غضب 68 أسقط ديغول.. فهل تطيح “السترات الصفراء” بماكرون؟

غضب 68 أسقط ديغول.. فهل تطيح “السترات الصفراء” بماكرون؟

 

في مايو/أيار 1968، كانت فرنسا تعيش أزمة اقتصادية خانقة؛ أكثر من خمسمئة ألف عاطل عن العمل، ونحو مليوني عامل يحصلون فقط على الحد الأدنى للأجور، إلى جانب ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية وإيجارات المنازل.

وقتها كان يدير البلاد بطل الاستقلال الجنرال شارل ديغول، الذي وجد نفسه في مواجهة حرب اقتصادية كانت أقسى عليه من الحرب العالمية الثانية، وإن وجد في بريطانيا والولايات المتحدة، وفي كثير من الفرنسيين، حضنا دعم حكومته في المنفى لمواجهة النازيين، فإنه وبعد أكثر من عقدين من الانتصار في الحرب الدموية، وجد نفسه وحيدا في مواجهة الشوارع الغاضبة من تدهور الاقتصاد وانتشار البطالة.

بداية انهيار المجد السياسي لديغول كانت في 13 مايو/أيار 1968، عندما أُعلن الإضراب العام الشامل، الذي وصف بأنه أهم إضراب في تاريخ فرنسا، كونه جعل البلاد تعيش حالة شلل تام لأسابيع، في حين انتشرت المظاهرات في الشوارع، وعمت الفوضى البلاد، وسقط جرحى وقتلى في مواجهات مع الشرطة.

وعلى الرغم من أن الحكومة نجحت أواخر الشهر في توقيع اتفاق مع النقابات يرفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 35%، إلى جانب امتيازات أخرى لصالح العمال، فإن الغضب استمر، مما دفع ديغول لحل الجمعية الوطنية (البرلمان).

وفي الثلاثين من يونيو/حزيران 1968، جرت انتخابات برلمانية حقق فيها اليمين فوزا مهما، بأغلبية 293 من أصل 487 مقعدا.

ومع حلول أبريل/نيسان 1969، وفي محاولة منه للخروج من الأزمة السياسية الخانقة، دعا ديغول الشعب الفرنسي للمشاركة في استفتاء حول إصلاحات تهم مجلس الشيوخ ومشروع اللامركزية الإدارية، وتعهد بالاستقالة إن جاءتالأغلبية ضده.

كثيرون اعتقدوا أن تعهد بطل الحرب بالاستقالة مجرد وسيلة لاستمالة أصوات الناخبين، خاصة الغاضبين منهم، لكن ديغول استقال فعلا بعدما صوت 52.41% ضد الإصلاحات التي تقدم بها، وتم ذلك في الليلة نفسها التي جرى فيها الاستفتاء، منهيا بذلك العهد الديغولي وإلى الأبد.

السترات الصفراء
إيمانويل ماكرون، الذي اتهمه خصومه خلال الحملة الانتخابية، التي أتت به للرئاسة عام 2017، بالافتقاد لأي تجربة سياسية تمكنه من قيادة الدولة الفرنسية، وأنه “نجم صعد فجأة” بعدما قاد حركة “إلى الأمام” ونجح في الوصولللإليزيه، وبالتالي لا يمكن مقارنته بأي حال من الأحوال بديغول؛ تفجرت في وجهه في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري حركة “السترات الصفراء” التي ذكّرت الفرنسيين بأحداث 1968.

وحملت هذه الحركة الاحتجاجية الشعبية المثيرة لقب “السترات الصفراء”، في إشارة إلى السترة الصفراء المضيئة التي يتعين على كل سائق الاحتفاظ بها في سيارته، بهدف جعله في موضع رؤية أفضل إذا وقع حادث سير. وكأنها إشارة من الغاضبين إلى ماكرون “بأننا هنا ولا يجب تجاهلنا ولو في ظلمات الليل البهيم”.

وكانت القطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة للفرنسيين الغاضبين، إقدام حكومة ماكرون على زيادة سعر الوقود، وفرض رسوم عليها في شكل ضريبة بيئية، و”أيضا ضد السياسة الظالمة للحكومة التي تمس القدرة الشرائية”.

