الصورة السلبية للعربي في الذهنية الثقافية الإيرانية

الصورة السلبية للعربي في الذهنية الثقافية الإيرانية

صدر حديثاً عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة كتاب «الآخر العربي في الفكر الإيراني الحديث… دراسة في ضوء الاستشراق الإيرانيّ»، لأحد أهمّ خبراء الفكر السياسي الإيراني في العالم العربيّ، الدكتور محمد بن صقر السُّلمي، رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانيَّة، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعة ليدن الهولندية العريقة في تخصص الدراسات الإيرانية.

اشتمل الكتاب على ثمانية فصول، تمحورت حول الآخر وبناء الهُوِيَّة، ومكوناتها وتكوينها، وتعقيدات الوعي بالذات الإيرانيَّة، ونشوء الآخر العربي، والسلسلة الزرادشتية في إيران وموقفها منه، وإضفاء الطابع المؤسَّساتي على مفهوم الآخر العربي، والحركات القوميَّة خلال حكم البهلويين، وموقف إيران بعد الثورة الخمينية من الآخر العربي.

وتكمن أهمِّيَّة هذا الكتاب في ندرة موضوعه؛ لأنّ الدراسات المتخصصة في بحث الصورة السلبية للعرب في الذهنية الثقافية تبدو غائبة، ولا سيما أن دراسة هذه الصورة تتخطى نطاق الأعمال الروائية لتطال الدراسات الأكاديمية والكتابات التاريخيَّة. كما أنّ هذا الكتاب استطاع لملمة شتات مصادر القوميَّة الإيرانيَّة في مرجع واحد، فركَّز على النزعة القوميَّة الإيرانيَّة في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي تولى كِبَرها علمانيو إيران ومفكروها وأدباؤها الذين أرجعوا التخلُّفَ الإيراني إلى الإسلام والعرب أصحاب البلدان المتوحّشة كما سموهم، غير أنّ البيئة الإيرانيَّة عامّة لم تسمح بمسايرة ومجاراة أولئك المفكرين، لعوامل كثيرة، أهمُّها أنّ الحوزة والمؤسَّسة الدينية هي السُّلطة المهيمنة في إيران بعد توطيد ثنائية «الفقيه والسلطان» في عهد الصفويين، بالإضافة إلى أنّ خطاب الهُوِيَّة القوميَّة كان نخبويّاً في مفرداته وأدبياته، ولم يكُن له حواضن شعبية تجعله مقبولاً لدى العامّة، وهذا طرح يخالف ما ذهب إليه بعضُ الباحثين من أنّ الجماهير تلقَّفت الخطاب القومي العلمانيّ، ولكن هذا غير واردٍ منهجياً؛ لأنّ تأثير الأدب الفارسي الحديث في المجتمع الإيراني محدود جدّاً، ولم ينتشر إلا بين مجموعات صغيرة من الكُتَّاب والمفكرين، علاوة على ذلك أنّ الأمَّة الإيرانيَّة كانت متشظية إلى قوميات وإثنيات مختلفة تحكمها القبائلية ولم تكُن السُّلْطة السياسية مركزية بالصورة المعهودة في الدولة الحديثة، ففي نظام سياسي واجتماعي كهذا لا يُمكن للأدباء والمفكرين القوميين أن يؤثّروا في العامَّة.

ويُمكن قراءة محاور الكتاب من خلال العناصر التالية:

أولاً: بناء الهُوِيَّة الإيرانيَّة

ركَّز الباحث على مكوِّنات بناء الهُوِيَّة الإيرانيَّة التي يمكن رصدها في:

أ- المواطنة: وهي أداة يمكن بواسطتها تشكّل الهويات، وعناصرها: اللغة والتاريخ والثقافة، فعملية تكوين الهُوِيَّة تُحدّد العناصر التي ينبغي الإبقاء عليها، أو استبعادها؛ في سبيل أن نصبح ما قد نكون عليه بدلاً من أن نكون من نحن!

