بعد قصة أشرف مروان، فيلم جديد عن عملية اختطاف أدولف إيخمان

بعد قصة أشرف مروان، فيلم جديد عن عملية اختطاف أدولف إيخمان

 

بعد أن شغلت إسرائيل العالم بالفيلم السينمائي “الملاك”، وستطلقه قريبا شبكة نتفليكس، حول رجل الأعمال المصري أشرف مروان وعلاقته المفترضة بجهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، ضمن قصة هوليوودية تقوي الرواية الإسرائيلية، تعكف الآلة الدعائية الإسرائيلية على الترويج لتاريخها الاستخباراتي عبر فيلم جديد يحمل عنوان أوبريشن فينال، الذي ينقل الرواية الإسرائيلية لعملية اختطاف أدولف إيخمان أحد المسؤولين الكبار في الرايخ الثالث، وضابط في القوات الخاصة الألمانية، من العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس.

وأنتج الإسرائيليون العشرات من الأفلام واخترعوا العديد من القصص السينمائية عن بطولاتهم، التي تكثف عددها في السنوات الأخيرة حتى أن البعض أطلق عليها مصطلح “سينما الموساد”، لتركيزها على مجال الاستخبارات والجوسسة.

ويقول الناقد الفني، كمال رمزي، إن “أي فيلم يعتبر دائما وثيقة على صانّعه وليس على الشخصية التي يقدمها، ولا ينفصل فيلم أوبريشن فينال (المهمة الأخيرة) عن هذا السياق.

لفت هذا الفيلم، الذي أخرجه كريس ويتز، انتباه الكاتب والصحافي آندرو ناغورسكي، المهتم بتاريخ المخابرات الإسرائيلية، ومؤلف كتاب “ذو نازي هانترز”، ليسلط عليه الضوء في تقرير نقدي نشرته مؤخرا مجلة دايلي بيست، أماط من خلاله اللثام عن العديد من الجوانب المتعلقة بالرواية الإسرائيلية السينمائية ومقارنتها بالوقائع التاريخية الحقيقية حول قصة القبض على إيخمان.

ليلة القبض على إيخمان

في مساء يوم 10 مايو 1960، أي قبل يوم واحد فقط من اختطاف إسرائيل لأدولف آيخمان، أحد المسؤولين الكبار في الرايخ الثالث، اجتمع رئيس الموساد، إيسر هاريل، بفريقه من العملاء في بوينس آيرس. وقال لهم إنه “وقع عليهم الاختيار” لتنفيذ عملية اختطاف الرجل الذي كان يعرف بأنه العقل المدبر لحركة القطارات التي سلمت الملايين من اليهود إلى محتشد اعتقال آوس شفيتز وغيره من معسكرات الاعتقال. وقال رئيس الموساد “للمرة الأولى سيحاكم اليهود قاتلهم”، مشيرا إلى الخطة التي شملت تهريب آيخمان من الأرجنتين إلى القدس، حيث سيحكم عليه بالإعدام.

وفي رواية فيلم أوبريشن فينال يتم تسليم الرسالة مباشرة إلى الفريق من قبل رئيس الوزراء دافيد بن غوريون قبل أن يغادر العملاء إسرائيل إلى الأرجنتين، وهذا المشهد يعد من أحد التعديلات العديدة التي طرأت على أحداث الفيلم، وفق ناغورسكي.

مقارنة بالأفلام الخيالية السابقة التي تدور حول اختطاف النازيين مثل “ذي بويز فروم برازيل” و”ماراثون مان” والعديد من الأفلام الأخرى، فإن هذا الفيلم الجديد يعبر عن الجهد الذي تم بذله من أجل إعادة بناء أشهر حوادث الاختطاف في العصر الحديث. وفي نفس الوقت، لا يمكن مقاومة إضافة بعض الزيادات وإجراء بعض التعديلات التي ترقى إلى المبالغة الدرامية.

ويقول ناغورسكي “قد يبدو الأمر عاديا، لكن الحقيقة غالبا ما تكون أغرب من الخيال، وفي حالة آيخمان، كان هذا واضحا. حيث اكتشفت الكثير عندما أجريت مقابلة مع رافي إيتان، قائد العملية، ونائبه أفراهام شالوم في تل أبيب في عام 2014 أثناء العمل على كتابي ذا نازي هانترز”.

