حرب أكتوبر: مَن كان أشرف مروان؟

حرب أكتوبر: مَن كان أشرف مروان؟

في المشهد الأخير من فيلم الإثارة والجاسوسية الأميركي/ الإسرائيلي “الملاك” (أرييل فرومِن، 2018)، يقوم أشرف مروان، وهو عميل مصري يُزعَم أنه تجسس لصالح كل من مصر وإسرائيل، بفتح هدية سلمها له ضابط الموساد الذي يشرف عليه. والهدية هي كتاب حكاية آيسوب “الصبي الذي يحذر من خطر وهمي”. ويقول الضابط: “ولد صغير يرعى الأغنام صرخ محذرا الناس –زيفا- مرتين، ولذلك، في المرة الثالثة لم يصدقه أحد…”؛ ويتوقف الضابط قليلا، ثم يقول: “أنت جيد”. ويجيب مروان: “شكرا لك… على الكتاب”.
الفيلم الذي أنتجته الشبكة الإعلامية الأميركية، “نيتفليكس”، والقائم على قصة حياة أشرف مروان الغامضة، مقتبس عن الكتاب غير الخيالي: “الملاك: الجاسوس المصري الذي أنقذ إسرائيل”، الذي كتبه أوري بار يوسف وترجمه ديفيد هازوني. ويجمع الفيلم أرشيفاً فوضويا من التاريخ والذاكرة الثقافية. ويشير الضابط المشرف على مروان أنه اكتشف استراتيجية الحرب التي استخدمها مروان، من نوع “التحذير الكاذب” –حيث قام بتسليم إسرائيل، عمدا، تحذيرين كاذبين عن بداية الحرب العربية-الإسرائيلية في تشرين الأول (أكتوبر) 1973 –مغيراً بذلك نتائج تلك الحرب إلى الأبد.
ما يزال الاعتراف بمساهمة مروان في الحرب، على كلا الجانبين المصري والإسرائيلي، موضوعا رئيسيا لعنوان أثار جدلا كثيفا على مدى عقود. وفي كل من مصر وإسرائيل، دار جدل طويل حول مَن كان أشرف مروان بالضبط –وما إذا كان عميلا مزدوجا لكلا البلدين أم أنه كان مواليا لبلد واحد فقط. وفي مصر، يتذكر الناس مروان كعميل مزدوج ماكر خدع إسرائيل –وهي انطباعات نجمت في جزء منها عن اعتراف حسني مبارك بوطنيَّة مروان، بعد وفاته، وهو ما كشف الغطاء عن هوية مروان الحقيقية. وفي 27 حزيران (يونيو) 2007، سقط رجل الأعمال المصري الثري، الذي كان أيضاً صهر الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ومستشاراً وثيقاً لخليفته أنور السادات، من شقته العالية في حي لندني ليلقى حتفه. وما يزال سبب مصرعه مجهولا حتى اليوم.
يتعقب الفيلم خطا دقيقا بين الموقفين: حيث لا يتم عرض مروان كجاسوس فائق لإسرائيل ولا كعميل مزدوج يتبع الأوامر المصرية. ويظهر مروان في الفيلم بالتزامن كرجل خدم بلده، وشكل رصيداً استخبارياً كبيراً لإسرائيل في الوقت نفسه. ومثل “غاربو”، جاسوس الحرب العالمية الثانية الذي يشار إليه في الفيلم، والذي نجح في تضليل الألمان فيما يتعلق بإنزال نورماندي في العام 1944، يُنسب الفضل إلى مروان في الفيلم باعتباره الوحيد الذي حاز منزلة البطل القومي في كل من مصر وإسرائيل. هذا الانطباع عن الفوز المتبادل لكلا البلدين الذي يتركك معه الفيلم، إلى جانب تصويره لسعي مروان الجامح إلى تحقيق السلام، يجعل من غير الواضح ما الذي يحاول الفيلم أن يقوله أو يحققه بالضبط.
ثم يصبح الوضع أكثر إرباكاً عندما يتأمل المرء الفرضية التي يرتكز عليها الفيلم. فهو لا يتبنى وجهة النظر المطلقة تقريباً للكتاب الذي أُخِذ منه، والذي يكتب فيه المؤرخ الإسرائيلي أوري بار-يوسف: “أشرف مروان لم يكن، بلا أدنى شك، عميلاً مزدوجاً على الإطلاق، وإنما كان بالأحرى واحداً من أهم الجواسيس الذين شهدهم العالم في نصف القرن الأخير”.
