هل تدفع سياسات ترامب العالم إلى الهاوية النووية

هل تدفع سياسات ترامب العالم إلى الهاوية النووية

ماذا يعني انسحاب الولايات المتحدة الأميركية مؤخرا من معاهدة القوى النووية مع روسيا وما هي تداعيات هذه الخطوة على مستوى التوازنات الدولية، هي حزمة أسئلة حارقة باتت تشغل العالم بعدما أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مطلع الأسبوع أن واشنطن ستنسحب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى التي أبرمت خلال الحرب الباردة مع روسيا، متهما موسكو بانتهاك المعاهدة وذلك في خطوة تنذر بأن ذلك سيزيد في حدة التوترات التي قد تؤدي إلى خلق عالم نووي خطير لا يحتكم إلى أي ضوابط.

واشنطن – أكد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب أن بلاده ستنسحب من معاهدة الحد من الأسلحة النووية متوسطة المدى التي أبرمت خلال الحرب الباردة مع روسيا.

واتهم ترامب روسيا بأنّها “تنتهك منذ سنوات عديدة” معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى. وقال إن “روسيا لم تحترم المعاهدة، وبالتالي فإنّنا سننهي الاتفاقية” الموقّعة بين البلدين في 1987.

إعلان مباغت للإدارة الأميركية المنتشية إلى اليوم بمخرجات لقاء فلاديمير بوتين بترامب في قمة هلسنكي، لكنه جاء متبوعا برد موسكو التي لم تنظر كثيرا لترد بقوة على خطوة الولايات المتحدة بتأكيدها أن مرد تهديد ترامب بالانسحاب من المعاهدة هو حلمه “بعالم أحادي القطب”.

واتهمت موسكو واشنطن بتوجهها منذ زمن بعيد وبصورة متعمدة، نحو خرق المعاهدة بتقويض أسسها.

يستدعي الجدل الكبير حول انسحاب واشنطن من المعاهدة المذكورة الوقوف عند تاريخية توقيعها، حيث أبرمت الاتفاقية بين واشنطن وموسكو في عهدي كل من الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان والزعيم السوفيتي ميخائيل غورباتشوف في ديسمبر عام 1987 أي خلال فترة الحرب الباردة لتكون أول معاهدة بين القطبين الغربي والشرقي في تلك الحقبة.

ووضعت المعاهدة التي ألغت فئة كاملة من الصواريخ يتراوح مداها بين 500 و5000 كيلومتر، حدا لأزمة اندلعت في الثمانينات بسبب نشر الاتحاد السوفيتي صواريخ “أس.أس 20” النووية، التي كانت تستهدف عواصم أوروبا الغربية. وأجبرت الطرفين على سحب أكثر من 2600 صاروخ نووي تقليدي، من الأنواع القصيرة ومتوسطة المدى.

لماذا أبرمت الاتفاقية

هذا السجال المتجدد بين المعسكرين الغربي والشرقي، أوحى للعديد من المراقبين أن حربا نووية بدأت تدق طبولها بين القطبين في إطار ما يشهده العالم من تغيرات في النظام العالمي أو في موازين القوى.

في المقابل، لا يعتبر الكثير من الخبراء أن انسحاب واشنطن من الاتفاق يعني وجوبا اندلاع حرب نووية بين الشرق والغرب، رغم أن قرار ترامب أثار مخاوف من تسارع السباق المحموم الرامي إلى تطوير وإنتاج الأسلحة النووية، لدى كلا المعسكرين، فضلا عن حلفاء واشنطن وموسكو.

بسبب الجدل المتصاعد حول خطوة ترامب، تعود مجلة “فورين بوليسي” الأميركية للتعريج على تاريخية توقيع الاتفاقية وعلى تداعيات انسحاب واشنطن منها، ويقول الكاتب مايكل هيرش “منذ حوالي أربعة عقود مضت، بدأت واشنطن وموسكو في التفكير في إنقاذ العالم من الهاوية النووية من خلال التفاوض على عدد كبير من اتفاقيات الحد من التسلح. ولكن مع قرار إدارة ترامب بالانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى، قد يحول العالم الآمن إلى عكس ذلك تماما.

