس، بينما كانوا يقومون برحلة تسلق جبال وسفاري في إيران. ونجح الإسماعيلي في إطلاق سراح أحدهم، وتدعى سارة شورد، في سبتمبر عام 2010، على أن يتم الإفراج عن الشخصين الآخرين لاحقا.

ولم يكن خافيا على العمانيين وجهة النظر السلبية التي كانت كلينتون تكنها في قدراتهم على إقناع الإيرانيين بالجلوس على طاولة المفاوضات حول برنامجهم النووي، الذي يشير كيري في مذكراته إلى تقديرات خبراء أميركيين قالوا حينها جعل الإيرانيين يقفون على بعد ثلاثة أشهر فقط من البدء بتصنيع قنبلة نووية.

كما أدرك المسؤولون العمانيون أن هيلاري كلينتون كانت تخطط للخروج، في العام التالي، من وزارة الخارجية لكي يكون لديها الوقت الكافي لتأسيس حملتها الانتخابية استعدادا للانتخابات الرئاسية عام 2016. ويعني ذلك حرصا كبيرا تتبناه كلينتون يقضي بعدم الدخول بثقلها في ملفات محورية وحساسة قد يؤدي النجاح أو الفشل فيها إلى التأثير بشكل مباشر على سعيها للوصول إلى البيت الأبيض. وخاضت كلينتون الانتخابات لاحقا ضد الرئيس دونالد ترامب وخسرتها.

لكن العمانيين كانوا يعولون على سيناريو مغاير تماما.

وفي مايو 2011، تلقى كيري اتصالا من سالم الإسماعيلي، الذي لم يكن قد التقاه على المستوى الشخصي من قبل، لكن كان قد سمع عن دوره من التقارير المتعلقة بقضية الإفراج عن شورد. ويقول محللون إن هذا الاتصال هو ما سيمهد الطريق لاحقا لاختيار كيري لشغل منصب وزير الخارجية.

رؤية طموحة
كان العمانيون يرون أن المنطقة تتجه إلى طريق مسدود، وأن تراكم الأزمات والتحديات الإقليمية، التي كانت قد ظهرت بوادرها منذ اندلاع أحداث الربيع العربي قبل أشهر قليلة، ينذر بانفجار إقليمي مدو.

لكن المعضلة الاستراتيجية بالنسبة للعمانيين كانت البرنامج النووي الإيراني، الذي يقول كيري إنه جعل العمانيين يخشون سباق تسلح في المنطقة، إذا ما تمكنت إيران من صناعة القنبلة النووية. ودفع ذلك السلطان قابوس بن سعيد إلى أخذ زمام المبادرة، اعتمادا على وجود رئيس ليبرالي في البيت الأبيض يؤمن بالدبلوماسية في حل النزاعات الحساسة، والأثر الكبير الذي تركه نظام العقوبات الأميركية والدولية على الاقتصاد الإيراني، خلال فترة رئاسة الرئيس المتشدد أحمدي نجاد.

وكان السلطان قابوس يرى في الاتفاق النووي مقدمة فقط لاتفاقات أخرى تقوم على مقاربات دبلوماسية غير تقليدية وكافية لإحداث شرخ في جبل الجليد الذي كان يخيم وقتذاك على العلاقات الإقليمية بشكل عام.

في أحد أيام ربيع عام 2012، التقى جون كيري بسالم الإسماعيلي في مطعم مورتون في جورجتاون، وفي هذا اللقاء وضعا معا استراتيجية إطلاق المحادثات السرية

وفي يوليو 2015، أي بعد التوصل إلى الاتفاق النووي بأيام، قال يوسف بن علوي، خلال مقابلة أجراها معه التلفزيون العماني، إن السلطنة ترى في هذا الاتفاق “حراكا سياسيا دوليا لمعالجة جميع القضايا الأخرى في المنطقة وخارجها، والتي تحتاج إلى التعامل معها بصبر”.

وأضاف “هذا سيؤسس لحوار سياسي ودبلوماسي تشترك فيه جميع الدول الإقليمية والكبرى في معالجة القضايا الأخرى، كالعراق واليمن وسوريا وفلسطين، بروحية هذا الاتفاق الذي أسس في الأصل لبناء الثقة. أعتقد أن هذا الاتفاق كان جديدا في تفاصيله، وأسس لنمط جديد من الدبلوماسية الهادئة والدقيقة”.

وكان العمانيون يعولون على فوز هيلاري كلينتون في الانتخابات الرئاسية، الكل تتحقق رؤاهم. وبالفعل توقع كثيرون في مسقط هذه النتيجة، التي كانوا يأملون في أن تمكنهم من بناء زخم إقليمي يقوم على هذا الاتفاق، ويقود إلى بداية لحوار بين الخليجيين وإيران، ينهي ملفات معقدة ينخرط فيها الجانبان بأجندات متناقضة.