ربما يمكن فهم هذا التحول في فرضية القصة في السياق الأوسع لحرب تشرين الأول (أكتوبر). فمنذ 45 عاماً من الحرب، ما تزال الحقيقة حول من هو الذي كسبها تتعلق مثل سديم لا نهاية له فوق العرب والإسرائيليين. في “يوم الغفران”، أقدس يوم في السنة عند اليهود، شن الجنود المصريون والسوريون هجوماً مباغتاً، وعبروا قناة السويس، واخترقوا خط دفاع بارليف الإسرائيلي، وبعد ذلك، تمكن المصريون من استعادة الأراضي التي فقدوها في حرب العام 1967 بموجب معاهدة تم التفاوض عليها مع إسرائيل في كامب ديفيد، على الرغم من شن الإسرائيليين هجوماً معاكساً ناجحاً واختراق الأراضي المصرية، بل وحتى الوصول إلى بعد 100 كيلومتر عن القاهرة. وأفضت المقايضة على ذلك النحو إلى أن يصبح عنوان “السلام” هو اللازمة التي تتكرر اليوم، في مواجهة عقود من الاستنطاق المتواصل بين العرب لما إذا كان بالوسع تحقيق السلام حقاً مع إسرائيل.
بذلك، أصبحت قصة أشرف مروان جزءاً من رواية أكبر عن حرب تشرين الأول (أكتوبر) والحاجة إلى إعادة روايتها. ويقول أرون بيرغمان، الأستاذ الجامعي الذي أكد هوية مروان كمخبر للموساد في العام 2002، أن فيم “الملاك” في جوهره هو نسخة إسرائيلية متخفية من القصة. “متخفية”، كما يقول، “لأن الفيلم لا يقول صراحة أن أشرف مروان كان عميلا أصيلا لجهاز الموساد الإسرائيلي، والذي عمل فقط مع الإسرائيليين؛ تبدو رسالة الفيلم غير واضحة نوعاً ما”.
ويضيف بيرغمان أن المرء لا يحتاج إلى أكثر من مجرد النظر في أصول الفيلم: الفيلم قائم على كتاب كتبه أكاديمي إسرائيلي مقرب جداً من المؤسسة؛ ومخرجه آرييل فرومين إسرائيلي، وكذلك حال بعض الممثلين، وليس أقلهم ذاك الذي يلعب دور السادات.
كما أن الرواية الإسرائيلية ظاهرة أيضاً في الكيفية التي يتم تصوير مروان بها. ومن الواضح أن الفيلم يصور مروان كبطل للسلام، ورجل كانت إنسانيته هي دافعه الرئيسي للتجسس (بصرف النظر عن كونه معوزاً للمال وأنه كان على خلاف مع صهره، ناصر، الذي اعتقد على ما يبدو أنه لم يكن جيداً بما يكفي لابنته). وعندما يواجه مدير الموساد، زفي زامير، مروان في نهاية المطاف حول تقديمه معلومات غير صحيحة لإبعاد إسرائيل عن توقع الحرب (في تشرين الثاني (نوفمبر)، 1972؛ وفي نيسان (أبريل) 1973)، ويسأله عن السبب الذي ربما يجعلهم يصدقونه مرة ثالثة، يجيب مروان: “سوف يموت الكثير جداً من الأبرياء من كلا الجانبين، هذا هو السبب”! وفي نهاية الفيلم، يخبر مروان مشرفه بأن السلام كان يستحق كل ذلك. وينسجم استعداد مروان لقطع أي شوط وبأي تكلفة من أجل تجنب الحرب مع وجهات النظر الإسرائيلية حول كَم كان مروان قيِّماً لإسرائيل.
يدعم معظم المؤلفين الإسرائيليين النظرية القائلة بأن مروان كان جاسوساً إسرائيلياً متعاوناً على أساس شيء واحد: كانت الخسائر والحرب لتكون أكثر درامية بكثير لولا تحذيرات مروان. وعلى سبيل المثال، يكتب بار- يوسف أنه من دون معلومات مروان الاستخبارية، كانت الجيوش العربية ستحتل مرتفعات الجولان وكان وسط تل أبيب سيضرَب بهجوم صاروخي، وكان الجيش الإسرائيلي سيسيء أكثر قراءة تحركات مصر الحربية وخططها لعبور قناة السويس.
مع ذلك، يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي، سيد صادق، أن مروان ليس معروفاً في العالم العربي بسبب دوره في تحقيق السلام. ويقول أن مروان كان جزءاً من “تمويه” أو استراتيجية خداع أكبر، والتي ابتكرها السادات للتخلص من الإسرائيليين –كان مروان مجرد ترس في تلك العجلة. وكان أحد الأمثلة على تكتيك الخديعة الذي استخدمته مصر عندما نشرت الصحف المصرية خبراً عن ذهاب ضباط الحرب لدى السادات للحج في مكة، وفقاً لصادق. وقد اعتمدت “المفهوم”، الوثيقة التي تفصل استراتيجية الحرب الإسرائيلية قبل الحرب، بشكل كثيف وأنشئت بشكل أساسي حول المعلومات الاستخبارية التي زرعها مروان. واعتقدت الوثيقة أن مصر لن تذهب إلى الحرب حتى تحصل على قاذفات صواريخ بعيدة المدى من السوفيات. وقد جعل هذا الاعتقاد المضلَّل الإسرائيليين غير مستعدين للحرب. ويعتقد صادق أن الإسرائيليين وضعوا الكثير من التركيز على مروان كأصل مهم.