ويؤكد أن معاهدة القوى النووية متوسطة المدى، التي وُقعت في عام 1987، كانت بمثابة حجر الزاوية في تلك الجهود المبكرة لتخفيف حدة التوتر. وكانت الاتفاقية، بحسب تصريحات رئيس الولايات المتحدة في ذلك الوقت رونالد ريغان، بأنها أول معاهدة نووية للقضاء على الأسلحة النووية وليس فقط الحد منها.

ولا تهدد إدارة ترامب فقط بالتراجع عن عدد كبير من إجراءات الحماية واحتياطات السلامة، ولكنها تستأنف سباق التسلح بوعي تام، في ظل وجود خطة تحديث نووية كاملة يمكن أن تكلف ما يصل إلى 1.6 تريليون دولار على مدى 30 عاماً، وفقا لتقرير أكتوبر 2017 الصادر عن مكتب الموازنة في الكونغرس الأميركي.

وترجح “فورين بوليسي” أن يستجيب كل من الروس والصينيين لهذه الإجراءات، ولكن مع توقف عمليات التفتيش المعتمدة من قبل المعاهدات، لن تصبح الحكومات على دراية بما قد يقوم الطرف الآخر ببنائه.

وتعتقد لارا سليغمان الكاتبة بـ”فورين بوليسي” أن خطة ترامب لترك معاهدة الأسلحة الكبرى مع روسيا قد تكون في الواقع حول الصين، لأن الانسحاب من الاتفاقية يمهد الطريق للولايات المتحدة لتعزيز قواتها في المحيط الهادئ.

خطوة ة لتعزيز النفوذ في المحيط الهادئ

قالت ألكسندرا بيل، وهي مسؤولة بارزة سابقة في إدارة أوباما وتعمل الآن في مركز الحد من الأسلحة وعدم الانتشار إنه “من المقلق للغاية ألا نكون على دراية كافية بما يدور داخل القوات الاستراتيجية الروسية لأول مرة منذ 40 عامًا. فلا توجد طريقة للحصول على معلومات باستثناء عمليات التفتيش المتبادلة”.

وقال ترامب الاثنين إنه سيزيد من مخزون الولايات المتحدة من الأسلحة النووية – بما في ذلك من أجل مواجهة تزايد النفوذ الصيني – “حتى يعود الناس إلى صوابهم”.

وبعد قوله هذه الجملة، لم يحدد ترامب ما يعنيه بالضبط، لكنه اقترح أن إحياء التهديد النووي من جديد من جانب واشنطن سيجبر الدول الأخرى على الخضوع والتسليم.

وأضاف ترامب “إنه تهديد للجميع، للصين ولروسيا، ولأي شخص آخر يريد لعب تلك اللعبة. لا يمكنكم لعب هذه اللعبة معي”.

ويوافق توم كاراكو، المحلل بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، على أن إلغاء معاهدة الحد من الأسلحة النووية سيسمح للولايات المتحدة بنشر منصات أرضية مهمة في منطقة المحيط الهادئ. وقال “أعتقد أن التأثير الأكثر إلحاحاً على المدى القريب من المرجح أن يكون لصاروخ ‘حرائق الجيش طويل المدى’”.

وقد يعني “عدم وجود معاهدة القوى النووية متوسطة المدى أنه قد يكون من الأسهل قليلاً التوصل إلى أنظمة التوصيل غير المتطوّرة التي يمكن أن تخدم أغراضنا، لكننا لن نقتصر على قيود المعاهدة”.

ولا تعد هذه الخطوة الأميركية الجديدة سابقة من نوعها، ففي عام 2015، دفع أندرو كريبينفيتش جونيور، رئيس مركز التقييمات الاستراتيجية والمتعلقة بالموازنة، استراتيجية “الدفاع الأرخبيلي” لتأسيس سلسلة من الدفاعات المرتبطة على امتداد ما يسمى بسلسلة الجزر الأولى، التي تشمل أجزاء من اليابان والفلبين وتايوان. وجادل كريبينفيتش بأن على الجيش الأميركي وحلفاءه مثل اليابان نشر أنظمة أطول مدى قادرة على اعتراض الصواريخ الصينية وتدمير الطائرات الصينية على طول هذه السلسلة.

وطرح كريبينفيتش فكرة إحياء قوة المدفعية التابعة للجيش من أجل الدفاع الساحلي، وهي مهمة تركها الجيش الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية.