لكن صعود ترامب إلى الحكم في واشنطن سيخلط أوراق العمانيين لاحقا، وسيعيد جهودهم، التي بدأت بشكل سري ثم تحولت إلى إنجاز، إلى نقطة الصفر.

ويقول كيري إن هذه الجهود العمانية السرية كانت تتناسب طرديا مع انطباعات المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي، ومستوى التمثيل من قبل إيران والولايات المتحدة في اللقاءات الأولى، ومزاج المتشددين الإيرانيين الذين كانوا لا يزالون مسيطرين على السلطة بشكل حاسم. كما كانت مناورات أوباما الاستطلاعية تلعب دورا أحيانا في شعور العمانيين بخيبة أمل في عدم جدية الولايات المتحدة في المضي قدما في المشاركة بمنظومة “القناة الخلفية” التي أنشأتها وأشرفت عليها سلطنة عمان.

وحظيت جهود عمان بالضوء الأخضر من قبل الولايات المتحدة بعد زيارة قام بها كيري إلى مسقط في 8 ديسمبر 2011، التقى خلالها السلطان قابوس، الذي طرح عليه لأول مرة إمكانية قيام سلطنة عمان بالوساطة بين الجانبين. كانت الرسالة الأساسية التي وصلت لكيري خلال هذه الزيارة هي أنه يجب على الولايات المتحدة أن تظهر “صدقا واحتراما متبادلا خلال عملية التفاوض. كما يجب تجنب إشعار الإيرانيين بأنها للضغط عليهم فقط، أو إجبارهم على تقديم تنازلات من جانب واحد، وقتها سيخرجون من الغرفة في الحال”. وشكلت هذه النصائح النهج الدبلوماسي الذي ستتبناه الولايات المتحدة مع إيران طوال مراحل التفاوض المتعددة.

وخلال الأشهر السابقة على هذه الزيارة والتي ستليها أيضا، لم تتوقف المحادثات واللقاءات الشخصية بين كيري وسالم الإسماعيلي، الذي يبدو أنه كان رجل المهام الصعبة في عملية التواصل مع الإيرانيين طوال الوقت.

وخلال إجازة رأس السنة، أصيب كيري بكسر في الأنف خلال ممارسته للعبة هوكي الجليد مع جيرانه في “إيداهو”. ورغم ذلك أصر على العودة إلى عمان للقاء المسؤولين هناك في زيارة كانت مقررة سابقا يوم 3 يناير 2012، أي بعد أقل من شهر واحد من زيارته الأولى، إذ كان يدرك أن إمساكه بملف المفاوضات السرية مقدمة لصعوده لاحقا لتولي منصب محوري في إدارة أوباما الثانية، التي ستشكل حتما دون كلينتون المنشغلة بحملتها الرئاسية.

وفي أحد أيام ربيع عام 2012، التقى كيري بالإسماعيلي في مطعم “مورتون” في جورجتاون، وفي هذا اللقاء وضعا معا استراتيجية إطلاق المحادثات السرية، بدءا بالقضايا الرئيسية التي سيتم طرحها على طاولة المباحثات، ووصولا إلى تفاصيل الوفود وتحركاتها وسبل وصولها إلى غرف الاجتماعات دون الاحتكاك بوسائل الإعلام.

وبعد اختبارات استغرقت عدة أشهر لجدية الطرفين، لعب خلالها مسؤولون عمانيون دورا حاسما في إعادة بناء الثقة بين الإيرانيين والأميركيين، بدأت مرحلة المفاوضات المباشرة. ويقول كيري إن أول اجتماع كان اختبارا في حد ذاته، وكان يتطلب إرسال مسؤولين غير معروفين للرأي العام، من أجل الحفاظ على سرية التحركات وعدم لفت الانتباه.

وقتها نصح توم دونيلون، مستشار الأمن القومي، قبل صعود سوزان رايس لنفس المنصب لاحقا، كيري بعدم إظهار أي ارتباط بينه وبين هذا الملف “لأنك لا تعرف بالضبط ماذا سيحصل في ولاية الرئيس الثانية”. وكان دونيلون يخشى من أن مشاركة كيري بنفسه في التفاوض السري مع الإيرانيين من الممكن أن تحوله إلى ورقة محروقة، وتحرمه من تولي منصب في الإدارة.

كان ذلك قبل أشهر قليلة قبل أن ينحي أوباما كيري جانبا، خلال إحدى جلسات التحضير لحملته الانتخابية لدعم ترشحه لولاية ثانية عام 2012، ليخبره بأن أحدهم سيتواصل معه بخصوص ترشيحه لتولي منصب كبير في الإدارة الجديدة. كان هذا المنصب بالطبع هو وزير الخارجية.