انهيار
المثير أن هذه الحركة الاحتجاجية جاءت بعد نحو سنة واحدة فقط من حكم ماكرون، ولم تكن سنة سهلة البتة، حيث فشل خلالها في إنجاح برنامج “تغيير” الذي طرحه، كما فشل في تحسين القدرة الشرائية للفرنسيين، مما جعل شعبيته تتراجع إلى دون 30%، وهو أدنى مستوى لها منذ انتخابه رئيسا.

وبحسب معهد الاستطلاع إيلابي، عبّر 73% من الفرنسيين عن دعمهم للحركة الاحتجاجية التي غطت شوارع فرنسا باللون الأصفر، بل إن فنسنت تيبو مسؤول الدراسات في المعهد قال إن “54% من ناخبي ماكرون يدعمون أو يتعاطفون مع هذه الحركة، وهذا أمر ليس بالهيّن”.

كما أن استطلاعا آخر للرأي أنجزته مؤخرا مجموعة أبحاث “إيفوب”، نُشر بصحيفة “لوجورنال دو ديمانش”؛ أكد أن شعبية ماكرون انخفضت إلى 25% فقط، حيث قال 4% فقط من المستجوبين إنهم “راضون جدا” عن أداء ماكرون، بينما ذكر 34% أنهم “في الغالب غير راضين”، في حين أعلن 39% أنهم “غير راضين أبدا”.

وبرغم إعلان الحكومة زيادة المساعدات المخصصة للأكثر فقراً، حتى يتمكنوا من تغيير سياراتهم أو دفع فواتير المحروقات، فإن عشرات آلاف الغاضبين ما زالوا يخرجون إلى شوارع الجمهورية، لدرجة دفعت ماكرون للتصريح بشكل غير مسبوق بأنه لم “ينجح في مصالحة الشعب الفرنسي مع قادته”، وهو أحد شعارات حملته الانتخابية.

ماذا بعد التصعيد؟
التصعيد الشعبي الذي تطور إلى إغلاق عدة محطات وقود، وشهد انضمام فئات جديدة لصفوف الغاضبين، قابله تصعيد حكومي واضح، إذ جدد رئيس الوزراء الفرنسي إدوار فيليب في مداخلة على القناة الثانية الفرنسية مساء الأحد الماضي تمسك حكومته بزيادة الضرائب على المحروقات.

بل إن الصحف التي توصف بأنها موالية للحكومة لم تدخر جهدا في مهاجمة المحتجين، ووصل بهم الأمر للتحذير من أن استمرارهم في الاحتجاج يساعد “شبح التطرف” على البروز، في مسعى لتخويف الغاضبين.

مواقف تزامنت مع ارتفاع عدد جرحى الاحتجاجات، الذي وصل -إلى حدود مساء الثلاثاء- إلى أكثر من 511، في حين لقيت سيدة واحدة حتفها عرضا في حادث سير خلال أحد الاحتجاجات.

تأزم الشارع الفرنسي، وفشل الحكومة في إيجاد حلول، وعجز مؤسسات الوساطة -من نقابات وأحزاب وهيئات مجتمع أهلي- عن لعب دورها في الوساطة بين الشارع والحكومة؛ دفع عددا من خبراء فرنسا إلى التدخل والتحذير من خطورة الوضع القائم، حيث إن الاحتجاجات -وإن كانت دوافعها اقتصادية- فإن الإحساس العام بغياب العدل يغذي غضب المحتجين، فضلا عن أنه لا سلطة لأي تنظيم حزبي أو نقابي عليهم، مما يعقد مسألة مناقشة حلول للخروج من الأزمة.

وعلى الرغم من أن المقارنة بين ديغول -قائد حكومة المنفى ضد النازيين وبطل الاستقلال- وماكرون -“الرجل الذي صعد فجأة”- غير قائمة، فإن تأزم الأوضاع وحنق الشارع الغاضب يكاد يجمع بينهما. لكن إن كان غضب 1968 أطاح ببطل الاستقلال، فهل ستنجح “السترات الصفراء” في تكرار السيناريو نفسه مع ماكرون؟