رسائل للصين

يمكن لهذه التحركات، في نهاية المطاف، أن تجعل العالم يواجه نوعًا جديدًا من توازن الرعب، وعلى عدة جبهات مختلفة، بحيث لم يعد الأمر يتعلق فقط بواشنطن وموسكو. فالصين، التي كانت أثناء الحرب الباردة قوة نووية صغيرة ولا تزال مقارنة بالولايات المتحدة أو روسيا، قامت الآن ببناء ترسانة الأسلحة الخاصة بها والتي تحوي الآلاف من الصواريخ، بما فيها الصواريخ الباليستية، ومتوسطة المدى، وبعيدة المدى، والعابرة للقارات، والقذائف التي يمكن إطلاقها جواً وبراً وبحراً. وتشمل تلك الترسانة الصاروخ “دي.أف.41” والذي يُعتقد أنه الأطول مدى، حيث يمكن أن يصل إلى مدى قدره 7500 ميل.

وتبدو بكين مقيدة بتزويد تلك الصواريخ برؤوس نووية، فهي تحتفظ بما يقدّر بنحو 250 إلى 300 رأس نووي، أي أكثر مما تمتلكه فرنسا. لكن هذا يمكن أن يبدأ في التغير إذا ارتفعت حدة التوتر ولم يتم وضع أي معاهدة لاحتوائها.

وقالت كايتلين تالمادج، وهي أخصائية في جامعة جورجتاون في سياسة الدفاع الأميركية، إن الصين قامت بالفعل بتحديث القوات النووية للبلاد كجزء من المنافسة الأوسع مع الولايات المتحدة.

وأضافت “من غير الواضح أن مجال المنافسة هذا سيكون أكثر أهمية بشكل كبير من مجالات منافسة أخرى مثل الدفاع الصاروخي، والفضاء الإلكتروني، والصواريخ التقليدية، أو الحرب فوق أو تحت سطح البحر حيث تحاول الولايات المتحدة والصين التفوق على بعضهما البعض بالفعل في هذه المجالات لفترة من الوقت”.

ومع ذلك، وبدون القيود التي تفرضها هذه المعاهدات، يمكن أن يصبح “توازن الرعب في المحيط الهادئ” أمراً لا يمكن التنبؤ به مثلما كان سائداً بين موسكو وواشنطن في أحلك أيام الحرب الباردة.

وتزعم إدارة ترامب أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مسؤول عن فشل معاهدة القوى النووية متوسطة المدى. حيث أعلن في فبراير 2007، أن المعاهدة لم تعد تخدم مصالح روسيا، ومنذ ذلك الحين، بدأت روسيا تنتهك المعاهدة، مدعيةً أن نشر الصواريخ لديها مبرر من قبل نظام الدرع الصاروخي الأميركي.

وقال ماثيو بون، المتخصص في الأسلحة النووية في مركز بيلفر بجامعة هارفارد، “الانتهاكات كانت صغيرة النطاق نسبياً، حيث شملت بشكل رئيسي بناء ما بين 40 إلى 50 صاروخ كروز من طراز أس.أس.سي 8 المحظورة”، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تنتهك المعاهدة من الناحية الفنية من خلال أخذ قاذفة صواريخ بحرية، “ذي إيغيز”، من البحر وإعادتها إلى الشاطئ.

وأصبح المسؤولون الروس يشعرون بالقلق بشأن ما يمكن أن يعنيه اختراق معاهدة الأسلحة النووية على المدى الطويل. ففي العقود التي تلت توقيع الاتفاقية لم يتخذ عدد كبير من التدابير الوقائية – وخاصة برنامج “نان – لوغار” عام 1991 لتمويل تفكيك الأسلحة في الدول السوفياتية السابقة – لكبح جماح القوى العظمى فحسب، بل ضمنت أيضاً منع وصول المواد النووية إلى أيدي الإرهابيين.

وقال بون إنه عندما كان في زيارة إلى موسكو في وقت سابق من هذا العام، عقد سيرجي روغوف، من معهد الدراسات الأميركية والكندية – الذي له علاقات بالمشرعين الروس، مؤتمرًا قال فيه إن “ترك معاهدة القوى النووية متوسطة المدى يمكن أن يؤدي إلى انهيار الهيكل الكامل للتحكم في الأسلحة”.

