تونسيات بصوت واحد: لا للإرهاب

تونسيات بصوت واحد: لا للإرهاب

إقدام شابة تونسية في الثلاثين من عمرها على تفجير نفسها خلال هجوم إرهابي في شارع الحبيب بورقيبة مؤخرا، يكشف أن المرأة في تونس رغم ما تتمتع به من مكاسب وما تحظى به من مستوى تعليمي مرموق، سهلة الاستقطاب نتيجة انسداد الأفق وما تعانيه من تهميش اقتصادي.

تونس – ذهل التونسيون الاثنين حين قامت امرأة تونسية بتفجير نفسها في “قلب العاصمة” تونس، غير بعيد عن وزارة الدّاخلية، مستهدفة دورية أمنية، ما أسفر عن إصابة 20 شخصا.

وشكلت الحادثة الإرهابية صدمة لدى الرأي العام المحلي، فهو التفجير الأول الذي تشهده العاصمة منذ التفجير الانتحاري في 24 نوفمبر عام 2015، كما أنها المرة الأولى التي يستهدف فيها الإرهاب شارع الحبيب بورقيبة وما يحمله من رمزية لدى التونسيين، فهذا الشارع شاهد على هتافات ثورة يناير 2011 وشاهد على تفاصيل الحياة اليومية في بلد يعيش مخاضا انتقاليا صعبا منذ أكثر من ثماني سنوات.

وعلى الرغم من أن المجموعات الجهادية المسلحة استهدفت بشكل متكرر قوات الأمن التونسية منذ انتفاضة يناير، لكن ما شكل صدمة مدوية للتونسيين هو إقدام امرأة تونسية على تفجير نفسها في عملية إرهابية غير متوقعة، لتحاول هذه الحادثة أن تشوه صورة المرأة التونسية التي يشهد العالم بمستواها التعليمي والثقافي المرموق.

وقدمت منى قبلة الانتحارية التي فجرت نفسها في شارع الحبيب بورقيبة، نموذجا خطيرا للنساء زرعه الإرهاب في المجتمع، هو نموذج لا يشبه المرأة التونسية التي تحظى بإعجاب العالم لما نالته من مراكز مشرفة ولدورها الفاعل على جميع المستويات، والتي ناضلت على مدى سنوات طويلة لأجل تفعيل ترسانة من القوانين تحمي حقوقها.

وتدق الحادثة الإرهابية الأخيرة ناقوس الخطر، إذ تشير إلى أن المرأة باتت سهلة الاستقطاب إلى الدرجة التي تحولت فيها إلى الصفوف الأمامية من الأعمال الإرهابية، الأمر الذي يكشف أن تونس البلد الذي يراهن على دور المرأة منذ استقلاله في بناء الدولة، ويحاول أن يحمي مكانتها عبر تعزيز ترسانته القانونية منذ إنشاء مجلة الأحوال الشخصية في عام 1956 التي تضمنت حقوقا واسعة للمرأة، وعبر رهانه على التوعية والتعليم، هناك نساء من نفس المجتمع الحداثي وقعن في فخ التطرف.

وتكشف عملية التفجير بشارع الحبيب بورقيبة أن ما نالته المرأة التونسية من مكاسب لم يستطع أن يحصنها من براثن الإرهاب، حتى إذا كانت تتمتع بمستوى تعليم عال، فما تعانيه الكثيرات من فقر وتهميش اقتصادي واجتماعي يجعلهن فريسة سهلة للاستقطاب نحو الفكر الجهادي المتطرف.

وانتحارية تونس منى قبلة جامعية تحمل شهادة في الأعمال باللغة الإنكليزية وهي من بلدة زردة النائية في محافظة المهدية على الساحل الشرقي للبلاد. ووفق عائلتها، لم تجد الشابة التي تخرّجت منذ ثلاث سنوات عملا في قطاع الأعمال لكنها كانت تهتم أحيانا بالماشية.

واعتبر والداها أن ابنتهما “ساذجة” و”تم التلاعب” بعقلها. وتحدثا عن شابة “مثالية” وعزباء كانت تمضي معظم وقتها أمام الكمبيوتر. وقالت ذهبية والدة الانتحارية التي قضت في عملية التفجير لوسائل إعلام، إن “ابنتي كانت فريسة الإرهاب” الذي أعدها لتكون أول انتحارية في البلاد.

وأضافت ذهبية وهي تلطم بيديها على رجليها جالسة على بساط من البلاستيك مخاطبة ابنتها “لماذا فعلت بنا هذا؟ ماذا فعلنا لك لكي نعيش هذه الكارثة؟”. ولا يفهم الوالدان الأميان كيف أن ابنتهما التي كانت تمضي الكثير من الوقت أمام الكمبيوتر ولا تغادر إلا قليلا المنزل المتواضع، تم تجنيدها لارتكاب الاعتداء.

