على الولايات المتحدة أن لا تتدخل في الحرب الأهلية الليبية

على الولايات المتحدة أن لا تتدخل في الحرب الأهلية الليبية

يرافق إحساس لا يخفى بالإحباط والكآبة معظم التقارير الإخبارية والأدبيات التي تتحدث عن الأوضاع في ليبيا بعد العام 2011. وكان الهدف من الربيع العربي أن يؤذن بقدوم فترة من التغيير غير المسبوق بعد عقود من القيادة المعروفة بلا ديمقراطيتها في كامل أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع ذلك، وبعد سبع سنوات لاحقاً، كان هناك القليل جداً من التطورات الإيجابية فيما يتعلق بالشفافية، والمساءلة، والشمولية في الوطن العربي. ومع ذلك، لم يكن أي من بلدان الربيع العربي أسوأ حالاً من ليبيا، التي كانت ثورتها -فيما ينطوي على مفارقة كبيرة- حرباً مدعومة من حلف شمال الأطلسي أكثر من كونها ثورة نابعة من الداخل، والتي شهدت معارك مطولة مزقت الدولة الشمال أفريقية الغنية بالنفط إرباً.
بدأت الفوضى الليبية في أوائل العام 2011، بعد أن جاءت في أعقاب الثورات في كل من تونس ومصر. ومع ذلك، كانت الثورة العنيفة في ليبيا، وما تزال، مختلفة. فقد بدأت بالعنف، كحرب أهلية بين أولئك الذين كانوا مؤيدين لمعمر القذافي وأولئك الذين عارضوه. وكان لإنكار هذه الحقيقة عاقبتان.
أولاً، أصبح المجتمع الدولي راغباً في القبول بفكرة التدخل في الحرب تحت ذرائع ثبت منذ ذلك الحين أنها كانت خاطئة. أولاً، قامت فرنسا وقطر بإقناع الولايات المتحدة والآخرين بالتدخل في ليبيا، بادعاء وجود حاجة ماسة إلى إقامة منطقة حظر للطيران لحماية المدنيين من قصف قوات القذافي الجوية -وهو خطر تبين لاحقاً أنه كان قائماً بشكل شبه كامل على مبالغات وفبركات صريحة. وفي الحقيقة، نفاه علانية في ذلك الوقت بعد سقوط القذافي رئيس المجلس الانتقالي الليبي، الذي تم الاعتراف به دولياً باعتباره الحكومة الشرعية.
ثانياً، أدى إنكار حقيقة أن ما جرى في ليبيا كان حرباً أهلية في واقع الأمر، التي أطلقت نوازع الانتقام بدلاً من الانتقال الساسي، إلى تأخير تحقيق المصالحة الوطنية الجدية ونزع السلاح، وتسريح وإعادة دمج تلك الميليشيات التي حملت السلاح وتلقت الدعم من حملة القصف الكثيفة التي نفذها حلف شمال الأطلسي. وقد تسبب الفشل في اتخاذ هذه الخطوات في تصاعد المعارك المطولة بين المئات من الجماعات المسلحة، والتي ما تزال، فيما ينطوي على مفارقة، تتلقى التمويل من خزائن نفس حكومة ما بعد القذافي في ليبيا، والتي مزقت بشكل أساسي الدولة الشمال أفريقية الغنية بالنفط.
بعد نحو ثماني سنوات من التصريحات الصحفية، والإعلانات والمؤتمرات، فشلت جهود الأمم المتحدة في إنهاء الحرب الأهلية، وبعد اتفاق لم يثمر في باريس في أيار (مايو)، عقدت الحكومة الإيطالية يومي 12 و13 تشرين الثاني (نوفمبر) اجتماع قمة آخر حول ليبيا في باليرمو، صقلية. وتم توجيه الدعوة إلى الحكومات الرئيسية كافة -في أوروبا، والعالم العربي وأفريقيا، والولايات المتحدة وروسيا- وكذلك ممثلين عن الفصائل المختلفة التي تتقاتل على السلطة وأموال النفط في ليبيا نفسها. ومع ذلك، كانت العديد من المجموعات المهمشة، بما فيها مؤيدو الزعيم الراحل معمر القذافي، غائبة عن الاجتماع، بحيث ستبقى تمارس دور المفسد في الظلال، في تعارض مع التعليق الشهير للرئيس الأميركي الأسبق، ليندون جونسون، حول الحاجة إلى اشتمال كافة الأطراف في الخيمة السياسية. ونتيجة لذلك، سيكون اجتماع إيطاليا، مثل العديد من الاجتماعات التي سبقته، مجرد خطة أخرى لتقاسم السلطة بين مجموعات معينة. ولا يُقصد منه حقاً التوصل إلى تسوية سياسية حقيقية وطويلة الأجل، والتي يمكن أن تشفي جراح البلد التي ما تزال مفتوحة، أو أن تحقق المصالحة الوطنية المطلوبة.
