روبرت كابلان: عودة الإمبريالية هي الحل للفوضى في الشرق الأوسط!

روبرت كابلان: عودة الإمبريالية هي الحل للفوضى في الشرق الأوسط!

595

على الرغم من سوء سمعة الإمبريالية الآن؛ إلّا أنّ الإمبراطورية كانت الوسيلة الافتراضية للحُكم في معظم فترات التاريخ، ودائمًا ما كان يُنظر إلى انهيار الإمبراطوريات بأنّه عملٌ فوضوي، سواء في الصين والهند من العصور القديمة وحتى مطلع القرن العشرين أو في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى.

إنّ الانهيار الذي نشهده في العالم العربي اليوم، وحالة الفوضى في أجزاء من شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، هو في حقيقته نهاية تامة للإمبريالية، ويؤكّد ذلك استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على تدمر، وهي مدينة القوافل القديمة وواحدة من أهم المواقع الأثرية المذهلة في الشرق الأدنى. مدينة تدمر هي حالة نماذجية عن كيفية تقويض المنطقة تاريخيًا من قِبل طرق التجارة بدلًا من الحدود الثابتة. ويوضح الاستيلاء على المدينة من قِبل البرابرة كيف أنّ العالم يعود إلى هذا الواقع المتغيّر.

في الواقع، نحن نشهد الآن انهيار ثلاثة أنظمة إمبريالية في الشرق الأوسط.

أولًا: توضح الفوضى في الشرق الأوسط أنّ المنطقة لا تزال لم تجد حلًا لانهيار الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. وعلى مدى مئات السنين، كانت هناك بعض الصراعات الإقليمية بين السُنة والشيعة، العرب واليهود، المسلمين والمسيحيين، في بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، التي كانت جميعها تحت حُكم وسيادة الإمبراطورية العثمانية في إسطنبول، التي تحميهم من بعضهم البعض. وفي عام 1918 انهار هذا النظام، وأطلق العنان لشيطان النزاعات القومية والإثنية والطائفية حول من يسيطر على الأراضي وعلى أي حدود على وجه التحديد.

ثانيًا: أدى الانفجار الداخلي في العراق في أعقاب سقوط صدام حسين، وانهيار سوريا في أعقاب الربيع العربي، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية إلى نهاية الحدود التي أقامتها الإمبريالية الأوروبية والبريطانية والفرنسية في بلاد الشام.

ثالثًا: نهج عدم التدخل الواضح إزاء هذه التطورات من قِبل الرئيس باراك أوباما يُظهر نهاية دور أمريكا كقوة عظمى في تنظيم واستقرار المنطقة. كانت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، إمبراطورية عالمية حقيقية. (ربما، لم يجعل أحد هذه النقطة الصعبة أكثر شمولًا وفهمًا من مؤرخ جامعة أكسفورد جون داروين في عام 2007 في كتاب بعنوان “بعد تيمورلنك: صعود وسقوط الإمبراطوريات العالمية.. 1400-2000″).

ولم تكن القوات الإمبريالية هي الوحيدة التي تراجعت وتركت الفوضى في أعقابها، ولكن سقوط نظام صدام حسين في العراق، ومعمر القذافي في ليبيا، والحد من نظام بشار الأسد في سوريا إلى مجرد دويلة محاصرة قد أنهى عصر الرجال الأقوياء في مرحلة ما بعد الاستعمار، الذي كان إرثهم مرتبطًا بالحُكم الإمبريالي. ورغم كل شيء، حكَم هؤلاء الطغاة وفقًا للحدود التي أقامها الأوروبيون؛ ولأنّ هذه الحدود الامبريالية لم تتوافق في كثير من الأحيان مع الحدود العرقية أو الطائفية الأخرى، طلبت هذه الأنظمة الديكتاتورية هويات علمانية من أجل تمديد الانقسامات الطائفية. كل هذا تلاشى بوحشية تامة.

وللأسف، لم يكن الهدف من الربيع العربي ولادة الحرية ولكن انهيار السُلطة المركزية، التي لا تذكر شيئًا عن استعداد هذه الدول، بشكل زائف أو بطريقة أخرى، لقسوة الديمقراطية.

ومن بين الدول التي تأثرت بالاضطراب الحالي، كان هناك نوعان بارزان؛ النوع الأول: يشمل مجموعات ذات الحضارة القديمة؛ وهذه هي الأماكن التي كانت دولًا تعود، بشكل أو بآخر، إلى العصور القديمة، ثم طورت أشكالًا قوية من الهوية العلمانية التي ارتفعت فوق العرق والطائفة الدينية. المغرب وتونس ومصر هم الأمثلة الأكثر إثارة للانتباه في هذه الفئة. وإذا نظرنا إلى خريطة المواقع الرومانية على طول ساحل شمال إفريقيا، يمكننا أن نرى أنّ الخريطة مزدحمة بالمستوطنات التي توجد فيها هذه البلدان، وغياب نسبي للمستوطنات في مساحات شاسعة في الأماكن الفاصلة بين الجزائر وليبيا. وبعبارة أخرى، يمكن تحديد المغرب، وتونس، ومصر من الناحية التاريخية. مهما كانت الفتنة وتغييرات النظام التي شهدتها هذه الدول في سياق ثورات الربيع العربي، لكن هوياتهم كدول لم تكن أبدًا محل شك؛ ولذا، كانت القضايا في هذه البلدان تدور حول من يحكم وما هو نوع الحكومة التي يجب أن تحكم، وليس حول إمكانية تأسيس حكومة مركزية أو إقامة دولة.

