بكين عدو افتراضي لواشنطن على جميع الجبهات

بكين عدو افتراضي لواشنطن على جميع الجبهات

 

 

واشنطن – في العاشر من شهر أكتوبر، سلمت بلجيكا ضابط مخابرات صيني إلى الولايات المتحدة بعدما أدانته محكمة في أوهايو بتهمة “تجسس اقتصادي اشتمل على سرقة أسرار تجارية من شركات طيران أميركية رائدة“. اعتقلت السلطات البلجيكية شو يان جون، وهو نائب مدير قسم المكتب السادس في وزارة أمن الدولة الصينية في إقليم جيانغسو في الأول من شهر أبريل في بروكسل، وذلك بناء على أمر اعتقال صادر ومرتبط بشكوى جنائية أميركية.

ويتابع سكوت ستيوارت محلل الشؤون الاستخباراتية والأمنية في مركز ستراتفور، سير هذه القضية مشيرا إلى أنه على الرغم من إلقاء القبض على الجاسوس الصيني، فإن المخاطر الكبرى تعني أن القبض عليه لن يفعل الكثير في ما يتعلق بإيقاف التهديد المستمر الذي يمثله التجسس الصناعي.

وصرح جون ديميرس مساعد المدعي العام لقسم الأمن القومي بوزارة العدل بأن “هذه القضية ليست حادثة منعزلة.. إنها جزء من سياسة اقتصادية شاملة لتنمية الصين على حساب الولايات المتحدة”.

وفي الفترة الأخيرة، تصاعد التوتر بين واشنطن وبكين بسبب القضايا الجيوسياسية والتوترات التجارية والقرصنة والتجسس على الشركات. وصنف نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، الصين عدوّا افتراضيّا للولايات المتحدة على جميع الجبهات، مشيرا إلى أن “ما يفعله الروس يتضاءل مقارنة بما تقوم به الصين في البلاد”.

وقال بيل بريستاب مساعد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية “إن التسليم غير المسبوق لضابط مخابرات صيني، يكشف عن الإشراف المباشر للحكومة الصينية على التجسُّس الاقتصادي ضد الولايات المتحدة”.

سكوت ستيوارت: من المهم لأي مؤسسة الاحتفاظ ببرامج أمنية قوية تشتمل على أدوات للحد من التهديدات على الإنترنت،  وأيضا برامج تدريب لتعليم الموظفين كيف يتم استغلال التجسس البشري

يكشف إلقاء القبض على عميل صيني في دولة ثالثة، ثم تسليمه بعد ذلك إلى الولايات المتحدة، عن التهديد الذي يمثله التجسس الصناعي. وفي نفس الوقت، فإن نشر الشكوى ولائحة الاتهام أيضا يقدمان لمحة نادرة ومثيرة للاهتمام لمهارات التجسس الصينية، كما يقدمان أيضا نظرة ثاقبة إلى حد ما في ديناميكيات أساليب التجسس الصناعي في تجنيد الاستخبارات البشرية.

وتجري معظم هذه العملية الآن عن طريق الإنترنت، على عكس العصور السابقة، عندما كان يتطلب الأمر تفاعلا مباشرا في موقع الحدث، وتطوير وطرح عميل. وما هو أكثر واقعية هو أن القضية تُرسل إشارة واضحة إلى بكين بأن واشنطن وحلفاءها جادون حيال مواجهة التهديد الدائم الذي يمثله التجسس الصناعي الصيني وأنهم قادرون على اتخاذ إجراءات حاسمة.

ويقول ستيوارت إنه مثل جميع قضايا التجسس، فإن قضية شو بدأت بقائمة تسوق معلومات أصدرت السلطات الصينية توجيهاتها إلى وزارة أمن الدولة لجمع هذه المعلومات. وفي حالة وكالات التجسس الصينية مثل وزارة أمن الدولة، فإن هذه القائمة لم تشتمل فقط على معلومات مخابراتية تتعلق بالتطورات السياسية والعسكرية في البلدان محل الاهتمام، لكن اشتملت أيضا على تقنيات ترغب الصين في الحصول عليها من شركات أجنبية.

