تفكيك شيفرة مخطط بايبس، ترامب وكوشنير المسمّى “صفقة القرن”

تفكيك شيفرة مخطط بايبس، ترامب وكوشنير المسمّى “صفقة القرن”

لا ينبغي أن تكون من أتباع حركة “ليس ترامب مرة أخرى”حتى تصاب بوجع الضمير إزاء طريقة جلب السلام إلى الفلسطينيين واليهود عن طريق خلق الظروف التي ستنتج “صفقة القرن”. دعونا نكون عادلين، إذا كانت لعبة الأمم تُلعب الآن وفقا لقواعد “جادة ماديسون”، فقد كانت هذه العبارة (صفقة القرن) كاسبة، ولو أنها ستكون خاسرة إذا ما قُيِّمت من منظور حل المشكلات. وحتى في المناخ السياسي الحالي المتدهور، فإن المراهنة على شعار دعائي كبديل عن الأفكار الشافية، يمكن أن يكون صيغة جيدة لتأمين جمهور كبير لبرنامج في تلفزيون الواقع، لكنه تهرب قاسٍ عندما يأتي الأمر إلى معالجة المحنة اليومية التي يعيشها الشعب الفلسطيني كضحية لسياسات دولة الفصل العنصري الإسرائيلية.
الأسوأ من تبجح ترامب الطنان هو أن هناك على ما يبدو منطقا خبيثا يكمن خلف هذا الاقتراح المجنون الذي ينبع من المخيلة الصهيونية المتطرفة لدانيال بايبس. وكان بايبس، قبل نشر بضعة أشهر، عبر “منتدى الشرق الأوسط”، دعوة إلى اعتناق ما سماه “الجانب المنتصر”. وقد أدرك بايبس، المفكر الذكي والمدرب، السبب في فشل مسار أوسلو الدبلوماسي بشكل ذريع كوسيلة لإنها الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي من خلال المفاوضات. وأرفق استنتاجه بتأكيد تاريخي على أن الصراعات المطولة بين الأعداء العرقيّين نادراً ما تنتهي بالتسوية أو الوفاق. إنها تنتهي بانتصار على أحد الجانبين، وقبول الطرف الآخر بالهزيمة.
وهكذا تكون الخدعة، كما خلص بايبس إلى الاعتقاد، هي إقناع الفلسطينيين بالقبول بالكتابة على الجدار، وبأن يعترفوا لأنفسهم وللعالم بأنهم خسروا معركة منع تأسيس دولة يهودية في فلسطين أو جلب دولتهم الخاصة ذات السيادة إلى الوجود. ويقول بايبس أن نظرة موضوعية إلى العلاقة الدبلوماسية والعسكرية للقوى في فلسطين والشرق الأوسط تؤكد هذا التقدير للناتج السياسي، حتى من دون احتساب الدعم الجيوسياسي الثابت من الولايات المتحدة، التي تزود إسرائيل بدعم غير مشروط لأولويات الأخيرة فيما يتعلق بالفلسطينيين.
بهذا الفهم، تصبح الأحجية السياسية التي ينبغي حلها بالنسبة لبايبس عندئذٍ من طبقتين: كيف يتم إقناع الحكومة الأميركية بالتحول عن جهدها الدعائي الفاشل للتفاوض على حل، إلى نهج يساعد إسرائيل نتنياهو على النجاح في فرض حل؛ وبعد ذلك، كيف تتم ممارسة ضغط إضافي كافٍ على الوضع الفلسطيني على الأرض وعلى الصعيد الدولي، حتى يواجه قادتهم الواقع ويتخلوا عن مطالبهم السياسية مرة وإلى الأبد، ويصبحوا قانعين بما سيعرض عليهم عندئذٍ –التزام بالتحسين الاقتصادي لظروفهم فحسب.
لدى تأمل هذه الصورة، لا يبدو من المفاجئ كثيراً أن يكون مثل هؤلاء المؤيدين المتطرفين لإسرائيل، مثل الثلاثي كوشنر، فريدمان، وغرينبلات، متقبلين لهذا النهج، وربما كانوا ليتحركوا في اتجاه مشابه، حتى من دون مساهمة بايبس، التي تقدم تسويغاً منطقياً متساوقاً لخطتهم. ولنفكر في الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة على مدار الأشهر الثمانية الماضية، وسيظهر نمط يمكن تصوُّر أنه يسعى إلى تطبيق اقتراح بايبس عن “الجانب المنتصر”:
نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، ومهاجمة الأمم المتحدة، بما في ذلك الانسحاب من مجلس حقوق الإنسان بسبب تحيزه المناهض لإسرائيل؛ وتجميد، ثم قطع المساعدات المالية الأساسية عن عمليات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في غزة والضفة الغربية؛ وإغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن؛ وغض الطرف عن جرائم إسرائيل ضد الإنسانية التي ارتكبتها رداً على “مسيرة العودة العظيمة” عند سياج غزة؛ وتوجيه التهديدات للمحكمة الجنائية الدولية؛ ومنح مباركة ضمنية للتوسع المتسارع للمستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية (التي تجاوز مستوطنوها مسبقاً 600.000). ليست هناك طريقة أخرى لقراءة هذه السلسلة من المناورات المستفزة سوى أنها سلسلة من الإشارات التي يتم إرسالها إلى الشعب الفلسطيني، وقبل كل شيء إلى قادتهم، بحتمية إدراك عبثية معاناتهم، والتي ستتكثف أكثر وأكثر إذا لم يتصرفوا بعقلانية، ويستسلموا لأي شيء تقترحه إسرائيل لتستكمل المشروع الصهيوني للهيمنة على كل فلسطين التاريخية، في تحقيق للاستحقاق اليهودي لـ”أرض الميعاد” التوراتية.