المجموعة الثانية من دول الشرق الأوسط، هي أكثر استقرارًا. تأخذ هذه الدول شكل تعبيرات جغرافية غامضة، وهي أماكن ذات هويات ضعيفة – وفي الواقع، العديد منها لديه هويات وضعها الإمبرياليون في أوروبا. ليبيا وسوريا والعراق هي أبرز الدول في هذه الفئة. ولأنّ الهوية في هذه الحالات كانت هشة، كان هناك حاجة إلى نموذج أكثر إحكامًا من الاستبداد من أجل السيطرة على هذه الدول. وهذا هو السبب الجذري للطبيعة المتطرفة لنظام القذافي، والأسد والملك حسين، الذين مارسوا مستويات قمع أشد قسوة بكثير من نظام حسني مبارك في مصر وزين العابدين بن علي في تونس. الجزائر، أيضًا هي دولة مصطنعة، أسسها الفرنسيون، شهدت حكمًا استبداديًا عقيمًا، وتواجه الآن مرحلة انتقالية غامضة؛ نظرًا لتدهور صحة حاكمها، عبد العزيز بوتفليقة، الذي تولى السلطة منذ عام 1999. الأردن أيضًا، هي تعبير جغرافي غامض، ولكنها تمتعت بحكم معتدل من خلال عبقرية حكّامها الهاشميين والدعم الاقتصادي والأمني الكبير الذي يحظى به هذا البلد الصغير من الولايات المتحدة وإسرائيل. ربما تكون اليمن ضمن المجموعة ذات الحضارة، ولكنها دولة منقسمة دائمًا بين العديد من الممالك المختلفة بسبب تضاريسها الوعرة؛ ونتيجة لذلك كانت عملية حُكم تلك الأراضي كوحدة واحدة أمرًا مستحيلًا.

الأنظمة الشمولية الخانقة فقط هي التي يمكنها السيطرة على هذه الدول المصطنعة التي تشكّلت من التعبيرات الجغرافية الغامضة. عندما انهارت هذه الأنظمة تركت وراءها فراغًا تامًا. وبين النظام في القمة والقبيلة والأسرة الممتدة في الجزء السفلي، تم انتزاع كل الأشكال الوسيطة من النظم الاجتماعية والسياسية من قِبل هذه الأنظمة الشمولية. لقد كان الاستبداد هو الحل الوحيد لنهاية الإمبريالية الغربية في هذه الدول المصطنعة، وانهيار الشمولية الآن هو السبب الجذري للفوضى في الشرق الأوسط.

وقد أدى تراكب هذا الانهيار من التعبيرات الجغرافية الغامضة وضعف أقل حدة من الدول ذات الحضارات القديمة، إلى صعود القوى الإقليمية الأصلية مثل إيران وتركيا، والمملكة العربية السعودية. تمتلك إيران حضارة عالمية قديمة من جهة ودولة قمعية متطرفة من جهة أخرى؛ وهذا هو ما يفسر فعّاليتها الديناميكية في جميع أنحاء المنطقة. وقد استندت الإمبراطورية الفارسية، بشكل أو بآخر، على حالة الاستقرار النسبي الإيراني منذ العصور القديمة. ونتيجة لذلك؛ بدلًا من مواجهة مشاكل الهوية السياسية مثل العرب، تمتع الإيرانيون بيقين ذاتي ثقافي مماثل لحضارة الهند والصين.

في الوقت نفسه، فإن جماعة الملالي المتطرفة التي تدير حكومة طهران تمثل حالة شبيهة بالجماعات الجهادية مثل تنظيم الدولة الإسلامية وحزب الله وتنظيم القاعدة وجيش المهدي السابق؛ وبالتالي، فإنّ إيران قادرة على العمل بأسلوب غير تقليدي. وقد تفننت في مجال الوقود النووي، وقامت بتدريب قوات متطرفة ومسلحة بالوكالة في بلاد الشام، وأجرت ببراعة مفاوضات مع عدوها الرئيس، الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك؛ شغلت إيران جزئيًا الفراغ الذي تركته الإمبراطوريات العثمانية والأوروبية والأمريكية.

