هوس العالم العربي بالمؤامرات

هوس العالم العربي بالمؤامرات

في نوفمبر 2012، نشرت الصحيفة اليومية المصرية الخاصّة “المصري اليوم” مقالًا يُؤكّد فيه أنّ وزيرة الشؤون الخارجية الإسرائيلية “تسيبي ليفني” اعترفت بين صفحات صحيفة “ذي تايمز” البريطانية بممارسة الجنس مع العديد من الشخصيات العربية عندما كانت عميلة للموساد في تجارة جنسية مقصودة “لتوريطهم في فضائح جنسيّة وابتزازهم وانتزاع معلومات سرية وتنازلات سياسية لصالح (إسرائيل)”.

أشعل الخبر العالم العربي بعد أن انتشر على الفور عبر الشبكات الاجتماعية ومختلف وسائل الإعلام، بما في ذلك الإعلام المرئي. ورأى العديد من الكتّاب، من الرباط إلى مسقط مرورًا بالقاهرة، في هذا الخبر دليلًا جديدًا على المؤامرة الدائمة من الكيان العبري ضدّ جيرانه، ومع ذلك، سرعان ما تراجعت المصري اليوم وقدّمت اعتذاراتها لقرّائها؛ إذ إنّ ليفني لم تدل قطّ بمثل هذه التصريحات لا بين صفحات ذي تايمز ولا في غيرها “ولكن، فات الأوان؛ فالمعلومة انتشرت بسرعة البرق وكلّ تكذيباتنا لم تؤد إلى شيء. واليوم، لا يزال هناك الكثير من المقتنعين بأنّ علاقات جنسية قد ربطت تسيبي ليفني بالعديد من القادة العرب، ولاسيّما الفلسطينيين، من أجل حملهم على كشف أسرار أو الحصول على مزايا دبلوماسية لإسرائيل”، وفقًا لصحفي في المصري اليوم. ومن الممكن أن تتحقّق سريعًا من هذا؛ إذ تستمرّ مواقع الإنترنت والمنتديات، وحتّى الصحف، في تكرار هذا الادّعاء الكاذب دون الإشارة إلى التكذيب الّذي نشرته المصري اليوم.

منذ نوفمبر 2012، انتقد الصحفي والشاعر الدرزي “الإسرائيلي” سلمان مصالحة العديد من الكتاب الّذين وقعوا في فخّ المقال الشهير ولم يفكّروا في أسباب سذاجته، ولم تحظ دعوته إلى التعقّل بتأثير كبير؛ باعتبار أنّ فكرة المؤامرة حاضرة في كلّ مكان في العالم العربي. ويحدث في كثير من الأحيان أن تظهر المؤامرة على الفور كشيء خيالي وتصنّف تحت بند المعلومات غير العادية، مثلما حدث في عام 2010، فآنذاك، كان محمد عبد الفضيل شوشة محافظًا لجنوب سيناء وتحدّث عن إطلاق الموساد سلسلة من أسماك القرش القاتلة في البحر الأحمر من أجل مهاجمة الغوّاصين في منتجع شرم الشيخ وإلحاق الضرر بالسياحة المصرية.

ولكن، تظهر نظرية المؤامرة أيضا في تفسير الأحداث الكبرى؛ إذ لا يزال ينظر على نطاق واسع، وفي جميع الأوساط الاجتماعية، إلى هجوم الحادي عشر من سبتمبر كمكيدة دنيئة تلعب فيها “إسرائيل” دورًا رئيسًا، كما أنّ الانتفاضات العربية في 2011 مع عواقبها فيما يتعلّق بزعزعة الاستقرار وزيادة الصراعات ينظر إليها كإجراء خفيّ من قبل القوى الغربية الكبرى. وبعد نشوة الأيام الأولى، وبعد إجبار الرئيس المصري حسني مبارك على الاستقالة، على وجه الخصوص؛ سرعان ما انتشرت التفسيرات التآمرية على مختلف مستويات المجتمع؛ ففي الجزائر كما في المغرب أو في مملكات الخليج، ليس من النادر أن تسمع أو تقرأ أنّ وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية الـ “سي أي آي” وأجهزة المخابرات الفرنسية والموساد دفعوا الشعوب العربية إلى الانتفاض من أجل تغذية الفوضى وتعزيز نفوذ “إسرائيل”.