في الفترة التي سبقت المؤتمر، دعا بعض الخبراء الأوروبيين والفصائل الليبية إلى تدخل أكبر للولايات المتحدة لفرض حل للأزمة الليبية. وتطرح هذه الأصوات بشكل عام حجتين. الأولى هي أن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يستطيع أن يساعد في حل مشكلة الفوضى الليبية عن طريق إجبار البلدان الأوروبية والعربية  على وقف تدخلها هناك ودعم خطة الأمم المتحدة لليبيا. والثانية تدور حول الأسباب التي تجعل تدخل الولايات المتحدة ضرورياً. وهذه الأسباب بشكل رئيسي هي: النفط، والاستقرار الإقليمي، والالتزام الأخلاقي للولايات المتحدة، بالنظر إلى قرار إدارة أوباما-كلينتون سيئ التدبير بالتدخل في الأحداث التي أدت إلى انهيار نظام القذافي في العام 2011. ولم تقم الولايات المتحدة بوضع أي استراتيجية طويلة الأجل في ذلك الحين، وهو ما نجم عنه الفوضى التي نراها اليوم؛ وصعود التطرف في ليبيا وشمال أفريقيا بشكل عام.
تنطوي هاتان الأطروحتان على عيوب واضحة، وهما مصممتان لجر الولايات المتحدة إلى صراع آخر في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وعلى نحو يشبه كثيراً الصراعات الكبيرة في العراق والصومال وأفغانستان، سيكون من الصعب للغاية على الولايات المتحدة أن تستخلص نفسها من الحرب الأهلية الليبية. ومن المرجح أن يؤدي التدخل الأميركي أيضاً إلى اجتذاب المتطرفين من كامل أنحاء أفريقيا والعالم العربي لخوض حرب مقدسة ضد الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، لا يشكل افتراض أن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد الذي يستطيع أن يجلب الأطراف كافة إلى اتفاق حجة منطقية، إلا إذا أردنا تطبيق مثل هذا التفكير المعيب على كل أزمة في العالم. كما لا يأخذ هذا المنطق بعين الاعتبار أيضاً حقيقة أن أن الولايات المتحدة عندما أرسلت في الماضي قواتها إلى أماكن الصراع، فإنها أنفقت رأسمال سياسيا كبيرا والتزمت بصرف مليارات الدولارات في أماكن مثل أفغانستان، والعراق، والصومال، وما تزال تفشل في تحقيق الكثير باستثناء زيادة منسوب التطرف في المنطقة.
كما أن الحجة القائلة بأن ليبيا تشكل مصدر قلق جيوسياسي رئيسي للولايات المتحدة بسبب موقعها وبسبب النفط -وكطريق يسلكه مئات الآلاف من اللاجئين غير الموثّقين لعبور البحر المتوسط إلى أوروبا- تفتقر إلى الدليل. ولا شك في أن موقع ليبيا ليس فريداً؛ حيث تتشارك كل دول شمال أفريقيا هذه الجغرافيا. ويشكل النفط الليبي، الذي ما يزال يكافح للعودة إلى مستويات ما قبل العام 2011، مجرد جزء صغير فقط من الإمدادات العالمية، ولا تستورد الولايات المتحدة سوى جزء ضئيل منه على أي حال. وبذلك، تشكل هذا القضايا أهمية لأوروبا بشكل رئيسي. وهي لذلك مشكلة تحتاج حلاً أوروبياً وأفريقيا، وليس حلاً أميركياً.
وأخيراً، فإن أهمية ليبيا الوحيدة الحقيقية والمباشرة بالنسبة للولايات المتحدة ثانوية: أن ليبيا واحد من العديد من الأماكن في العالم التي فيها جيوب للإسلاميين المتطرفين. ولذلك، يجب أن تكون متضمنة في الحرب العالمية على الإرهاب، وإنما ليس كنقطة ساخنة رئيسية؛ وفقط بطرق محدودة ومستهدفة.
إن غياب أي حجج حقيقية لصالح تدخل الولايات المتحدة هو حجة في حد ذاته لصالح بقائها خارج حرب ليبيا الأهلية التي محصلتها صفر. وبدل أن تكون متورطة في صراع آخر، يمكن لواشنطن أن تركز جهودها على دعم العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة. وتشكل الأمم المتحدة المكان المنطقي لقيادة جهد دولي يرمي إلى جلب السلام في ليبيا، والذي يمكن أن يأخذ بعين الاعتبار الواقع الليبي، ومصالح جيران ليبيا، بالإضافة إلى مصالح المجتمع الدولي.
كما طرحت الأمم المتحدة أيضاً خطة قابلة للتطبيق لعقد مؤتمر وطني في أوائل العام 2019 الذي يشمل الأطراف الليبية كافة، بما فيها القوى والقبائل التي ما تزال موالية للنظام السابق. ويمكن أن ينتج هذا المؤتمر، كما هو مؤمل، نوعاً من الإجماع الذي يمكن أن يخدم كأساس لوضع إطار دستوري، تعقبه انتخابات وطنية، على إمل إنتاج مؤسسات سياسية يمكن أن تعكس بشكل حقيقي الحد الأدنى من الشرعية. كما سيمكِّن الوقوف خلف جهود الأمم المتحدة واشنطن أيضاً من إقامة التوازن المناسب بين الإبقاء على موطئ قدم لها في ليبيا وبين الحفاظ على مسافة كافية وتدخل في الحد الأدنى في حرب أهلية أخرى، والتي تضم الكثير من الشخصيات الماكرة التي لا يمكن الوثوق بها.

الغد