ويتساءل “بالتفكير في تصريحاتهم جنبا إلى جنب مع المذكرات التي قدمها أعضاء الفريق الذين ماتوا في وقت سابق، يطرح التساؤل لماذا لم تفهم هوليوود أبدا أن القصة الأكثر درامية هي تلك التي تلتزم بشكل وثيق بالوقائع”.

يتضمن الفيلم مشهدا يشرح فيه رئيس الموساد هاريل أن الحاضر (بمعنى التهديدات الوجودية التي تواجهها إسرائيل منذ الأيام الأولى من وجودها) هو أولوية قصوى له، وهذا هو السبب في أنه كان مترددا في البداية في إضفاء الكثير من المصداقية على المعلومات التي تلقاها عن آيخمان. لكن الفيلم ينقل الانطباع بأن كل الشكوك سرعان ما تلاشت في ظل الرغبة العارمة في القبض على آيخمان، الذي يلعب دوره بن كينجسلي.

وبحسب ما صرح به إيتان، كان الموساد يركز أكثر بكثير على محاولته تحديد الجواسيس الذين يزرعهم جهاز الاستخبارات السوفيتية (الكاي. جي. بي) وغيره من الأجهزة الأمنية التابعة للكتلة الشرقية بين الوافدين الجدد إلى إسرائيل.

احتاجت إسرائيل إلى تدفق المستوطنين، لكن الموساد كان يعلم أن بين القادمين عملاء كانوا ينقلون المعلومات الاستخباراتية إلى موسكو والتي سارعت بدورها، وبمساعدة عملائها، إلى نقلها إلى حلفائها من العرب.

وقال هاريل “كانت هذه هي الأولوية الأولى، وليس القبض على النازيين”. ولم يختلف رأي شالوم، نائبه في عملية آيخمان، كثيرا عنه، حيث اعترف قائلا “لم أكن أبدا مهتما بمطاردة النازيين”. وساهمت هذه المواقف في إثارة بعض الشكوك بشأن عملية اختطاف آيخمان.

ترسيخ قصة الهولوكست

في الفيلم، يقوم فريتز باور، وهو مدع يهودي ألماني من أصل غربي، والذي لم يثق كثيرا في تصرف حكومته حيال الأمر، بنقل المعلومات السرية إلى الموساد الذي سرعان ما يستجيب لهذه المعلومات ويضعها في خطة للتنفيذ.

في الواقع، أجرى باور أول اتصال مع مسؤول إسرائيلي في ألمانيا في 17 سبتمبر 1957، مما يعني أن الأمر استغرق أكثر من عامين حتى يتم تنفيذ مخطط الاختطاف. وخلال تلك الفترة، بدأ الزعماء الإسرائيليون يشعرون بالمزيد من الثقة بشأن قوة “الدولة” الجديدة وأيضا بدأوا يشعرون بالقلق بشأن السرعة التي بدأ العالم ينسى بها “المحرقة”.

كان بن غوريون وكان قلقا من مواقف الشباب الإسرائيليين، ولا سيما بعد أن أوضح غابرييل باخ، الناجي الوحيد المتبقي على قيد الحياة من فريق الادعاء في قضية آيخمان، أن المعلمين كانوا يشكون من أن طلابهم لا يريدون أن يسمعوا عن الهولوكوست، لأن الكثير من شباب إسرائيل كانوا يشعرون بالخجل، حيث يمكن لأي شاب إسرائيلي أن يفهم أنه يمكن أن يتأذى جراء الحرب، أو أنه يمكن أن يلقى حتفه جراء الحرب، لكنه لا يستطيع ببساطة أن يفهم كيف أن الملايين من الناس استسلموا لهذه الإبادة من دون إحداث ثورة، ما يضعف من الرواية الإسرائيلية الضخمة حول الهولوكوست.

تلقى باور معلوماته عن آيخمان من لوثار هيرمان، وهو يهودي ألماني أعمى يعيش في الأرجنتين مع زوجته المسيحية الألمانية وابنته سيلفيا، والذين تم قبولهم باعتبارهم من الجالية الألمانية هناك. وعندما بدأت سيلفيا بمواعدة شاب يدعى نيكولاس آيخمان، اكتشف والدها أنه من المحتمل أن يكون آيخمان المطلوب.