“أجهزة المخابرات تؤثّر على الرأي العام من خلال نشر الإشاعات”

وتنطبق هذه القراءة أيضًا على الوضع السوري؛ إذ يتمّ تقديم بشار الأسد ونظامه -على الرغم من العنف الّذي يمارسه ضدّ شعبه- كضحايا لخطّة طبخت بذكاء في واشنطن من أجل إضعاف أحد الخصوم الإقليميين للكيان العبري. ولا تترّفع مصر الرئيس عبد الفتّاح السياسي عن هذا النوع من التحليل؛ فلئن سعت السلطات إلى تجنّب هذا الموضوع، فإن بعض الشخصيات في العديد من البرامج التليفزيونية لاتتوارى عن التأكيد بأنّ المظاهرات الضخمة في عام 2011 ضدّ الرئيس السابق مبارك تعود إلى مؤامرة حيكت من قبل الولايات المتّحدة و”إسرائيل” -ويضيف البعض قطر إلى قائمة المتآمرين- من أجل جلب الإخوان المسلمين إلى الحكم وتقويض عظمة مصر. ويشير دبلوماسي أردني في جنيف إلى أنّ: “نظرية المؤامرة في العالم العربي هي في البداية هبة لغير العقلاني، وتكمن قوّته في إمكانية نقل الشيء ونقيضه دون التمكّن من التشكيك فيه باعتبار أنّ الحجج الأكثر عقلانية مرفوضة رفضًا قاطعًا. ولهذا؛ يغرق العرب في عالم من الهلوسة؛ حيث لا يتمّ اللجوء إلى المنطق الابتدائي“.

ويتحمّل القادة السياسيون العرب الراغبون في إخفاء عيوبهم ورفع المصداقية عن أعدائهم المسؤولية الكبرى في نشر مثل هذه النظريات واستمرارها. ففي المغرب، تُتّهم الجارة الجزائر بكلّ المسائل بسبب موقفها من الصراع في الصحراء الغربية، وفي نهاية السنوات الـ 1990، اتّهمت الصحف القريبة من السلطة ومن أجهزة المخابرات (على سبيل المثال) الجزائر بالضغط على الشركات الغربية الكبرى من أجل التخلّي عن التنقيب على النفط في باطن المملكة؛ ممّا يفسّر عدم استغلال المغرب للنفط والغاز.

وفي الجزائر، ترتبط المؤامرة دائمًا (تقريبًا) مع فرنسا، القوّة الاستعمارية السابقة الّتي تستمرّ في التلاعب بالأوضاع، ولاسيّما عن طريق تعزيز أحد فصائل النظام. ويعتقد الكثير من الجزائريين -بما في ذلك الّذين ولدوا بعد عقود من الاستقلال- أنّ المكتب الثاني (العبارة الّتي استخدمت لفترة طويلة للإشارة إلى أجهزة المخابرات الفرنسية 1871- 1940) لا يزال يقرّر مصير البلاد، وتظهر فكرة أن باريس تسيطر على القادة الجزائريين في الطيف السياسي؛ إذ لا يكفّ الإسلاميون والقوميون في جبهة التحرير الوطنية على التنديد بوجود “حزب فرنسا”.

وبعيدًا عن الخصوصيات الوطنية، يعود نجاح نظريات المؤامرة إلى الدور الأساسي للمخابرات في العالم العربي؛ إذ إنّ: “أجهزة الاستخبارات تؤثّر على الرأي العام من خلال النشر المستمرّ للشائعات“، وفقًا لمحلّل في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في القاهرة، و”تعزّز هذه الشائعات رؤية ما للعالم وكلّ ما يدعو إلى وجود مؤامرات، وهذا ثابت في العالم العربي. وفي الوقت الراهن، يكفي أن تقول في المقاهي وفي الشوارع بأنّ النشطاء الشباب الديمقراطيين يحصلون على أموال من الغرب لإضفاء مصداقية على فكرة أنّ مطالبهم تندرج ضمن مؤامرة ضدّ سيادة مصر“.