ب- الذاتيَّة: وهنا تبرز الذات نقيضاً للآخَر، من حيث الاختلافات اللغوية والعرقية ونحو ذلك.

ج- الثنائية: أي تقسيم العالم إلى خير وشرّ، أو أبيض وأسود، حتى يسهل حشد الناس تجاه القوميَّة المبتغاة.

ويُمكن تطبيقها على النموذج الإيراني – ما بعد الدولة الحديثة – والحكم من خلالها على مدى ترسيخ الهُوِيَّة الإيرانيَّة من عدمه، ومدى مطابقة الأدوات لهذه العناصر.

ثانياً: الصراع الإيراني – العربي

في نهاية القرن التاسع عشر حاول مفكِّرو الفرس، ممن يُتقِنون العربية ويُعادُونها في آن، ويتبنَّون الشعوبية، أن يستحدثوا هُويَّة فارسيَّة جديدة. واختِيرَ الآخر العربي تحديداً لإبراز ذاتية الحضارة الفارسيَّة، وترسيخ هُوّيتها.

ويطرح الباحثُ سؤالاً مُهِمّاً: لماذا اختِيرَ الآخر العربي عدوّاً للقوميَّة الإيرانيَّة ومُحفّزاً للانكفاء؟ أو لماذا تُحَدَّد بإزاء الآخر العربي؟ وهل لذلك علاقة بالحركة الشعوبيَّة القديمة في عهد الأمويين والعباسيين؟

والحقّ أنّ الشعوبيَّة القديمة شهدت ركوداً، حتى انبعثت في العصر الحديث على أيدي أدباء ومفكرين إيرانيين، مما يمكن تسميتها «الشعوبيَّة الجديدة»، واحتاج هذا الانبعاث إلى قاعدة جماهيريَّة تنطلق من خلالها، وتخلق عدوّاً لها وإن كان متوهَّماً؛ هو الآخر العربي ذلك أنّهم «دمَّروا الحضارة الفارسيَّة وقضوا على أحلام الإمبراطورية»، ومن ثمّ تُبرمج العقول الإيرانيّة على عودة ذلك الزمان.

فكيف التفت المفكرون والأدباء إلى النموذج القومي الإيراني بعيداً عن العروبة والإسلام مع خفوت هذا النموذج الشعوبي لقرون ممتدة؟ يُجيب الكتابُ على هذا الطرح بأنّ المجتمع الإيراني شهد ما يُسمِّيه محمد توكلي ترقي «أزمة هُوِيَّة»، وبعبارة أخرى: بعد اكتشاف الأوروبيين عائلة اللغات الهندو أوروبية وأوجه التشابه بين عدد من اللغات التي تشمل اللغة الفارسيَّة، إلى جانب ظهور النظريات العرقية خلال القرن التاسع عشر، بدأت عملية استكشاف ثقافة الفرس وتاريخهم في مرحلة ما قبل الإسلام مرة أخرى، واتخاذ العرب خصماً مناقضاً للذات الإيرانيَّة.

ويمكن القول إنه قبل الثورة الدستورية لم تكُن القوميَّة المبنية على أساس الدولة القُطريَّة معروفة تقريباً، في حين كانت المشاعر الوطنية نادرة الوجود باستثناء كونها شعوراً دينيّاً، بل إن مظاهرات أنصار الحركة الدستورية كانت موجَّهة ضدّ انتهاك الأجانب لبلاد الإسلام والمسلمين ليست لكونها بلاد فارس. ونشب صراع بين أنماط ثلاثة إبّان الثورة الدستورية: النموذج الإسلاميّ، والفارسيّ، والغربيّ. لكن القوميين الإيرانيين حاولوا إخفاء مواقفهم المناهضة للإسلام والعرب، ولا سيما في أولى سنوات الثورة الدستورية إذ انصبّ جهدهم على مناهضة النفوذ السياسي والاقتصادي الأجنبي، ثمّ انفضّ التحالف واشتدَّ العداء بين رجال الدين والعلمانيين، وبدأ يطفو على السطح أرق «العربوفوبيا».