وتدفع الحادثة الإرهابية للتساؤل عن الأسباب التي تدفع امرأة تونسية إلى الإقدام على جرائم إرهابية. واستطلعت “العرب” آراء تونسيات من الحقل السياسي والإعلامي والأمني وخبراء للتعرف على أسباب تورط النساء في براثن الإرهاب.

وأجمع هؤلاء على أن التونسيات يتمتعن بمكاسب تطورت منذ ثورة يناير حيت توسعت الإصلاحات الاجتماعية والتشريعية بالبلد عبر اقتراح لجنة رئاسية قانون المساواة في الإرث بين الرجال والنساء، في خطوة تكشف تغير المجتمع وتطور دور المرأة التي أصبحت تتقاسم مع الرجل جميع المسؤوليات، إلا أن الحادثة الإرهابية الأخيرة تحمل دلائل سلبية تكشف التناقضات التي يعاني منها المجتمع، وتلفت إلى أنه كما توجد المرأة المثقفة والواعية توجد امرأة سقطت في فخ الإرهاب.

غسيل أدمغة
أشارت سعاد عبدالرحيم شيخة مدينة تونس لـ”العرب” إلى أن “التنظيمات المتطرفة تعتمد على العديد من الطرق لغسل أدمغة الشباب والنساء لتجريدهم من مشاعر الانتماء ومن الإحساس بالوطنية حتى يكونوا جاهزين لتنفيذ جرائم إرهابية”.

وتابعت “ثم يقع الامتثال لأوامر التنظيمات الإرهابية وينفذون العملية بتفجير أنفسهم وإلحاق الضرر بأرواح بشرية لا ذنب لها.. وهي جرائم ضد الوطنية وضد استقرار البلاد”. وتعتقد عبدالرحيم أنه حين تتجرد المرأة من الوطنية وتفتقد قيمة المواطنة لن تفكر في رصيدها من الحقوق.. فهذا النوع من العمليات يغيب فيه التفكير العقلاني نتيجة عملية الاستقطاب وتوجيه الفكر ضد البلد وضد الانتماء إلى جانب الطرق المستعملة الأخرى في الدمغجة.

أما بدرة قعلول رئيسة المركز التونسي للدراسات الأمنية والعسكرية (مركز مستقل) فدقت ناقوس الخطر واعتبرت أن العملية الإرهابية الأخيرة تفصح عن نقلة نوعية لمشاركة النساء في العمليات الإرهابية.

وقالت قعلول لـ”العرب” إن “المرأة كانت دائما في الصفوف الثانية في الجماعات المتطرفة، إذ تهتم بالمد اللوجستي ورصد المكان والتواصل، لكن إقدام امرأة على تفجير نفسها في شارع بورقيبة دليل على منعرج خطير”. وتساءلت “هل هذه رسالة خطيرة أن المرأة التونسية تحولت إلى الصفوف الأمامية كما هو الحال في سوريا والعراق؟”.

وأوضحت أن “المرأة سهلة الاستقطاب وحين تريد تنفيذ عملية فإنها ستنفذها، خاصة إذا توفرت الظروف الاجتماعية والمناخ السياسي والاقتصادي وهي مؤثرات للاستقطاب تسهّل دخول المرأة للعالم الإرهابي الإجرامي”.

ويتسق رأي قعلول مع رأي الإعلامية التونسية إنصاف خيرالدين. التي قالت لـ”العرب” إن “دور المرأة في التنظيمات الإرهابية انتقل من جهاد النكاح والتمريض والطبخ وغيرها من الأدوار الكلاسيكية التي اعتمدتها التنظيمات الوهابية إلى أدوار أكثر أهمية وهي تنفيذ العمليات الانتحارية والإرهابية وحمل السلاح”.

واعتبرت خيرالدين أن “هذه العملية رغم أنها فاشلة إلا أنها تعد فاجعة بالنسبة للمرأة التونسية الواعية والمثقفة والتي تقف مع الرجل جنبا إلى جنب، وصدمة للمرأة التونسية التي حركت المسار الديمقراطي في تونس من الداخل ووقفت وقفة حازمة أمام الفكر الظلامي الذي يعمل على ارتداد حقوق المرأة وتراجع أدوارها”. وأضافت “يجب على الدولة التي تراهن على المرأة في تونس أن تتخذ الحذر واليقظة لأجل حمايتها من الفكر الظلامي”. ورأت أن هذه العملية الإرهابية الغادرة التي نفذتها امرأة في العقد الثالث من عمرها بعد عمليات طويلة من التأثير لإخضاعها وإسقاطها في الفخ، “هي تأنيث للإرهاب ولضرب صورة المرأة التونسية المثقفة”.

