البرلمان العراقي يكرّس الاحتقان الشعبي بإقراره المزيد من الامتيازات لنوابه

البرلمان العراقي يكرّس الاحتقان الشعبي بإقراره المزيد من الامتيازات لنوابه

الأسباب التي أدّت إلى اقتحام محتجين غاضبين لمقر البرلمان العراقي سنة 2016 ما تزال قائمة بل لعلّها تعمّقت بتوسّع الهوّة بين النواب المرفهين ماديا والمنشغلين بتحقيق المزيد من المكاسب الشخصية والحزبية، والشعب المثقل بأعباء الحياة اليومية، والذي لم يشارك سوى جزء ضئيل منه في انتخاب هؤلاء النواب.

بغداد – لم يتأخر البرلمان العراقي الناتج عن انتخابات مايو الماضي في إثارة حفيظة الرأي العام وتكريس نظرته إلى الطبقة السياسية باعتبارها مجموعة من المتكسبين الساعين لتحقيق غايات سياسية ومنافع مادية، وذلك بإعلان رئاسة مجلس النواب تخصيص منحة شهرية بنحو 2500 دولار لكل نائب لتغطية مصاريف سكنه في العاصمة بغداد.

وفجّر هذا الإعلان موجة من الغضب الشعبي، فيما كتب مدونون أن “البرلمان يتجاهل تظاهرات البصرة التي تطالب بالماء الصالح للشرب ويهتم بترفيه أعضائه فحسب”.

ويقول منتقدو القرار إنّ مجلس النواب المفترض أن يمارس دوره في الرقابة التي يحتاجها بلد غرقت دولته في بحر من الفساد منذ سنوات، كان هو ذاته في حاجة إلى من يراقبه. فمن خلاله كانت تعقد صفقات تحوم حولها شبهات الفساد، كما أن هناك نوابا أثروا بطريقة غير معقولة وقفزوا إلى مصاف أصحاب الأموال الكبار خلال أربع سنوات فقط.

ويشير هؤلاء المنتقدون إلى أن مجلس النواب عبر دوراته الماضية كان مثار احتجاج شعبي دائم بسبب القوانين التي كان يسنها لتكريس امتيازات أعضائه الكبيرة جدّا قياسا بأوضاع البلد ومستوى عيش مواطنيه.

ويضم البرلمان العراقي 329 نائبا، يمثلون 18 محافظة. وتقول رئاسته إن النواب الذين يأتون إلى الجلسات وأعمال اللجان من خارج العاصمة العراقية، يواجهون مشاكل في السكن بسبب ارتفاع أسعار الإيجار في بغداد وقلة المنازل المتاحة في المنطقة الخضراء المحصنة.

ومن اللافت أن مجلس النواب بالرغم من الامتيازات الكبيرة التي يتمتع بها أعضاؤه لم يمارس دوره التشريعي وذلك من خلال سن القوانين التي تساهم في تصريف شؤون البلد. فالمجلس بسبب تبعيته إلى الأحزاب الحاكمة أصبح جزءا من الحكومة القائمة على أساس حزبي وهو ما يعني توزع أعضائه في ولاءاتهم بين الأحزاب واستعدادهم الدائم لتعطيل عمل المجلس تبعا لمواقف أحزابهم المبنية على أساس المصالح الخاصة وهو ما كان يتجلى من خلال عبارة “عدم اكتمال النصاب”.

ويقول محمد سلمان، وهو متحدث باسم رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي، إن الوزراء في الحكومات العراقية منذ 2003، استولوا على جميع الدور الصالحة للسكن في المنطقة الخضراء بشكل تعسفي، بالرغم من أن تخصيصها لهم مرتبط ببقائهم في مواقعهم.

وكان الجيش الأميركي عزل العام 2003 المنطقة الخضراء التي تحتل جزءا كبيرا من قلب منطقة الكرخ، وحوّلها إلى ما يشبه ثكنة عسكرية كبيرة تخضع لإجراءات مشددة، لتكون مقرا لسفارات واشنطن ولندن وغيرها، فضلا عن مقر رئاسة الوزراء ووزارة الدفاع وجهاز المخابرات ومبنى البرلمان، بالإضافة إلى فندق الرشيد.