ثالثاً: التطرف القومي

بدأ التطرف القومي ضدّ الآخر العربي على يد قِلَّة من الأدباء والمفكرين، وقد تَجَلَّت هذه النزعة عند فتح علي أخوند زاده، وآقا خان كرماني خاصّة، اللذين كانا من أوائل الكُتَّاب الراكبين موجة اتّهام العرب برجعيَّة إيران. وقد وصف كرماني العرب بأنّهم «لصوص وعراة، وآكلو الجرذان، وأكثر دونية حتى من الحيوانات»، كما يعزو فساد الأخلاق الإيرانيَّة وتَعفُّنها إلى الاختلاط الطويل بالعرب، وإلى السلطتين: الحكومة والدين، اللتين تحكَّمتا في طبيعة الناس وأنتجتا أخلاقهم وآدابهم.

وقد هاجمَ كرماني محمد باقر مجلسي، وغيره من رجال الدين ممن أفسدوا عقليّة الإيرانيين بالخرافات من أجل تطبيق أهداف الحركة الصفويّة. واتَهم الصفويين بأنّهم لم يكونوا قوميين تماماً، ذلك أنهم مذهبيّون، في حين أن كرماني المحسوب على العلمانية القوميَّة المتطرفة، يسعى للفارسيَّة القديمة البعيدة عن المذاهب والأديان! في حين أن علي شريعتي القريب مِن خطّ الدستورية «العلمانية المؤمنة» يعدّ الصفويين متطرّفين.

وهناك لمحتان مهمَّتان أبرزهما الكتاب: الأولى، وهي الصهر القومي. وقد نوّه الكتابُ بهذه الصبغة، مشيراً إلى أنّ الأفكار المتعلقة بإيران والهُوِيَّة الإيرانيَّة إبان حكم «الصفاريّة» قد اصطبغت بصبغة شيعية إسلامية ميزتها عن باقي العالم الإسلاميّ. فهذا الاصطباغ أو الانصهار بين الشيعية والقوميَّة خلال حكم «الصفويين» ومن بعدهم، لم يرقَ للمفكرين القوميين الإيرانيين من أمثال أخوند زاده، وكرماني، وذلك لسببين رئيسيين: أنهم عدّوه انصهاراً وظيفياً لشرعنة النِّظام، وزجّ المؤسَّسة الدينية في حياة الإيرانيين. إن نشأة المذهب الشيعي عربية، فأي مزج له في حياة الإيرانيين مرفوض؛ لأنّه كمونٌ عربي في الهُويَّة الإيرانيَّة.

لكن للنِّظام السياسي رؤية مختلفة، بعيدة عن الطوباويَّة الفارسيَّة، فتبنّي القوميَّة لن يوفر الغطاء الذي يوفره المزج بين الفارسي والشيعيّ؛ مِن ثَمّ، صار الفصل بين الإيرانيَّة والشيعية أمراً عسيراً، حسب فرنسوا تويال. وهذا لا ينفي أنّ السُّلْطة السياسية تؤمن بالتطرُّف القومي محاولة تطبيع الهُويَّة القوميَّة، باستحضار النموذج النازي، حين رفض الشاه محمد رضا بهلوي في أوائل الستينات الاحتفال بذكرى إنشاء الإمبراطورية الفارسيَّة على يد كورش الكبير؛ وبعد ذلك أحياها بشكلٍ سنوي، والهدف «حشد الأمَّة الإيرانيَّة وتوعيتها باسترداد هُويتها».

أما اللمحة الثانية فهي النموذج النازي، إذا كان رضا شاه يرى أن ألمانيا قوة بديلة عن بريطانيا العظمى والاتِّحاد السوفياتي، وقد نشطت ألمانيا في إيران لدرجة الترويج للآيديولوجيا النازية الآرية، وقد جمع التفوّق الآري بين القوميتين المتطرفتين؛ الألمانية النازية والإيرانيَّة، وغُيّرت اسم الدولة إلى إيران وِفْقاً لتوصيات الألمان للسفير الإيراني في برلين؛ بأن «إيران مهد العرق الآري».