وكثيرا ما أظهرت بكين جسارة في محاولاتها للحصول على تقنية. ويستحضر ستيوارت أوراق قضية مماثلة تتعلق ببرنامج بحوث وتطوير التكنولوجيا العالية الذي تديره منذ فترة طويلة وزارة العلوم والتكنولوجيا الصينية والمعروف أيضا باسم برنامج 863. وفر البرنامج الإرشاد والتمويل للاستحواذ على أو تطوير تكنولوجيا متعلقة بمجالات المعلومات، والأحياء والزراعة والصناعة والطاقة ومجالات أخرى ذات “تأثير مهم على تعزيز جوانب القوة الوطنية الشاملة في الصين“.

لكن حتى مع تحدث موقع الوزارة عن تطوير محلي لمثل هذه الأنواع من التكنولوجيا، فإن الجوانب العملية كانت تفرض ولفترة طويلة الحصول على هذه التكنولوجيا ببساطة بطريقة أرخص وأسرع، وبأي طريقة ممكنة، إذا ما اقتضت الحاجة.

الصينيون يترصدون أحدث التكنولوجيات الأميركية

في شهر مايو من عام 2015، أعلنت الحكومة الصينية عن خطة تطوير مدتها عشر سنوات أطلقت عليها اسم “صُنع في الصين”. تستهدف هذه الخطة التكنولوجيات المتطورة، وتحديدا معدات الطيران والفضاء والمواد الجديدة وتكنولوجيا معلومات الجيل القادم وآلات التحكم الرقمي الراقية والإنسان الآلي وأدوات الهندسة البحرية وتصنيع السفن البحرية عالية التقنية ومعدات السكك الحديدية المتقدمة، وتكنولوجيا توفير الطاقة والحافلات الجديدة والأدوات الكهربائية وأدوات الطب ذات التكنولوجيا المتقدمة والطب الحيوي، بالإضافة إلى التكنولوجيا والآلات والمعدات الزراعية.

في تقرير آخر لمركز ستراتفور حول السياسات الصينية، يذكر المحلل ماثيو بي أن سياسة الصين في تفويض نقل التكنولوجيا في مشاريع مشتركة مع شركات أميركية واحدة من الطرق المثيرة للجدل التي تحصل بها الصين على التكنولوجيا التي تريدها، لكن بالنظر إلى قضية شو، يرى ستيوارت أن هناك طريقة أخرى مثيرة للجدل ألا وهي التجسس.

وطبقا للائحة الاتهام، فقد حاول شو سرقة تصميمات لتكنولوجيا جهاز محرك الطائرة المجمع (والذي تحتاجه الصين لتنأى بنفسها عن روسيا) من “الشركة أ” والتي عرفتها تقارير إعلامية على أنها شركة جنرال إليكتيريك آفييشن، ويبدو هذا منطقيا مع الوضع في الاعتبار أن القضية مرفوعة في مكتب المدعي العام الأميركي للمقاطعة الجنوبية في ولاية أوهايو.

وكجزء من مرحلة الاكتشاف الأولية لعملية استخدام الاستخبارات البشرية، من المرجح أن شو عمل على جمع قائمة من الأشخاص الذين يستطيعون الوصول إلى المعلومات قبل تقييم أي من هؤلاء الأشخاص قد يكون أكثر تقبلا للتجنيد.

وينقل ستيوارت عن بعض التقارير أن شو عمل مع نائب مدير جامعة نانجينغ للملاحة الجوية والفضائية لتوجيه الدعوة إلى “الموظف رقم 1” وهو مهندس في الشركة أ، للمشاركة في تبادل في الجامعة. وتشير المزاعم إلى أن شو أرسل بريدا إلكترونيا للموظف رقم 1 وتنكر في شكل “المتآمر رقم 1”.

وقبل الموظف رقم 1 العرض وسافر إلى الصين لتقديم عرضه في جامعة نانجينغ للملاحة الجوية والفضائية في الثاني من شهر يونيو من عام 2017. وتحملت الجامعة تكاليف سفر المهندس ومنحته مبلغا قيمته 3500 دولار أميركي نقدا كرسوم كونه متحدثا.