وأردفت “الإرهاب يريد أن يضرب صورة المرأة التونسية لإيقاعها في الظلامية، لكن هي صفقة فاشلة للتغرير بالمرأة التونسية”.

ويذهب المحامي التونسي مختار الجماعي إلى ضرورة استقراء ظاهرة المشاركة النسائية في الظاهرة الإرهابية ويرى أنها لا يمكن أن تنفصل عن دراسة الظاهرة الإرهابية عامة في مجتمع كالمجتمع التونسي مسالم وذي المعتقد الاعتدالي، وداخل مجتمع ينعم بالديمقراطية والحرية.

وما يستدعي الدراسة حسب الجماعي أن المرأة التونسية بالقياس على المرأة العربية تميزت بمكاسب كثيرة ضمنتها لها دولة الاستقلال؛ بدءا من إقرار منع تعدد الزوجات وشكلية عقد الزواج وقضائية الطلاق، فضلا عن الكثير من المكاسب الأخرى التي يضيق المجال عن تعدادها، هذه المكاسب ساهمت في خروج المرأة عن أنماط النساء العربيات ودخلت سوق العمل واحتلت مواقع واسعة بالمدارس ومدارج الجامعات، وكل هذه المكاسب تستوجب البحث عن الأسباب العميقة لتورط التونسيات في الإرهاب.

ويقول الجماعي لـ”العرب” إن “استقراء دور المرأة التونسية يبرز ثلاث مراحل كبرى من السلبية إلى الإسناد إلى الفعل”.

وحسب الجماعي امتدت السلبية انطلاقا من غزو الظاهرة الإرهابية للمجتمع التونسي خلال العشرية الأولى من القرن الجاري إلى حدود بداية الثورة، حيث لم نجد خلالها أي دور للمرأة ولم نلحظ مساهمة لها في مختلف القضايا المنشورة لدى القضاء، وربما يرجع ذلك للقبضة الحديدية التي حكم بها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وأيضا لتقليدية وسائل الاتصال وضعف الدعوة.

أما مرحلة الإسناد فقد لعبت فيها المرأة دور الدعوة للانضمام للتنظيمات الإرهابية والمشاركة في المخيمات الدعوية والإشراف خاصة على صفحات التواصل، بالإضافة إلى مساكنة المجموعات الإرهابية بموجب زيجات شرعية أحيانا وعرفية أحيانا أخرى، وتمجيد الاعتداءات الإرهابية والامتناع عن التبليغ.

وبيّن الجماعي أن هذا الدور بقي هو الأساسي بالنسبة للمرأة وخاصة إلى حدود بدايات المواجهة المسلحة مع التيارات الإرهابية السلفية، وبدخول المواجهة هذه المرحلة تطور دور المرأة من الإسناد إلى المساهمة، لنقف على تكفل النساء مثلا بدور لوجستي في نقل قطع السلاح والصعود للجبال والمساهمة في المواجهات المسلحة (واقعة بجاوة وادي الليل) لتبلغ المشاركة مداها من خلال العملية الانتحارية المرتكبة بشارع الحبيب بورقيبة.

ويرى أن استقراء هذا التطور المرحلي للمساهمة النسائية في الظاهرة الإرهابية، يدعو إلى الاستغراب مما يظهر من تناقض بين المكتسبات الحداثية للمرأة التونسية وليدة النمط المنفتح للمجتمع التونسي وبين الانخراط في الظاهرة الإرهابية بأسسها الرجعية.

ويرجع الجماعي هذا التناقض إلى سببين اثنين؛ أولهما عامل راجع لطبيعة الحركات الإرهابية في العالم التي لا تستنكف من التوظيف السلبي للمرأة في ضمان الإمداد اللوجستي وإسناد نشاطها (مثلا تجهيز ساجدة شقيقة أبي مصعب الزرقاوي لتفجيرات الأردن). أما ثانيها فهو خاص وراجع لطبيعة المرأة التونسية التي عادت مكاسبها عليها سلبيا كارتفاع نسب العزوف عن الزواج، يضاف إلى ذلك تفشي البطالة وانسداد الأفق وخيبة الأمل في التغيير.

واعتبرت راضية الجربي رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية في تصريح لـ”العرب” أن “التهميش الاقتصادي للنساء وراء انضمامهن للتنظيمات المتطرفة خاصة في المناطق الفقيرة”.

ولفتت إلى أن “انشغال النخب السياسية بالأزمة الاقتصادية جعلهم يغفلون عن الهموم النسوية”. وأشارت إلى “أنه رغم التشريعات التي تنصف المرأة إلا أن النخب لا تولي اهتماما بقضاياها إلا لأغراض انتخابية”. ورأت أن “الطبقة السياسية لم تصغ بعد إلى مشاغل النساء، وحمايتهمن من الإرهاب تتطلب توعية ميدانية واقترابا إلى واقع المرأة المهمشة، وجهدا فكريا متواصلا”.