رابعاً: ما بعد التأسيس

بعدما أحيا الأدباء والمفكرون الأوائل القوميَّة الفارسيَّة – التي اندثرت لقرون بعد ظهور الدولة الحديثة – بدأت الحركة القوميَّة تجد صداها عند البهلويين، فعندما تُوج رضا خان نفسه ليُصبح رضا شاه في عام 1925م، ألقى رئيس وزرائه محمد فروغي (1877 – 1942م) خطاباً مجّد فيه التاريخ الإيراني قبل ظهور الإسلام، مصرّحاً أنّ الأمة الإيرانيَّة اليوم استولى عليها شاه ينحدر من العرق الإيراني الخالص، ثمّ أخذت تعود ملامح إيران القديمة حتى في تسمية الكثير من الأماكن والمدن.

وعلى صعيد الأدب والفكر برز على السطح مجموعة من المفكرين والأدباء حملوا لواء التنظير الُهوياتي الفارسيّ، وكان من أبرزهم المؤرخ عبد الحسين زرين كوب (1923 – 1999م)، من أعماله: «الاحتلال العربي لإيران وآثاره»، و«قرنان من الصمت»، و«لا شرقي ولا غربي… بل إنساني».

وبحسب الباحث فإنّه يمكن بلورة أفكار زرين كوب من كتابه «قرنان من الصمت»، روَّج فيه أثر الإيرانيين على الخلافة الإسلامية بعد الفتوحات العربية. في المقابل يزعم أن العرب لا حضارة لهم، ولا يملكون شيئا من السُّلْطة أو التهذيب.

المآخذ التي رصدها الباحث، أنَّ المنهج الذي اعتمده زرين كوب برفضه روايات الطبري وابن الأثير انتقائي، واعتمد على ثناء الفرس أو الحطّ من شأن العرب في رواياته دون أي معايير علمية ومنهجية، إلا أن الكاتب عاد إلى التحليل الواقعي والمحايد للتاريخ بعد تراجع الموجة القومية فكتب كتاب «تاريخ إيران بعد الإسلام»، ثم «كارنامه إسلام».

– الهُوِيَّة الإيرانيَّة ما بعد الثورة

لم يكن النِّظام ما بعد ثورة 1979م معارضا لمفهوم القوميَّة بمعناها الواسع، فأحد أكبر منظّريها من تلامذة الخمينيّ، مرتضى مطهري، يرى أنّ القوميَّة مفيدة في بناء الاستقلاليَّة، لكنّه في الوقت نفسه اعترض على القوميَّة المطلقة التي تزدري الآخر ثقافياً وعرقياً.

يعدّ نظام ما بعد الثورة براغماتيّاً، ناصَب العرب والأقلِّيَّات العداء بواسطة الدستور وأظهر إعلاميّاً فلسفة التعايش، وعدم الجهر بإهانة مقدَّسات الآخرين، وهو مدركٌ أن شرعيّته تتأتى بالتمايز القومي والعرقي، فمن ثمَّ دمج بين الإيرانيَّة والشيعية، ولجأ إلى النزعة العنصرية بين الفينة والأخرى لاستنهاض الدعم الشعبي وتصدير المشكلات، والعزف على وتر القومية الاستعلائية في مقابل الآخر العربي.

يُعدّ الكتاب عمدة في بابِه، ومرجعاً لكلّ الباحثين الذين ينشدون دراسة القوميَّة الإيرانيَّة وتشظيَّاتها الطائفية والهُوياتية، وأبعادها السياسية والمذهبية والمجتمعية، وسائر مفرداتها وسرديَّاتها في بنية الدولة الإيرانيَّة، والمغزى الذي ينشده النِّظامُ من إثارتها، ووضع العرب موضع الآخر المناقض لها، بعيداً عن التمظهرات السياسية.

محمد الصياد

الشرق الاوسط