وخلال الرحلة، قدم نائب مدير جامعة نانجينغ للملاحة الجوية والفضائية، والمدرج في لائحة الاتهام على أنه المتآمر رقم 1، الموظف رقم 1 لشو، والذي كان يعمل تحت اسم مستعار هو قو هوي، وزعم أنه من جمعية النهوض بالعلوم والتكنولوجيا في إقليم جيانغسو، وهي هيئة تابعة لجامعة نانجينغ للملاحة الجوية والفضائية.

وقام شو بالخروج مع الموظف رقم 1 لتناول الوجبات قبل وبعد تقديم عرضه، وقال للمهندس الأميركي إن جمعية النهوض بالعلوم والتكنولوجيا في إقليم جيانغسو هي التي دفعت رسوم كونه متحدثا. وشرع شو سريعا في مرحلة تطوير عملية تجنيد الاستخبارات البشرية، حيث واصل الاتصال بالمهندس بعدما عاد الأخير إلى الولايات المتحدة. وخلال مراسلاتهما المستمرة، ضغط شو على الموظف رقم 1 للحصول على بيانات تقنية في حين كان يحمل إغراء المشاركة في إلقاء كلمة أخرى في الصين والحصول على مبلغ نقدي آخر.

الجاسوس الصيني شو حاول سرقة تصميمات لتكنولوجيا جهاز محرك الطائرة المجمع (والذي تحتاجه الصين لتنأى بنفسها عن روسيا) من “الشركة أ” والتي عرفتها تقارير إعلامية على أنها شركة جنرال إليكتيريك آفييشن

وفي حين طلب شو بشكل واضح معلومات حساسة، مما يمثل تحولا إلى مرحلة الترويج لعملية تجنيد المخابرات البشرية، قال الموظف رقم 1 بشكل قاطع إنه لا يستطيع إرسال مثل هذه المعلومات من الحاسب الآلي الخاص بالشركة، مما حفز العميل الصيني على تشجيع الموظف رقم 1 لإرسال المعلومات المطلوبة من حساب بريد إلكتروني آخر.

كما ناقش شو كيف يمكن له هو والموظف رقم 1 إقامة علاقة مستمرة، وألمح شو إلى صفقة لتبادل المعلومات مقابل الحصول على مبلغ من المال.

واستمر شو في التواصل مع المهندس والضغط عليه لإرسال المزيد من المعلومات الحساسة. وأرسل الموظف رقم 1 لشو نسخة من عرض الشركة، وكان هذا العرض يحمل شعار الشركة، بالإضافة إلى تحذير بأن هذه المعلومات تم تسجيل ملكيتها، والتي استلمها شو بكل حماس.

وفي وقت لاحق، أرسل شو إلى الموظف رقم 1 قائمة معلومات مطلوبة، وطالب المهندس الأميركي بتحديد أي من هذه المواضيع يُلم به. ورد الموظف رقم 1 قائلا إن بعض هذه المواضيع من الأسرار التجارية للشركة، مما جعل شو يرد بأنه يمكنهم مناقشة هذا الأمر وجها لوجه.

كما طلب شو من الموظف رقم 1 أن يقدم له نسخة من دليل ملفات القرص الصلب من جهاز الكمبيوتر المحمول (اللابتوب) الخاص  به والخاص بالشركة. وقدم الموظف رقم 1 نسخة على النحو المطلوب، لكن بعدما قامت الشركة بمحو المواد الحساسة الموجودة عليه وصادقت على نشرها وأشارت إلى أنه كان ينبغي على الموظف رقم 1 إبلاغ شركته والسلطات الأميركية قبل الوصول إلى هذه المرحلة في العملية بكثير، وبذلك فإنهم كانوا جميعا يخدعون شو جنبا إلى جنب.

وبحصوله على عرض الشركة ودليل الملفات، يبدو أن شو اعتقد أنه استطاع تجنيد الموظف رقم 1 بنجاح، مما جعل شو يطلب المزيد من المهندس الأميركي: جميع المحتويات الموجودة على القرص الصلب والكمبيوتر المحمول الخاص به والخاص بالشركة. وحيث أنه لم يكن مسموحا للموظف رقم 1 إحضار الكمبيوتر المحمول الخاص به إلى الصين، فقد رتب الاثنان لعقد لقاء في أوروبا خلال رحلة يقوم بها الموظف رقم 1 كانت مقررة سلفا، لكن بدلا من التوجه إلى بروكسل للحصول على الكنز الدفين من المعلومات السرية، فقد وقع مباشرة في عملية دقيقة.