في حين أنّ إيران هي العقدة الشيعية القوية في الشرق الأوسط الطائفي، فإنّ المملكة العربية السعودية هي العقدة السُنية. المملكة العربية السعودية، بالمقارنة مع إيران، هي خلق اصطناعي لامتداد أسرة واحدة. البلد الذي يحكمه الأسرة السعودية لا يتوافق جغرافيًا مع شبه الجزيرة العربية بنفس الدرجة التي تتوافق بها إيران مع الهضبة الإيرانية. ومع ذلك، فإن آل سعود قد شقّوا طريقهم على مدى العقود الماضية من خلال التحوّل الاجتماعي الكبير في الداخل والوضع الأمني المضطرب في الخارج. وتشير التغيرات الأخيرة التي قام بها الملك سلمان، والتي شملت استبدال ولي العهد ووزير الخارجية، إلى الإصرار المطلق لهذه السلالة على تعديل سياساتها من أجل عدم السماح لإيران بالهيمنة على المنطقة.

حملة القصف الأخيرة من المملكة العربية السعودية ضد الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، وتكثيف دعم الرياض للمتمردين السوريين المناهض لإيران (بمساعدة من تركيا وقطر) هي رد فعل على الاتفاق النووي الأمريكي الإيراني الوشيك. والواقع أنّ السعوديين وضعوا في حساباتهم إمكانية حدوث مثل هذه الصفقة؛ وبالتالي، فإنّ تفجيرات اليمن والضغط على نظام الأسد الموالي لإيران في سوريا يمثل الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي، والذي إن حدث، سيتم عرضه مع بعض المبررات على أنه بداية لتحقيق مزيد من التقارب العام بين أنواع أمريكا وإيران: من الناحية الإقليمية، إنّه اتفاق من قوة إمبريالية متراجعة (أمريكا) تتوصل إلى تفاهم مع قوة إقليمية صاعدة (إيران).

ومن أجل احتواء مرحلة ما بعد اتفاق إيران، فإنّ الولايات المتحدة تحتاج ليس فقط لدعم المملكة العربية السعودية، ولكن لمصر وتركيا أيضًا. أجهزة الأمن المصرية تحت الحُكم العسكري من عبد الفتاح السيسي متحالفة بالفعل مع قوات الأمن الإسرائيلية في قطاع غزة وسيناء، وأماكن أخرى. أمريكا تريد مصر قوية -سواء كانت ديمقراطية أم لا- كحليف إقليمي مناهض لإيران لدعم المملكة العربية السعودية. ورغم أن تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان لا تُعدّ دولة موالية للولايات المتحدة، لكنها تبقى دولة قوية في حد ذاتها تساعد على التوازن ضد النفوذ الإيراني؛ وبالتالي، فإنّ التصارع بين هذه القوى الثرية جغرافيًا وتاريخيًا من أجل الهيمنة الإقليمية سيحدد النظام ما بعد الإمبريالي الجديد.

وربما يسعى الرئيس الأمريكي الجديد في عام 2017 إلى إعادة النفوذ الإمبريالي الغربي – وسوف يصفه باسم آخر، بطبيعة الحال. ولكنه سوف يكون مقيدًا بسبب انهيار السُلطة المركزية في منطقة الشرق الأوسط الذي بدأ مع سقوط نظام صدام حسين، واستمر خلال سنوات الربيع العربي. لقد كانت الديكتاتوريات العربية القوية في جميع أنحاء المنطقة متوافقة مع المصالح الأمريكية؛ لأنها توفر عنوانًا واحدًا في كل بلد تذهب إليه أمريكا في حالة وقوع أزمات إقليمية. ولكن هذا انتهى الآن؛ ففي العديد من البلدان، لا يوجد ثمة مسؤول واحد يمكننا أن نتحدث معه عن مخاوفنا. الفوضى ليست مجرد مشكلة أمنية وإنسانية، لكنّها عقبة شديدة تقف أمام استعراض القوة الأمريكية.

وبالتالي؛ فإنّه على المدى القريب، من المرجح أن يصبح مستقبل الشرق الأوسط قاتمًا. في العراق، يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية السُنية الميليشيات الإيرانية الشيعية، تمامًا كما حارب عراق صدام السُنية إيران آية الله روح الله الخميني الشيعية في الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988).  تلك الحرب، مثلت في جزء منها القرار المتعمد من إدارة ريغان بعدم التدخل – مثال آخر على سُلطة إمبريالية ضعيفة رغم نجاحها؛ لأنّها سمحت لريغان بالتركيز على أوروبا والمساعدة في إنهاء الحرب الباردة.

في ذلك الوقت كانت الدول في حالة حرب، لكن الآن أشباه الدول هي من تخوض الحرب. الإمبريالية رسّخت النظام رغم تراجعها. إنّ التحدي الآن ليس إقامة الديمقراطية؛ بل استعادة النظام؛ لأنه بدون نظام، لن يتمتع أي إنسان بالحرية.

فورن بولسي – التقرير