تكشف الأبحاث الأخيرة، معتمدة على أدلة جديدة من مصادر مخابراتية سوفياتية وأميركية وإسرائيلية سرية، عمق خطط الخداع التي استخدمها السادات. ووفقاً لباحثين من معهد ترومان والجامعة العبرية في القدس، فقد هندس السادات مجموعة من الجهود الرئيسية لجعل الإسرائيليين يشكون في استمرار ولائه للسوفيات. وفي أعقاب اجتماعات السادات في موسكو في 11 تشرين الأول (أكتوبر) 1971، التي قدم فيها طلبات للحصول على أسلحة، والتي رفضها السوفيات لأنها مفرطة، قدم مروان للإسرائيليين نسخة من نصوص تلك المحادثات، والتي شكلت “أكبر صفقة حتى الآن مع الاتحاد السوفياتي” لمصر، كما قال رئيس هيئة الأركان المصرية في ذلك الوقت.
ذهبت هذه النصوص إلى يد رئيسة الوزراء الإسرائيلية، غولدا مائير، التي قدمتها لريتشارد نيكسون ومستشاره للأمن القومي، هنري كيسنغر. ومع ذلك، وفقا للمؤلفين، “كان ينبغي أن يكون محتواها موضع شك كبير”. وفي تعارض واضح مع أداء السوفيات المسجل في المحادثات مع قادة الولايات المتحدة، صور مروان ليونيد بريجينيف، الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي، على أنه شخص غير مطلع وغير مدرك لأساسيات جغرافية شبه جزيرة سيناء، وأن اختصاصييه العسكريين جاهلون بشكل لا يصدق بالأسلحة الموجودة لدى المصريين والتي كان قد زودهم بها السوفيات أنفسهم.
وفي محاولة أخرى لتضليل الإسرائيليين، يُزعم أن السادات طرد كل المستشارين الروس من مصر في تموز (يوليو) 1972. ومع ذلك، لم يكن ذلك طردا أحادي الجانب، وإنما كان “انسحابا من التشكيلات السوفياتية المعتادة التي كان قد تم الاتفاق عليها، ليس بين المصريين والسوفيات فحسب، وإنما أيضاً مع الأميركيين”، وفقاً للباحثين. “تؤكد شهادات العديد من المستشارين (الروس) أنفسهم، وكذلك الوثائق العسكرية المصرية التي استولت عليها إسرائيل في العام 1973، أن المستشارين لم يظلوا مع الوحدات المصرية لمواصلة الاستعدادات للحرب فحسب، وإنما قدموا نفس أنظمة الأسلحة التي زُعم أنه تم رفض منحها لمصر” في السابق.
يقوم الفيلم حقا بالتقاط استراتيجية الخداع التي استخدمها أشرف مروان، والتي كانت القصة التي أراد الفيلم أن يخبر العالم عنها في نهاية المطاف، وفقاً لبيرغمان. ومع أن ذلك يتعارض مع الروايات العربية، فإن مروان هو الذي يكون في الفيلم –وليس السادات- العقل المدبر وراء الهجوم المفاجئ في يوم الغفران. ويقول للسادات في زاوية غرفة: “أعطهم الطُّعم، اخدعهم، ودعهم يظنون أنهم يعرفون ما تنوي فعله. خديعة بعد الأخرى، وعندما يعتقدون أنك تهذر فقط، تهاجمهم فجأة”. ويقول بيرغمان، الذي عرض أن يكتب مذكرات مروان، أن مروان أراد إيضاح أن النجاح المصري في عبور قناة السويس بعد ظهر 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1973 وأخذ الإسرائيليين على حين غرة جاء، أولاً وقبل كل شيء، بفضل نجاحه في خداع الإسرائيليين في السنوات التي سبقت الحرب. ويضيف بيرغمان أن أشرف أخبره بأنه كان جزءاً من مجموعة مكونة من 40 مصرياً، والذين كانت مهمتهم خداع إسرائيل قبل حرب أكتوبر. ويتطابق هذا، تاريخياً، مع الروايات المصرية.
على الرغم من أن الفيلم يعيد فتح النقاش حول أشرف مروان، من المحزن رؤية أن المصريين، وكذلك الدولة المصرية، لم يقدموا مطلقا أي سرد بديل عن أحداث حياته، أو عن الحرب بشكل أعم.
يقول الكاتب المصري محمد نعيم: “إننا لا نعرف بعد ما حدث حقا في حربي 1956 و1973 على مستوى التفاصيل الدقيقة”. ويعتمد معظم المؤرخين على مذكرات الساسة وليس على محفوظات الدولة الرسمية، التي ما تزال مغلقة حتى اليوم. وينطبق هذا على التاريخ المصري المعاصر، كما ينطبق على قصة أشرف مروان. وفي رأي محمد نعيم، من دون قصة تتحدى القصة الشائعة وتفككها، فإن معظم المصريين سيصدقون الحكاية الإسرائيلية، حتى لو أنها لا تنطوي على كثير من الشبه بالحقيقة.

الغد