وكانت وكالات المخابرات تنظر منذ فترة طويلة إلى المؤتمرات التقنية على أنها أرض خصبة للصيد من أجل تجنيد عملاء يمكنهم الوصول إلى معلومات مخابراتية تقنية. وعلاوة على زيارة المؤتمرات فقط التي ينظمها آخرون، فعادة ما تستضيف وكالات مثل وزارة الأمن الداخلي في الصين مؤتمرات وبرامج تبادل تقني مستخدمة مؤسسات مستترة، بما في ذلك جماعات، ومؤسسات تجارية ومراكز بحثية.

تجنيد العملاء

بالإضافة إلى توجيه الدعوة إلى جماعات لحضور مؤتمرات، عادة ما كان العملاء السريون يوجهون الدعوة إلى أشخاص ذوي صلة ليقوموا بزيارات فردية إلى مؤسسات مستترة.

وكانت المخابرات الصينية، على سبيل المثال، قد جندت كيفن مالوري بعدما وجهت أكاديمية العلوم الاجتماعية بشنغهاي الدعوة إلى ضابط المخابرات المركزية الأميركية (سي.آي.إيه) السابق للسفر إلى الصين لعرض وجهة نظره بشأن قضايا حالية في مقابل الحصول على مكافأة. وفي النهاية، ألقت السلطات الأميركية القبض على مالوري، الذي اعترف بالتجسس في شهر يونيو.

وفي حين أن هيئات المخابرات الصينية تقوم بعمل إضافي في إطار جهودها التي تبذلها للحصول على تقنيات تم تحديدها في برنامج “صُنع في الصين 2025”، فهذه الهيئات ليست وحدها هي التي تقوم بهذا. فقد وضعت روسيا قائمتها التي تتألف من 77 تقنية أجنبية تأمل في تطويرها محليا بدلا من الحصول عليها من مصادر أجنبية.

وفي عصر المعلومات، أصبح حذف كميات هائلة من المعلومات لأي شخص الآن أكثر سهولة من ذي قبل أو أن يصبح تهديدا داخليا متقدما ومستمرا. ولهذا السبب، أصبح من المهم جدا بالنسبة لأي مؤسسة الاحتفاظ ببرامج أمنية قوية لحماية نفسها. ولا تشتمل مثل هذه البرامج على أدوات للحد من مثل هذه التهديدات على الإنترنت فقط، لكن تشتمل أيضا على برامج تدريب لتعليم الموظفين كيف يتم استغلال التجسس البشري وما الذي يمكنهم فعله إذا ما تم التواصل معهم.

وبناء على الأحداث التي شهدتها قضية شو، يخلص ستيوارت إلى أن الموظف رقم 1 قد تلقى تدريبا، وكان يتمتع بوعي بالطبيعة الحساسة لمشاريعه وأهميتها بالنسبة لهيئات المخابرات الأجنبية، وكان يعرف ما الذي ينبغي عليه فعله إذا ما تواصل معه أحد.

وفي سعيها وراء هذه القضية، أخطرت الولايات المتحدة الصين أنها ستعمل على كبح جماح أنشطة التجسس الصناعي لبكين. وعلى الرغم من ذلك، فإن وكالات المخابرات الصينية مثل وزارة أمن الدولة تخضع لضغط هائل من قبل قادتها للحصول على تقنيات معينة، مما يعني أنه من غير المرجح وبشكل كبير أن توقف المحاكمات سعي الصين المحموم للحصول على التقنية.

لكن بسبب تسلسل الأحداث في قضية شو، ففي المرة القادمة التي يتصل فيها العملاء الصينيون بموظف في الشركة أ يمتلك معلومات حساسة، من المرجح أن يكونوا أكثر حرصا نوعا ما، خشية أن يجدوا أنفسهم وقد تم إلقاء القبض عليهم.

العرب