العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل: عودة إلى الوكالة

العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل: عودة إلى الوكالة

في الفترة ما بين آذار (مارس) وتشرين الثاني (نوفمبر) 2017، أجرت مؤسسة غالوب استطلاع رأي سنوياً عالمياً حول قيادة الولايات المتحدة. وحسب الاستطلاع، أحب البعض الاتجاه الذي تسلكه الولايات المتحدة، والبعض لم يفعلوا، لكن نسبة التأييد للولايات المتحدة ارتفعت في أربعة من مجموع 134 دولة شملها الاستطلاع، وبنسبة مذهلة بلغت 10 % مقارنة بالعام السابق. وهذه الدول هي ليبيريا، ومقدونيا، وبيلاروسيا وإسرائيل. ويعرِضُ وجود إسرائيل بين هذه الدول دليلاً على مدى تبدُّل العلاقات الأميركية الإسرائيلية بشكل واضح تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب. وقبل أن يصبح رئيساً، بدت العلاقات الثنائية بين البلدين على حافة الانهيار. ففي العام 2015، سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى واشنطن لتوجيه اللوم إلى الرئيس باراك أوباما أمام الكونغرس الأميركي، متوسلاً الحكومة الأميركية بعدم المضي قدماً في الاتفاق النووي الإيراني -وهو التماس وقع في نهاية المطاف على آذان صماء.
في آذار (مارس) 2018، زار نتنياهو واشنطن مرة أخرى، ولكن بدلاً من انتقاد الرئيس الذي في السلطة، وصفه هذه المرة بأنه كورش المعاصر -الملك الفارسي الذي سمح للإسرائيليين بالعودة إلى وطنهم لإعادة بناء هيكلهم، منهياً بذلك منفاهم البابلي الطويل. ونتنياهو طالب تاريخ. وكان والده أستاذاً للتاريخ أيضاً. ولذلك، عندما يقارن ترامب بواحد من أهم “الأغيار” في التاريخ اليهودي، فإنه يعني ما يقول.
لا يعبر تصرف نتنياهو تجاه إدارة ترامب عن تقديس شخصي -وهو بُعد مهم لشخص ملتوٍ بشكل خاص، والذي طالب في يوم من الأيام بحوالي 3.000 دولار من ميزانية الحكومة لتغطية احتياجاته الخاصة من “الآيس كريم”. لكن نتنياهو يتحدث نيابة عن غالبية الإسرائيليين الذين حلقت نسبة تأييد ترامب بينهم لتدور حول 70 في المائة، وفقاً لاستطلاع أجرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية. (للمقارنة، تبلغ نسبة قبول نتنياهو نفسه بين مواطنيه حوالي 40 في المائة). وفي حزيران (يونيو) 2018، وجد استطلاع للجنة اليهودية الأميركية أن 77 في المائة من الإسرائيليين يوافقون على الطريقة التي يعالج بها ترامب العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل.
وهذا مفاجئ بالكاد. فمن وجهة نظر إسرائيل، هناك الكثير الذي يجب الموافقة عليه في نهج ترامب. كانت أول زيارة خارجية يقوم بها ترامب كرئيس هي زيارته لإسرائيل، ليكون أول رئيس أميركي يزور حائط المبكى. كما اعترف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إلى هناك، ضارباً عرض الحائط على ما يبدو بجوقة المعارضة الإقليمية والعالمية. وفي عهد ترامب، ألغت الولايات المتحدة تمويلها لوكالة الأمم المتحدة للإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، على أساس أنها تدعم المناطق الفلسطينية بشكل غير متناسب. كما ألغي أيضاً مبلغ 200 مليون دولار من المساعدات الأميركية لقطاع غزة.
كانت هذه مجرد إيماءات رمزية. أما السياسة الأكثر فائدة وأهمية، فهي عودة الوكالة إلى السياسة الخارجية الإسرائيلية، أو مظهر هذه الوكالة على الأقل. وقد حقق ترامب فعلياً ما لم يستطع نتنياهو القيام به: إنهاء الصفقة النووية الإيرانية. وكان نتنياهو، الذي يُتوقع أن يصبح رئيس الوزراء الأطول خدمة في التاريخ الإسرائيلي، قد رهَن مسيرته السياسية على كونه السياسي الأفضل تجهيزاً لمحاربة إيران وتقويض رغبتها المعلنة في تدمير إسرائيل. لكنه ظل عاجزاً عن منع الولايات المتحدة من الموافقة على الاتفاق النووي الإيراني. ولم يكن له حول ولا قوة أمام أوباما، الذي أجبره بشكل أساسي على الاعتذار لتركيا في العام 2013 عن حادث السفينة، مافي مرمرة، في العام 2010.