وباعتراف من متخصّص في المخابرات الجزائرية، كانت الشائعات دائمًا “مناورات” منظّمة من قبل الأمن العسكري لاختبار سذاجة الجماهير وتعزيز فكرة استمرار التهديدات المعادية للجزائر، وقد صرّح عالم الاجتماع الجزائري “ناصر جابي”: “كلّما مرّ الوقت، اندهشت أكثر من تكرار نظريات المؤامرة والنجاح الّذي تلقاه في بلادنا“. ويرى فيها نزوع بعض المواطنين إلى البحث عن مبرّرات تختلف مدى عقلانيتها لما لا يمكن اغتفاره: “إذا ما حدث هجوم، يسعون إلى الحدّ من خطورته باللجوء إلى النسبية ويتمّ البحث عن مبرّرات تميعيية وإيجاد مبرّرات لأعمال العنف“. ويعتبر هذا الجامعي، الّذي يأسف إلى براعة الحكام العرب المخلوعين الّذين تحوّلوا فجأة إلى محسنين يؤسف إلى سقوطهم، أنّ الميل إلى الاعتقاد بنظرية المؤامرة يفسّر بـ “التخلّي عن وعي المواطن أو عدم وجوده من خلال رفض النقاش بين المتناقضين ورفض تحمّل المسؤولية؛ فالآخر دائمًا هو المذنب” خاصّة وأنّ تاريخ العالم العربي الإسلامي لا يخلو من المؤامرات الحقيقية مثل عملية “سوزانا” في عام 1954. وفي العالم العربي، الّذي يسعى جاهدًا إلى ترسيخ نفسه كلاعب بارز على الصعيد الدولي، تسمح نظرية المؤامرة بإلقاء اللوم على الآخرين، لاسيّما إذا ما كانوا غربيين، وتجنّب النقد الذاتي الّذي لا تريده الأنظمة؛ وهذا ما تصوّره جيّدًا مختلف التفسيرات المتعلّقة بظهور تنظيم الدولة الإسلامية. ويشير المعلّم العراقي الشاب “عامر مراد” أنّه: “من الأيسر القول إنّ داعش أوجدته القوى الإمبريالية من التفكير في شياطيننا. وهذا يجنّبنا التساؤل عن التعصّب والفظائع المرتكبة باسم الدين”.

وتعود نفاذية العالم العربي لنظريات المؤامرة أيضًا إلى الأيام الأولى لظهور الإسلام؛ فوفقًا لما أشار له محمد أوريا، طالب الدكتوراه في جامعة شيربروك الكندية، العالم الإسلامي متشبّع بفكرة أنّ “اليهود (في المدينة) قد تآمروا ضدّ النبيّ محمد” وعملوا على منع ظهور الإسلام. وبعيدًا عن أن تعتبر مجرّد حلقة من بدايات الإسلام، حظيت العلاقات الصعبة -والعنيفة في بعض الأحيان- بين المؤمنين الأوائل والقبائل اليهودية في شبه الجزيرة العربية بالعديد من الكتابات والاستقراءات لمحو قرون من التعايش الّذي كان في أغلب الأحيان أكثر سلامًا ممّا كان عليه في الغرب. ويرى أوريا أنّ هذا الهوس التاريخي يترجم بالميل إلى تفسير أي حدث كبير بالمؤامرات المندرجة ضمن سلسلة طويلة من الهجمات ضدّ الإسلام.

ويشير الأكاديمي أنّ علماء فقه مسلمين في جميع الأزمان أكّدوا على الدور الّذي لعبه عبد الله بن سبأ، اليهودي الّذي اعتنق الإسلام، في عام 656 في المؤامرة الّتي أحيكت ضدّ حكم عثمان، الخليفة الثالث للرسول، وقد أدّت هذه المؤامرة (الّتي ينكرها الشيعة) إلى الفتنة الّتي لا تزال عواقبها السياسية والدينية تشكّل العالم الإسلامي. ولهذا؛ يؤكّد الكثير من الدعاة في المملكة العربية السعودية وفي البلدان ذات الغالبية السنيّة الأخرى أن ولادة التشيّع -المذهب الثاني في الإسلام- الّتي تعود إلى الخلافات حول خلافة النبيّ كانت “مؤامرة يهودية”، ولهذا؛ من الضروري عند السعي إلى التخفيف من تأثير نظريّات المؤامرة في العالم العربي، إجراء قراءة هادئة وعقلانية لتاريخ العالم الإسلامي والإسلام.

التقرير