تهميش اقتصادي
الانتحارية التونسية جامعية عاطلة عن العمل كالكثير من الشباب التونسي، حيث يعاني ثلث الشبان من خريجي الجامعات في تونس من البطالة ويعتبر الحصول على فرصة عمل صعبا جدا خصوصا لشبان المناطق الأقل نموا والريفية وذلك بعد ثماني سنوات من الثورة.

ويعتقد الباحث الاجتماعي عبدالستار السحباني أن البطالة عامل من عوامل مشاركة النساء في الإرهاب وليس عاملا محددا فليس كل الإرهابيين فقراء وهو ما أثبتته الدراسات الخاصة بهذه الظاهرة التي تشير إلى وقوع شباب من طبقة ميسورة الحال في فخ التطرف.

واعتبر السحباني أن “الإرهاب شبكة لها تقنيات كبيرة جعلت منه صناعة لها سوق يبحث عن مستثمرين، والاستثمار لن يأتي إلا بغسل الأدمغة والاستقطاب”. ويرى أن “الفقر والبطالة هما عاملان لعبا دور القادح وخلفا استعدادات داخل الفتاة طورتها الجماعات الجهادية حتى تجعل منها إرهابية”.

ويبيّن أن “الأسباب الأعمق تعود إلى المنظومة التربوية التي درستها والى المحيط الذي نشأت فيه والى القنوات الدعوية التي شاهدتها وكيفية استعمالها للإنترنت”. وأضاف “الهشاشة الاجتماعية تولد هشاشة نفسية وتوفر ظروف الاستقطاب والتوجيه نحو الإرهاب”.

ويشرح الأخصائي النفسي محمد السندي لـ”العرب” دوافع إقدام نساء تونسيات على الجرم الإرهابي ويشير إلى أن الإرهابيين استقطبوا امرأة مهمشة ورغم أن المرأة التونسية على قدر من الوعي والثقافة، لكن كل النساء لسن مثقفات وبوسعهن الانتباه والصمود أمام مخططات الاستقطاب، لافتا إلى أن “الدراسات توصلت إلى أن الجماعات المتطرفة تستقطب النساء في العالم بأسره لا المرأة التونسية فقط”.

وأوضح أن الاستقطاب عادة ما يذهب ضحيته ضعفاء الشخصية. وأضاف “نقاط الضعف هذه حين تضيف إليها الفقر والشعور بالظلم وانسداد الأفق تقود جميعها إلى التطرف”.

وللعملية الإرهابية تأثير على عائلة الجاني والضحية. ويفسر السندي ذلك بقوله “عائلة الضحية تتلقى صدمة نتيجة ألم الفقدان وهو فقدان بطريقة بشعة ومفاجئة”. ويضيف “تشعر العائلة بهول الصدمة من العملية الإرهابية لأنها الأخطر إذ تعقد فيها نية الفعل وقصد الضرر والتدمير بالنسبة للعائلة ويكون مفعول الصدمة والنقمة كبيرا إضافة إلى مشاعر الغضب من السلطات التي لا تستطيع أن تحميهم”.

أما بالنسبة لأفراد عائلات العناصر الإرهابية فيشير السندي إلى أنهم عادة من المهمشين اقتصاديا واجتماعيا ولا علم لهم بتورط أبنائهم في التطرف، فيصابون بالصدمة والمفاجأة ثم يصيبهم الإحساس بالخزي والعار لأنهم يشعرون أنهم مستهدفون من المجتمع وتلاحقهم الاتهامات ومشاعر الكره والازدراء. كما يصابون بالاكتئاب والانطواء ويتمنون الموت لأن ابنهم أو(ابنتهم) تركهم في وضعية صعبة وخطيرة. وأردف بقوله “هؤلاء باتوا مرفوضين من المجتمع ويشعرون بالذنب بحق الضحايا كما يشعرون بالفشل في تربية أبنائهم”.

واعتبرت أم الانتحارية منى قبلة أن ابنتها البكر قامت من خلال التفجير في الشارع الرئيسي بالعاصمة “بتدمير كامل أسرتها وخصوصا شقيقتها وشقيقيها”. أما خالة الانتحارية فقالت بصوت متهدج لوسائل إعلام “إذا كانت قد عاشت لتحصل على هذه النهاية، فإني أفضل ألا تكون قد ولدت أبدا. لقد رحلت لكن الآن نحن فقط من سيدفع الثمن ومن سيستمر في العيش في الألم”.

العرب