ورحل جلال أمين

ورحل جلال أمين

بوفاة الدكتور جلال أمين انتهى من حياتنا الثقافية أثر عائلة الأستاذ الكبير أحمد أمين، أهم عائلة ثقافية فى تاريخ مصر الحديث، فيالها من خسارة. امتد إسهام عائلة أحمد أمين لتسعين عاما، فى السنوات الفاصلة بين قيام أحمد أمين بنشر كتابه «فجر الإسلام» عام 1928، ونشر آخر مقالات جلال أمين فى الأهرام عام 2018. بين أحمد أمين وابنه جلال كان هناك حسين أحمد أمين، الذى جعل مثل والده الإسلام والتاريخ الإسلامى موضوعا لدراسته، فيما شارك أخوه الأصغر جلال فى تناول مشكلات العصر.

أنتج أحمد أمين وابناه ثلاث سير ذاتية، واحدة لكل منهم، بدءا بالأب الذى كتب عن نشأته فى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وانتهاء بجلال أمين الذى كتب عن مصر فى زمن العولمة والاستهلاك والثورات. تحكى السير الذاتية الثلاث قصة صعود أهم أقسام الطبقة الوسطى الحديثة فى مصر، ذلك القسم من الطبقة الوسطى القاهرية، الذى ارتبط صعوده وازدهاره بالتعليم والوظيفة العمومية، خلافا لأقسام أخرى من الطبقة الوسطى نشأت فى الريف، أو ارتبطت بالسوق والمشروع الاقتصادى الخاص. إنها قصة التحول الكبير الذى طرأ على طبقة المتعلمين الوسطى من المجاورة فى الأزهر ومدرسة القضاء الشرعى وصولا للجامعة الأمريكية؛ ومن حوارى المنشية فى حى السيدة عائشة إلى ضواحى القاهرة فى مصر الجديدة والمعادي.

تعلم جلال أمين الاقتصاد فى واحد من أشهر معاهده فى لندن، ودرسه فى جامعات مختلفة. لكن جلال أمين لم يشتهر بسبب كتابته فى الاقتصاد، ولا بسبب كتابته فى أى مجال أكاديمى آخر، فالطلب على المعرفة الأكاديمية فى مصر مازال محدودا؛ لكننا عرفنا جلال أمين بسبب ما كتبه عنا أفرادا ومجتمعا وثقافة، إذ يبدو أن حاجتنا نحن المصريين لكى نعرف أنفسنا مازالت أكبر بكثير من حاجتنا لمعرفة العالم من حولنا. تجنب جلال أمين استخدام لغة الأرقام والإحصاءات التى يفضلها الاقتصاديون. ركز جلال أمين اهتمامه على المحيطين به من أقارب وزملاء وطلاب ومساعدين، فلاحظ سلوكهم وأفكارهم، والتغيرات التى تطرأ عليهم بمرور الزمن وتعاقب الأجيال، ثم عمم ملاحظاته على المجتمع المصرى كله. فى كتابه «ماذا حدث للمصريين» أخذنا جلال أمين من يدنا وأوقفنا أمام المرآة لنرى أنفسنا جيدا. أصدر جلال أمين هذا الكتاب فى عدة طبعات وصور، كما لو كان مصرا على أن يأخذنا للوقوف أمام المرآة كل صباح، حتى نلاحظ التغيرات التى حدثت بين الأمس واليوم؛ كيف نشيخ، وكيف ترتسم تجاعيد جديدة على الوجوه؟!.

لم يبذل جلال أمين جهدا خاصا لإقناع القارئ بشيء، ونادرا ما دخل فى محاجاة أو مناظرة مع آخرين، فهو يعبر عن نفسه ويكتب فقط، دون أن يشغل نفسه بشيء آخر. استمتع جلال أمين بالكتابة وأراد للقارئ أن يستمتع بالقراءة، وقد أمتعنا فعلا. لقد ضمن هذا الأسلوب لكتابات جلال أمين انتشارا وشيوعا لم يجاره فيها أى كاتب آخر من ذوى الخلفية الأكاديمية.