إن تسمية هذه النوع من دبلوماسية الإكراه على شعب مضطهد مسبقاً “صفقة” هو سفاهة لغوية. إنها في الحقيقة أقرب إلى حيلة متنمرة من كونها صفقة، والتي تتضمن شبهاً بالتقاء للأفكار. وهي ما كنتُ قد وصفته في سياق آخر بأنه “جريمة جيوسياسية” والتي تستحق العقاب والإدانة الدولية، وليس التأمل الذي ينبغي أن يُمنح لجهد جدّي لجلب السلام للشعبين. وفي المستقبل، يغلب أن تُعرف هذه الصفقة بأنها “الشروع في الجريمة النهائية لهذا القرن”.
بوضع مشاعر الكراهية لعدم أخلاقية وعدم قانونية هذا النهج الذي ابتكره بايبس/ ترامب/ كوشنر، جانبا، من المهم أن نطرح السؤال المحرج: “هل سينجح”؟ بالنظر إلى النضال والمعاناة اللذين تحملهما الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من قرن، يبدو أن “جانب (بايبس) المنتصر”، شأنه شأن “صفقة” ترامب، سوف يُقابلان بالرفض المزدري، والمصحوب غالبا بتجدد درامي للمقاومة الفلسطينية، التي يتم استكمالها بتعبيرات أكثر صلابة للأنشطة التضامنية العالمية مع الفلسطينيين. وإذا أخذنا في الاعتبار الثبات البطولي لمسيرة العودة العظيمة عند حدود غزة، على الرغم من الفظاعات المتكررة التي ارتكبها “جيش الدفاع الإسرائيلي” الذي “يدافع” عن إسرائيل، والدعم العالمي المتزايد لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات في كل أنحاء العالم، سيبدو من المعقول استنتاج أن صفقة القرن قد رُفِضت قبل أن يتم الكشف عنها، مع كل واجهة عرضها الرثة، بما فيها الأفكار عن إعادة ترسيم الحدود مع الدول المجاورة، وتجزئة الشعب الفلسطيني بشكل دائم وبطريقة تتجاوز أحلك التصورات. وإذا –إذا كبيرة- كان ثلاثي ترامب من مستشاري شعار “إسرائيل أولاً” ذكياً بأي مقدار، فإنه لن يتم الكشف عن الطبيعة المفصلة لهذه الصفقة أمام التمحيص العام، والتي سيختبئ رفضها المتوقع خلف حملة علاقات عامة من الإدانات الموجهة إلى الرفضوية الفلسطينية، باعتبارها المسؤولة عن قتل خطة ترامب للسلام.
تحت هذه المحاولة لجعل الفلسطينيين يتجرعون هذا الشراب السام، ثمة قراءة مضللة لتدفق التاريخ في زماننا. فقد غربت شمس الاستعمار، وبغض النظر عن القوة الجيوسياسية الذي توضع، فإن هذه حقيقة لا يمكن التغلب عليها. وسوف يؤدي هذا النوع من الجريمة الجيوسياسية بلا شك إلى تكثيف المعاناة الفلسطينية، بينما يقوّي أيضاً عزم الفلسطينيين. وعادة ما تتنقل هذه الأنواع من النضالات للتخلص من الاستعمار في أركان القوة الناعمة التي تنتج التغيير في أغلب الأحيان، وليس من خلال محاولة تغيير الموازين السياسية أو الهيمنة في ميدان المعركة. والناس، وليس الدول وقواتها المسلحة، هم الذين يحركون ويهزون عصرنا، بينما تُترك الحكومات على الخطوط الجانبية لتنتحب على النتيجة. وقد تعلمت الدول الاستعمارية الغربية هذا بالطريقة الصعبة في سلسلة من الحروب الدموية، والتي خسرتها على الرغم من تفوقها العسكري. وما يزال على الولايات المتحدة، على الرغم من تجاربها في فيتنام، والعراق، وأفغانستان، أن تتعلم بعدُ حدود القوة العسكرية في العالم ما بعد الكولنيالي، ولذلك تستمر في اختراع الأسلحة، وابتكار التكتيكات والعقائد من دون تعلم هذا الدرس الذي لا غنى عنه عن الطبيعة المتغيرة للقوة.
صحيح أن دبلوماسية أوسلو كانت فشلاً ذريعاً، والذي عمل لخدمة المصالح السياسية لإسرائيل، وتم التخلي عنه بشكل محق. لكن استجابة ترامب لهذا الفشل ترقى إلى تجريم الدبلوماسية، والتي تنتهك أكثر التصورات أساسية للقانون الدولي، كما ورد في ميثاق الأمم المتحدة. وهي ترقى إلى حد شن حرب عدوانية ضد أناس مكشوفي الصدور وبلا حول. وإذا كانت الأمم المتحدة والحكومات القيادية تشاهد هذا المشهد الكئيب بصمت حجري، فليس لنا سوى أن نأمل بقوة بأن تدرك شعوب العالم الحاجة إلى إجراء إصلاح جذري لتجنب مستقبل كارثي -ليس للفلسطينيين فحسب، وإنما للبشرية جمعاء.

الغد