وشيئا فشيئا، استولى كبار المسؤولين على القصور والدور الموجودة داخل المنطقة الخضراء، واتخذوها سكنا أو مكاتب لهم، فيما استخدم آخرون نفوذهم لإخراج مالكين مدنيين من عقاراتهم ليشغلوها هم أو حرسهم.

وعمليا، كانت جميع المباني والمنشآت داخل المنطقة الخضراء، مملوكة لدائرة عقارات الدولة التابعة لوزارة المالية التي تحتكر حق التصرف فيها. لكن رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي شكل خلال ولايته الثانية لجنة خاصة برئاسة نجله أحمد تتولى الإشراف على بيع وإيجار عقارات المنطقة الخضراء. ومع نهاية ولاية المالكي الثانية العام 2014 جرى الاستيلاء على جميع العقارات الشاغرة في المنطقة من قبل مقربين للمالكي ونجله.

مجلس النواب المنتظر منه ممارسة الرقابة للحد من الفساد المنتشر في مفاصل الدولة، أصبح هو بحد ذاته بحاجة لمن يراقبه

وواجه البرلمان السابق، مشكلة في سكن أعضائه القادمين من المحافظات بعدما وجد أن المنازل والشقق التي كان يمكن أن يشغلوها في المنطقة الخضراء وزعت إلى أشخاص غير معروفين. وفي حينها، أصدر رئيس البرلمان السابق سليم الجبوري قرارا بتوزيع بدل إيجار لنواب المحافظات مر من دون ضجة.

ويفسر مراقبون، سبب الضجة التي رافقت تجديد العمل بقرار بدلات الإيجار للنواب، من قبل رئيس البرلمان الحالي محمد الحلبوسي، بأن “الإجراء اتخذ في وقت مبكر جدا من عمر البرلمان فضلا عن أن رد الحلبوسي على منتقديه تضمن شيئا من التحدي”.

وظهر الحلبوسي، مدافعا عن قراره بالقول إن “من حق النواب القادمين من المحافظات أن يحصلوا على بدلات سكن”. وأضاف “عندما يأتيني نائب من البصرة فأين أسكنه”.

ويتقاضى النائب العراقي نحو خمسة آلاف دولار شهريا في أقل التقديرات، فضلا عن تخصيص 16 عنصر حماية له، مع منحه وأفراد عائلته جوازات دبلوماسية.

ولا يوجد أي نص في أي قانون عراقي يلزم موازنة البلاد العامة بتحمل أي تكاليف تخص النائب في البرلمان. وحتى الرواتب التي يتقاضاها لم تشرّع بقانون، إنما تستند إلى تفاهمات بين الزعماء السياسيين وهو ما يصعّب مهمة الرقابة عليها أو تحديدها بدقة.

ويقول محمد سلمان، المتحدث باسم رئيس البرلمان، إن المبلغ المخصص لبدل سكن النائب “زهيد إذا ما قورن بحجم الموازنة العراقية”. لكن نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي سخروا من هذه التصريحات. وكتب أحدهم أن الـ”2500 دولار التي يسخر منها سلمان تكفي لمعيشة خمس عوائل عراقية فقيرة في الشهر”.

ويقول مراقبون إن “الضجة الشعبية بشأن قرار صرف بدلات الإيجار للنواب مؤشر على غضب الشارع المتزايد إزاء الطبقة السياسية، التي تصر على المضي في نهج التعامل مع الدولة بوصفها غنيمة يجري توزيعها بين مجموعة من الساسة”.

ويحذر المراقبون من أن “إمعان البرلمان في تجاهل غضب الشارع، ربما يفجر احتجاجات يائسة، قد تأتي على العملية السياسية برمتها”، بعد أن صار العراقيون على يقين من أن لا أحد في مجلس النواب يمثلهم وهو ما عبروا عنه من خلال عزوفهم عن المشاركة في الانتخابات الأخيرة التي كانوا يدركون أنها لن تنتج إلا برلمانا قائما على أساس نظام التسويات الذي هو عنوان الفساد وجوهره.

ويذهب أكثر المنتقدين لمجلس النواب العراقي حدّ اعتباره “كيانا فائضا في الحياة السياسية العراقية” التي تدار وفق تفاهمات تجري خارج إطار المؤسسات الدستورية وهو ما يُطلق عليه نظام التسويات الحزبية الذي أقامه رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وصار عُرفا لم تكن العودة إلى الدستور كفيلة بإيقاف العمل به.

العرب