وبذلك تكون سلطنة عمان قد لعبت دورا كبيرا، ولو كان غير مباشر، في تولي كيري هذا المنصب، الذي سيتواجد في صيف 2015 للتوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران.

غضب أوروبي
ضم أول وفد يلتقي الإيرانيين كلا من جيك سوليفان نائب كبير الموظفين في وزارة الخارجية، وبونيت تالور الموظف المسؤول عن الملف الإيراني في مجلس الأمن القومي. ولم يقد الاجتماع الأول إلى نتائج مثمرة، لكن كيري اعتبر أن مجرد حضور الإيرانيين للاجتماع يمكن اعتباره تحولا يعكس جدية إيرانية في الدخول في مفاوضات تفضي لاتفاق.

وفي نفس الوقت كانت الولايات المتحدة تحاول تحييد التحدي الإسرائيلي. فالإسرائيليون كانوا على استعداد كامل لضرب المنشآت النووية الإيرانية في أي لحظة. ويقول كيري إن الأمر وصل إلى حد “وضع الخطط العسكرية وتوقع أن الضربة ستحصل في ليلة قمراء تكون فيها السماء سوداء” كي لا يلاحظ الإيرانيون الطائرات الإسرائيلية. فهم كيري حينها أن عليه الإسراع في تحويل الأمر إلى مفاوضات مباشرة وعلنية.

وبالفعل، عقد اللقاء الثاني مع الإيرانيين بحضور بيل بيرنز، نائب وزير الخارجية المخضرم، الذي قاد الوفد الأميركي، بالتزامن مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الإيرانية، التي أتت بحسن روحاني إلى سدة الحكم. وشكل ذلك تحولا كبيرا في الموقف الإيراني، الذي ظهر في سلوك الوفد بشكل أكثر جدية وانفتاحا، إذ وصل روحاني إلى الحكم استنادا على ورقة “تحسين الاقتصاد” وكان يطمح إلى أن تقوم الولايات المتحدة برفع جزئي للعقوبات تمنحه هذه الميزة.

لكن كان هناك تحول مقابل في الموقف الأميركي، إذ كانت الولايات المتحدة قبل هذه المفاوضات تعارض الإجماع الأوروبي بأن الاتفاق من الممكن أن يسمح لإيران بالاستمرار في تخصيب اليورانيوم لكن بنسب مخفضة، لا تسمح لها بالتوصل إلى السلاح النووي، بينما كان الموقف الأميركي التقليدي متمسكا بمنع إيران من أي تخصيب لليورانيوم.

جهود عمان حظيت بالضوء الأخضر من قبل الولايات المتحدة بعد زيارة قام بها كيري إلى مسقط في 8 ديسمبر 2011

وتسبب ذلك لاحقا، عندما قام مسؤولون أميركيون بكشف المفاوضات السرية، في بروكسل في غضب الأوروبيين الذين رأوا في الخطوة الأميركية، ليس فقط تخطيا للحلفاء، لكن أيضا تغيرا جذريا في الموقف الأميركي لصالح تبني وجهة نظرهم، دون القيام بإعلامهم أولا بذلك.

وبقي الغضب الأوروبي، حتى بعد انطلاق المفاوضات الرسمية في جنيف عام 2013. وفي بعض الأحيان هددت تصريحات وزراء خارجية ومسؤولين أوروبيين “التوافق” الغربي الذي كان يمثل هدفا استراتيجيا بالنسبة لأوباما، المقتنع طوال الوقت أن لا اتفاق أفضل دائما من اتفاق سيء، وأنه لا يمكن التوصل إلى اتفاق جيد مع الإيرانيين دون أن يحافظ الغربيون على وحدتهم.

وفي هذه المرحلة كانت سلطنة عمان قد خرجت من الصورة الواسعة لتفاصيل الاتفاق، بعدما دخلت مرحلة التفاوض إلى التفاصيل التقنية.

وإلى اليوم تبقى كلمات يوسف بن علوي التي عكست آمالا كبيرة وقتها على حل أزمات المنطقة، إذ قال بعد الإعلان عن الاتفاق مباشرة “ينبغي أن نختبر قدراتنا على استخدام وسائل الدبلوماسية الوقائية، وأعتقد أن نجاح هذه الوسيلة في الملف النووي الإيراني، بما فيه من تعقيدات، يدل على أن الدبلوماسية الوقائية فاعلة وقادرة على حل أعقد الملفات”، لكن بعد مرور أربعة أشهر على انهيار هذا الاتفاق، يتضح أن المغامرة العمانية لإنقاذ إيران قد تقود إلى تدميرها بشكل كامل.

العرب