وأضاف “لم يتبق لدينا سوى معاهدة ‘ستارت’ الجديدة”. لكن تاريخ هذه المعاهدة سينتهي أيضاً مع بداية فترة الرئاسة المقبلة 2021، ما لم يتم عمل تمديد لخمس سنوات أخرى.

وقال “إما بعد عامين ونصف من الآن، وإما بعد سبع سنوات ونصف من الآن، تنتهي هذه المعاهدة. وإذا حدث ذلك، فلتنس توقيع أي معاهدة أخرى في الكونغرس الأميركي”.

ويبدو أن هذا هو بالضبط السيناريو الذي يريده جون بولتون، مستشار الأمن القومي المتشدد. الذي حقق نجاحاته في إسقاط اتفاقيات الحد من الأسلحة، واحدة تلو الأخرى، وقد أشار في تصريحات مختلفة إلى أنه يضع الآن اتفاقية “ستارت” نصب عينيه.

وغالباً ما يعلن ترامب عن استيائه من الأسلحة النووية، لكن يبدو أنه يتبع الآن أجندة بولتون، الذي يتبع تقليداً قديماً من متشددي الحرب الباردة الذين عارضوا الحد من التسلح، معتقدين أن مثل هذه الاتفاقات تقيد قدرة الولايات لإنشاء تكنولوجيا متفوقة والسيطرة على ساحة المعركة.

الحرب الباردة
يعتقد المتشددون أن تعزيز الأسلحة العدوانية ساعدهم على الفوز فعليًا بالحرب الباردة عندما انهار الاتحاد السوفيتي اقتصاديًا في مواجهة الإنفاق الدفاعي الأميركي والتقدم التكنولوجي.

واستناداً إلى استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018، تعتقد إدارة ترامب أن الولايات المتحدة عادت إلى وضعها الطبيعي، وترى ضرورة تحرير الولايات المتحدة من أي قيود تعاهدية على بناء الأسلحة.

وبحسب ما تقوله الاستراتيجية إن “التحدي الرئيسي أمام ازدهار الولايات المتحدة وأمنها هو عودة ظهور المنافسة الاستراتيجية طويلة الأجل مع روسيا والصين، حيث الدافع لتطوير تقنيات جديدة يجري بلا هوادة”.

وقالت لين روستن، التي شغلت منصب كبيرة المديرين في مراقبة الأسلحة في مجلس الأمن القومي السابق للرئيس باراك أوباما “دعا بولتون إلى الانسحاب من معاهدة الأسلحة النووية منذ عام 2011، حتى قبل ظهور الانتهاكات الروسية”. كما قالت إن فكرة بولتون عن نشر صواريخ أرضية في سلسلة جزر حول الصين خيالية وغير ضرورية، حيث تعتبر الصواريخ الأميركية الجوية والبحرية كافية.

وفي السابق، كانت واشنطن في العادة هي التي تسعى إلى تخفيف حدة التوتر من خلال اقتراح معاهدات جديدة للحد من الأسلحة. لكن الآن، واشنطن هي التي تنسحب من المعاهدات، مما يتيح الفرصة أمام بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ لبناء قواتهما النووية كما يشاؤون. وقالت روستن “أعتقد أن هذا يفتح الباب أمام سباق تسلح شامل”.

ولا تزال هناك فرصة لإنقاذ المعاهدة، وذلك يتطلب إرسال إشعار قبل ستة أشهر من الانسحاب. وتأمل روستن وغيرها من مؤيدي معاهدة القوى النووية متوسطة المدى في أن يتم إنقاذ المعاهدة إذا وافقت روسيا على الامتثال وإذا مارس الكونغرس ضغوطا على ترامب.

وأضافت “لم تنته المعاهدة بعد، ونأمل أن يكون هناك إعادة نظر بشأنها. إن الانتهاك الروسي للمعاهدة يمثل مشكلة بالطبع، لكن انسحابنا لن يعالج المشكلة، ولكن سيلقي فقط باللوم على الولايات المتحدة”.

ويتوقع معظم المراقبين انسحاب الولايات المتحدة وبداية عهد جديد تصبح فيه الأسلحة النووية مرة أخرى جزءاً من الحسابات الاستراتيجية بين القوى العظمى.

العرب