وبشكل مثير للدهشة، غيّر آيخمان الأب اسمه إلى ريكاردو كليمنت، لكنه لم يصر على أن يغير أسماء أبنائه. وبعد مرور أكثر من عقد على الحرب، شعر معظم النازيين الذين لم يتم إعدامهم أو محاكمتهم في نورمبرج أو في أي مكان آخر بأنهم على ثقة متزايدة بأنهم يعيشون أحرارا في بلادهم.

عندما أرسل هاريل وكيلا إلى بوينوس آيريس للتحقق من قصة هيرمان، اصطدم بحقيقة أن آيخمان كان يعيش في منطقة فقيرة، وكان الشارع غير ممهد. وكما قال هاريل “لم تتوافق صورة البيت الصغير البائس الذي رآه الوكيل الذي أرسلته مع صورتنا عن نمط الحياة المترفة التي ظننا أن ضابط قوات الأمن الخاصة في رتبة آيخمان كان يعيشها”.

في ذلك الوقت، انتشر الافتراض الشائع بأن “مجرمي الحرب” النازيين قد هرّبوا ثروتهم الهائلة التي استولوا عليها من ضحاياهم. كما اصطدم هذا الوكيل أيضا بمنظر المرأة الأوروبية التي شاهدها في فناء هذا المنزل البائس. كان من المعروف عن آيخمان في ذلك الوقت أنه “زير نساء”، ولم يصدق الوكيل أن هذه هي زوجته.

وفي الفيلم، يرسل الموساد سيلفيا وهيرمان إلى منزل آيخمان في محاولة للحصول على بعض المعلومات. وفي نهاية المطاف يظهر الدليل أن هيرمان وابنته اكتشفا أنه هو الرجل المطلوب. ولكن من أجل التأثير الدرامي، تعرض النسخة السينمائية مشهدا يقوم فيه نيكولاس آيخمان بدعوة سيلفيا إلى اجتماع فاشي في بيونس آيريس، يقيمون فيه بعض الاحتفالات النازية في ظل وجود آيخمان الأب كضيف شرف. تتركه سيلفيا وتهرب منه، ثم تقر لاحقا بأنها يهودية.

بين الحقيقة والخيال

بالطبع لم يحدث أي شيء من هذا على أرض الواقع. قد يكون آيخمان غير مهتم بشأن الحفاظ على المظاهر، لكنه كان حريصا على أن يظل بعيدا عن الأضواء. كما لم تُبلغ سيلفيا صديقها بخلفية عائلتها.

لكن حادثة الاختطاف تم تصويرها بمنتهى الدقة وتطابقت تماما مع الواقع. فبينما كان آيخمان يترجل من الحافلة بعد عودته من عمله في مصنع سيارات مرسيدس، كان الفريق جاهزا لإتمام المهمة.

تم إسناد مهمة مباغتة آيخمان لبيتر مالكين، العضو الأقوى في المجموعة. وقال مالكين في وقت لاحق “لم يحدث من قبل في حياتي المهنية أن شعرت بالخوف. لقد كنت خائفا من أن أفشل”.

أدرك العملاء حينها أنه كان من السهل عليهم قتل هدفهم، ولكن كان من الصعب عليهم على ما يبدو أن يقبضوا عليه وأن يبقوه على قيد الحياة حتى إخراجه من البلاد.

ارتدى مالكين قفازات مبطنة بالفرو عندما استعد للقيام بمهمته. يتذكر ذلك التاريخ قائلا “إن فكرة وضع يدي العارية على الفم الذي أمر بموت الملايين، والشعور بنفثه ولعابه على بشرتي ملأتني بشعور ساحق بالاشمئزاز”.

اندفع مالكين بالرجل نحو أحد الخنادق، حينما بدأ آيخمان بالصراخ. اندفع عملاء الموساد الآخرون وسحبوه إلى واحدة من السيارتين اللتين كانتا في الانتظار. وضعوه على الأرض بين المقاعد الأمامية والخلفية وقاموا بتغطيته. وقام أحد الوكلاء بإصدار أمر حاد إلى آيخمان بالألمانية “إذا لم تبق هادئا، فسأقتلك”.