كما كان بلا حول عندما امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت ضد انتقادات الأمم المتحدة للمستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. وعلى مدى ثماني سنوات، بدا نتنياهو عاجزاً. لكن ترامب أعاد إليه جرأته. ومنذ العام 1967، كان أهم عمل لأي زعيم إسرائيلي هو تأمين العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ويميل العالم إلى نسيان أن إسرائيل والولايات المتحدة لم تكونا دائماً حليفتين وثيقتين. وربما لم تكن إسرائيل لتنجو من حرب 1948 من أجل الاستقلال لو لم يقم السوفيات ببيع الأسلحة لها في السوق السوداء عبر تشيكوسلوفاكيا. ولولا دعم فرنسا، لما كانت إسرائيل قد طورت أسلحة نووية، ولا أي من التقنيات العسكرية التي سمحت لها بأن تسود في حروبها مع جيرانها العرب في العام 1967 والعام 1973.
كان فقط في ذروة الحرب الباردة، وبفعل المكائد الاستراتيجية لهنري كيسنجر، حين أصبحت إسرائيل حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة. (وحتى في ذلك الحين، لم تكن العلاقة بينهما ناجية من التحديات. وكان يمكن أن يتسبب القصف الإسرائيلي العرَضي للمدمرة “يو. أس. أس. ليبرتي” في العام 1967 بتسميم العلاقات الثنائية بشكل لا رجعة فيه. وكانت إدارة بوش الأولى أكثر صرامة مع إسرائيل عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين من أي رئاسة أميركية أخرى. بما في ذلك إدارة أوباما).
قد تبدو هذه الاستراتيجية غريبة، بالنظر إلى تاريخ إسرائيل والولايات المتحدة. فإسرائيل هي نتاج للقومية اليهودية والإمبريالية البريطانية. وفي سعيهم إلى إقامة دولة خاصة بهم، كان اليهود الأوروبيون يطمعون في الأراضي التي كانت ذات يوم فلسطين العثمانية ثم فلسطين البريطانية. ووعدت الإمبراطورية البريطانية العرب واليهود بفلسطين على حد سواء، ممهدة الطريق لحرب أهلية أسفرت عن استقلال إسرائيل في العام 1948. (يشير العرب الفلسطينيون إلى ذلك باسم “النكبة”).
لطالما عانت إسرائيل من شخصيتها المنقسمة -فقد أرادت أن تكون في وقتٍ واحد وطناً قومياً للشعب اليهودي، وديمقراطية ليبرالية مزدهرة شبيهة بالولايات المتحدة. ويشبه ذلك القول بأن الولايات المتحدة تريد أن تكون وطنًا للحجاج، وجمهورية دستورية معاً. وهي الأخيرة قطعاً، من دون أي اختبار أو تماثل مع أي شيء يشبه القانون الأساسي الإسرائيلي الذي تم تمريره مؤخراً، والذي ينص على أن إسرائيل هي دولة قومية للشعب اليهودي.
يفسر هذا جزئياً السبب في أن الحديث عن العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل يبقى محفوفاً بالمخاطر. ويعتمد أنصار وجاهة العلاقة على لغة الهوية بقدر ما يعتمدون على سياسة المصالح. في حين يعتمد منتقدوها على معاداة السامية بقدر ما يعتمدون على العيوب وأوجه القصور العملية. والحقيقة هي أن العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل تشبه أي علاقة ثنائية أخرى. إنها تتألق وتتضاءل على أساس المصالح المشتركة. وقد تباينت المصالح الأميركية والإسرائيلية وتباعدت منذ انتهاء الحرب الباردة في العام 1991، لكنها تنحني الآن عائدة إلى مسار متشابه. مرة أخرى، أصبحت واشنطن تحتاج إسرائيل كحائط صد أمام الساعين المحتملين إلى الهيمنة الإقليمية -سوى أنهم هذه المرة تركيا وإيران، وليس الاتحاد السوفياتي. ولم يعد النفط يشكل القضية نفسها التي كانها في يوم من الأيام، لكن الجهادية حلت محله، والتي سيتم إبقاؤها على هوامش القوة السياسية في الشرق الأوسط بمساعدة القوة الجوية والمخابرات الإسرائيلية.
المشكلة بالنسبة لإسرائيل هي أن الولايات المتحدة ستطلب منها على الأرجح أن تلعب دوراً أكثر نشاطاً من ذلك الذي لعبته منذ سنوات. وتكمن مصلحة واشنطن على المدى الطويل في تخليص نفسها من الشرق الأوسط. ولتحقيق هذه الغاية، فإنها ستعمل مع الشركاء الذين يسمحون لها بالقيام بعمل أقل في المنطقة، وليس الاستمرار في الذهاب إلى الحرب. ويعني ذلك أنه سواء كان أوباما أو ترامب أو خليفة ترامب في السلطة، فإن إسرائيل ستفعل ما تطلبه واشنطن. وليس من قبيل المصادفة أن تكون إسرائيل قد زادت مشاركتها في الحرب الأهلية السورية في العام الماضي؛ حيث هاجمت أهدافاً سورية وإيرانية ولحزب الله، بل ومارست أحياناً مناطحة الرؤوس مع روسيا. وسوف يتطلب ذلك من الحكومة الإسرائيلية أن تضع مواطنيها في طريق الأذى، وأن تتعلم كيف تتصرف في المنطقة من تلقاء نفسها. وإذا كانت إدارة أوباما قد علّمت إسرائيل أي شيء، فهو أن واشنطن ستدعمها فقط بما أن من مصلحة واشنطن أن تفعل ذلك.

الغد