أميركا تدير ظهرها للقيادة الفلسطينية

أميركا تدير ظهرها للقيادة الفلسطينية

 قبل أربعين عاماً من الآن، خطت منظمة التحرير الفلسطينية خطوة أولى نحو التمثيل في واشنطن العاصمة. وسَمح لها الرئيس الأميركي الأسبق، جيمي كارتر، بفتح “مكتب للمعلومات” يتألف كادره من ثلاثة أشخاص في العام 1978، على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت تعتبرها في ذلك الحين جماعة إرهابية. وكانت تلك خطوة نحو عملية سلام تجري برعاية أميركية، والتي تهدف إلى الوصول إلى حل قائم على أساس الدولتين. وكانت العلاقة تصبح في كثير من الأحيان وعرة. وأراد الرئيس رونالد ريغان إغلاق المكتب. وكان جورج بوش الأب غاضباً من دعم منظمة التحرير الفلسطينية لغزو صدام حسين للكويت. لكن العلاقة صمدت مع ذلك، وأصبحت عملية السلام مسألة محورية للدبلوماسية الأميركية. لكنها ربما لم تعد كذلك الآن.

في 10 أيلول (سبتمبر)، أعلنت أميركا أنها ستغلق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية، الذي كان بمثابة سفارة بحكم الأمر الواقع، في الولايات المتحدة. وعرضت الإدارة الأميركية بعض التبريرات، فاتهمت منظمة التحرير الفلسطينية بـ”رفض الانخراط مع الحكومة الأيركية”، وهو اتهام غير صحيح. فقد زار السفير الفلسطيني، حسام زملُط، البيت الأبيض أربع مرات في العام 2017، والتقى مع المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، جيسون غرينبلات، ثلاث مرات أيضاً.

كما اشتكت أميركا أيضاً من أن الفلسطينيين أدانوا خطة سلام دونالد ترامب قبل رؤيتها. وهذا الكلام دقيق، ولو أن أسبابه مفهومة. فمنذ كانون الأول (ديسمبر)، اعترف الرئيس الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأنهى مدفوعات بلده لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، أونروا، التي تساعد اللاجئين الفلسطينيين. وهذا الشهر، قام السيد ترامب بتجميد مبلغ 25 مليون دولار كانت مخصصة لتمويل ستة مستشفيات فلسطينية في القدس الشرقية. وعلى عكس أسلافه، الذين حثوا إسرائيل على منع المستوطنين اليهود من البناء في الضفة الغربية، يبدو أن ترامب يشجع المستوطنات. وهو لا يعتبرها عقبة في طريق السلام، كما يقول سفيره في إسرائيل.

بالنظر إلى هذا السجل، يستنتج الفلسطينيون أن السيد ترامب يحاول، بدفع من إسرائيل، أن يجبرهم بالاستئساد على الاستسلام والتخلي عن تطلعاتهم إلى إقامة دولة لهم في الأراضي التي تحتلها إسرائيل منذ العام 1967، والتي تكون عاصمتها القدس الشرقية. وإذا فقدت أميركا الاهتمام باتفاق قائم على أساس الدولتين، فإن هناك القليل من الأمل في أن يتولى أحد آخر هذه المهمة.

الاتحاد الأوروبي لا يتمتع بتأثير يذكر على إسرائيل. والدول العربية، التي تنشغل بمنافستها مع إيران أو بالتعامل مع صعوباتها الداخلية، لا تمنح الأمر كثيراً من الاهتمام. أما بالنسبة للفلسطينيين، فليس لديهم الكثير من الأدوات التي يمكنهم الرد بها على الرئيس ترامب.

كثيراً ما تهدد السلطة الفلسطينية -سلطة الحكم الذاتي المحدود التي تم إنشاؤها بموجب اتفاقيات أوسلو التي أبرِمت في 1993- بوقف التعاون الأمني مع الجيش الإسرائيلي. لكن التعاون يخدم مصالح السلطة من خلال دعم الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، الذي لديه ما يخشاه من حماس، الجماعة الإسلامية المتشددة، أكثر مما يخشاه من إسرائيل.

وثمة تهديد أكثر مصداقية، هو الذي يمر عبر لاهاي. وكان الفلسطينيون قد وقعوا على ميثاق المحكمة الجنائية الدولية في العام 2015، وفي أيار (مايو)، طلبوا منها التحقيق في جرائم حرب إسرائيلية محتملة. وقد أثار ذلك الطلب غضب إسرائيل وأميركا على حد سواء. وأعلن جون بولتون، مستشار الأمن القومي الأميركي، عن إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية خلال هجوم خطابي شنه على المحكمة الجنائية الدولية، التي تشكل مصدر قلق بالغ له. لكن المحكمة لم تقرر ما إذا كانت ستبدأ تحقيقاً في الأعمال الإسرائيلية، وسوف تمر سنوات قبل أن توجه أي تهم.

كل هذا يترك خياراً نهائياً ودرامياً للفلسطينيين: أن يقوموا بحل السلطة الفلسطينية. وتوفر السلطة، الفاسدة وغير الفعالة، لسكان الضفة الغربية مستشفيات مكتظة وطرقاً فيها من الحفر أكثر مما فيها من التعبيد. وقد فقدت السيطرة على غزة منذ أكثر من عقد من الزمان. والأهم من ذلك كله أن وجودها يديم الخرافة عن وجود صراع يدور بين دولتين تتمتعان بالسيادة، بينما توجد القوة والسلطة النهائية عند إسرائيل. ويقول المنتقدون إن حل السلطة الفلسطينية سوف يجبر إسرائيل على تحمل المسؤولية عن احتلالها المستمر منذ أكثر من نصف قرن.

ولكن، وعلى الرغم من أن السلطة الفلسطينية مكروهة من معظم الفلسطينيين، فإن 42 % منهم فقط يؤيدون التخلص منها. ولم يرتفع هذا الرقم منذ خمس سنوات. وتستخدم السلطة الفلسطينية حوالي 170.000 موظف مدني في الأراضي المحتلة. وسوف يكون إغلاقها مؤلماً جداً لهؤلاء. ويشعر معظم الناس في الضفة الغربية بالقلق من قدوم الفوضى والأزمة الاقتصادية في حال عدم وجودها.

لم تكن السفارة الفلسطينية في واشنطن تقدم خدمات قنصلية، كما وقعت حملاتها للضغط والعلاقات العامة على آذان صماء. وسوف يكون فقدانها رمزياً -لكن الرمز مهم. والآن، بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على اتفاقية أوسلو، أصبحت الحركة الوطنية الفلسطينية أضعف من أي وقت مضى. وبدلاً من الفوز بالدولة، لم تستطع حتى مجرد الاحتفاظ بمكتب تمثيل في جورج تاون. ويأمل البعض في استئناف محادثات السلام مع إسرائيل حالما يترك ترامب منصبه. لكن الآخرين بدؤوا يجاهرون بما لم يكن قابلاً للتصور في السابق: ماذا لو أن حل الدولتين لم يعد ممكناً؟

الغد