تجنب جلال أمين إصدار أحكام صريحة على ما يراه فى المجتمع، لكن هذا لم يمنع تسرب الإحساس بأن ماضى هذا المجتمع أفضل من حاضره. يصل هذا الشعور للقارئ بوضوح رغم أن جلال أمين لم يحتفل بالقديم الذى أحبه، ولم يدن الجديد الذى لم يتحمس له. فيما كتبه جلال أمين فى سيرته الذاتية صورة شديدة الجاذبية للطبقة الوسطى المصرية الصاعدة فى منتصف القرن العشرين فى بيت أحد أهم مثقفيها. كانت الصورة فعلا رائعة لدرجة تجعل أى شيء يأتى بعدها معيبا وشائها، وهذا هو ما حدث للمصريين.

قدوم عصر الجماهير الغفيرة هو التفسير الذى قدمه جلال أمين للتغيرات التى لحقت بالمجتمع، فالتغير فى أذواق الناس وسلوكهم جاء نتيجة للصعود الاجتماعى الذى حدث لجماهير غفيرة قادمة من خلفيات شعبية وريفية، حاملة معها أذواقها الخشنة، دون المرور بفترة تهذيب وتربية فى مؤسسات نخبة الطبقة الوسطى القديمة التى جاء منها الكاتب.

أرضى هذا التحليل نوازع الجمهور من الطبقة الوسطى القارئة، ولم يستفز سوى معارضة محدودة من غلاة اليساريين، الذين ساءهم الربط بين الجماهير وانحطاط الذوق والتدين الشكلي، وإن كان استياؤهم قد تم تخفيفه بما أشار إليه جلال أمين من أن للأمر صلة بدخول الرأسمالية مرحلة مجتمع الاستهلاك، وفيه تستغل الرأسمالية جماهير المستهلكين بعد أن كانت تستغل العمال، فالمهم هو أن تظل الرأسمالية فى موضع الاتهام فى كل الأحوال.

كان جلال أمين يشعر بدنو الأجل وهو يعد كتابه الأخير المنشور عام 2015. استعار جلال أمين فى هذا الكتاب تعبيرا من إبداع نجيب محفوظ فى سنواته الأخيرة، ففال إنه يشعر مثل الشخص الذى استقل القطار ذاهبا إلى الإسكندرية، وقبل وصوله للمحطة النهائية, وقف به القطار كالعادة فى محطة سيدى جابر، وفيها يكون القطار داخل الإسكندرية، وإن لم يصل إلى وجهته النهائية بعد. فى سيدى جابر لا يبدأ الركاب أى شيء جديد، فقط يسارعون لإكمال ما بدأوه، وجمع المتناثر من أغراضهم استعدادا لنهاية الرحلة.

فى هذه المرحلة نشر جلال أمين كتابه الأخير «مكتوب على الجبين» وللعنوان دلالات عميقة. لخص الراحل فى هذا الكتاب حكمة السنين، فلاحظ وجود علاقة بين ضعف الإرادة وقوة الحس الأخلاقي، فالأفراد المتمتعون بحس أخلاقى عال هم أيضا ضعاف الإرادة، مثلما كان كمال عبد الجواد بطل ثلاثية نجيب محفوظ؛ وأن قدرتنا على التحكم فى حياتنا أو حياة غيرنا، أو على إصلاح ما لا يعجبنا منها، أقل بكثير مما نظن. كشفت هذه العبارات عن الفلسفة التى سرت فى كتابات جلال أمين الكثيرة؛ والأرجح أن هذه هى القيم والأفكار التى جعلت ملايين المصريين يفضلون جلال أمين على غيره من الكتاب والمفكرين المعاصرين. رحم الله جلال أمين.

د. جمال عبدالحميد

الاهرام