أما بخصوص آيخمان، الذي كان في ذلك الوقت يرتدي نظارات داكنة لا تمكنه من رؤية الكثير من حوله، فقد أومأ برأسه بعدما فهم ما يحدث له.

وفي المكان الذي تحفظ فيه العملاء على المسؤول الألماني المطلوب، أصر آيخمان في البداية على أن اسمه ريكاردو كليمنت. ولكن عندما طلب منه محقق الموساد معلومات عن طوله ومقاس حذائه، وتفاصيل أخرى، قاموا بمطابقة المعلومات مع بعضها، ولا سيما بعد تلقيهم إجاباته عن عضويته في الحزب النازي. عند هذه النقطة، اعترف بهويته الحقيقية.

كانت حال آيخمان، كسجين، مزرية على عكس ما تم تصويره في الفيلم، حيث كتب هاريل “لقد تصرف مثل العبد الخائف الذي كان هدفه هو إرضاء أسياده الجدد”. ووصفه مالكين بأنه “ضعيف يفتقر إلى الشجاعة لتقبل مصيره”.

وخلال الفترة التي احتجز فيها أعضاء فريق الموساد آيخمان، كانوا ينتظرون وصول رحلة خاصة من إسرائيل. لم تكن هناك رحلات جوية منتظمة بين البلدين في ذلك الوقت، واستخدم الإسرائيليون ذريعة إرسال وفد رفيع المستوى لحضور الاحتفال بالذكرى السنوية الخمسين بعد المئة لاستقلال الأرجنتين لاصطحاب سجينهم خارج البلاد.

وفي الفيلم، كان هذا وقت الذروة، عندما كان الفاشيون الأرجنتينيون، بقيادة ابن آيخمان، والشرطة المحلية يبحثون عنه بجنون من خلال عمل الكثير من الاتصالات. أما الحقيقة، فكانت أيضا مختلفة بعض الشيء.

في الواقع، لم تجرؤ عائلة آيخمان على تنبيه السلطات الأرجنتينية بشأن اختفائه لأن ذلك كان يعني الاعتراف بهويتها الحقيقية. وفي حين غضت حكومة الأرجنتين الطرف إلى حد بعيد عن مجرمي الحرب النازيين الذين يعيشون على أرضها، إلا أنها كانت لا تريد أن تتورط في هذه الفضائح. ونجح ابن آيخمان في تجنيد بعض الفاشيين المحليين للبحث عن والده، لكنهم لم يكونوا جزءا من أي إجراء رسمي لإنفاذ القانون.

وما كان يخافه إيتان وعملاء الموساد الآخرون في ذلك الوقت هو أنه سيتم القبض عليهم فقط بسبب إعاقتهم للطريق أو بسبب ارتكابهم مخالفات مرورية.

وكما قال إيتان، أعطاه هاريل أصفادا مفتوحة، واحتفظ بمفاتحيها لنفسه، وقال له إنه إذا لحقت بهم الشرطة الأرجنتينية، فعليه أن يقيّد يده إلى يد آيخمان ومن ثم يطلب رؤية السفير الإسرائيلي، وبذلك يضمن ألا يتم فصلهم عن بعض.

أخذ إيتان الأصفاد. لكنه اتفق، بعيدا عن هاريل، مع أحد عملائه، تسفي أهاروني، على قتل آيخمان إذا تطلب الأمر ذلك. ولم يتم إيقافهم وهم في طريقهم نحو المطار ليصعدوا على متن الطائرة، وتظاهر أعضاء الفريق بأكمله بأنهم من ضمن أفراد الطاقم. حتى أنهم ألبسوا آيخمان زي أفراد طاقم الطائرة.

وقاموا بتخديره للتأكد من أنه لن يفعل شيئا، لكن ذلك لم يكن ضروريا، بعد أن أكد لهم أنه سيواصل التعاون معهم، حتى أنه ذكّرهم، قبل أن يبدأ مفعول المخدر، بأن يلبسوه سترة الزي. وعندما مروا عبر بوابة المطار، بدا آيخمان وكأنه أحد أفراد الطاقم الذي تعافى لتوه من وعكة صحية، بينما كانت تصفية حسابه في القدس على وشك البدء.

العرب