ما الذي يقوله لنا العام 1979 عن إيران اليوم؟

ما الذي يقوله لنا العام 1979 عن إيران اليوم؟

ليس سراً أن اقتصاد إيران واجه ضغوطا شديدة هذا العام، مع هبوط عملة البلاد وارتفاع الأسعار على المستهلكين. وكان التضخم واحدا من أكبر الهموم، حيث ارتفع محلقا مرة أخرى في تشرين الأول (أكتوبر) ليبلغ معدله 35 في المائة. وكان التضخم قد بلغ هذا المستوى، وحتى أعلى منه من قبل. ومع ذلك، عند 35 في المائة يبدأ نمو الدخل بالتخلف، وتصبح أسعار السلع الأساسية بعيدة عن متناول الفقراء، ويوضع ضغط هائل على الطبقة الوسطى. وقد لا يكون الجوع مصدر قلق لهذه المجموعة الأخيرة، لكن الوصول إلى السلع والخدمات الأساسية اللازمة للحفاظ على أسلوب حياتها يصبح كفاحاً مريراً. ولم تكن الأرقام التي كشف عنها شهر تشرين الأول (أكتوبر) تعبيراً عن انتقالة مفاجئة. كان التضخم في إيران مشكلة متنامية، والتي أفضت إلى تقزيم قطاعات حاسمة من المجتمع لفترة طويلة. ولا شك في أن العقوبات الأميركية المفروضة على البلد تشكل جزءا من المشكلة، لكن الديناميات الإيرانية الداخلية كانت هي المساهم الرئيسي.
السؤال الرئيسي هنا هو: ماهي التداعيات السياسية –إذا كان ثمة تداعيات- لكل هذا؟ ربما تعرض لنا انتفاضة العام 1979 ضد شاه إيران مقارنة مفيدة. وقد فوجئ الكثيرون منا (بمن فيهم أنا) عندما فقد الشاه السيطرة –حتى على الرغم من أن العديد من الإيرانيين كانوا مستائين منه منذ الانقلاب الذي أطاح بمحمد مصدق وأتى به إلى السلطة. ولفترة طويلة، سيطرت الطبقة السياسية على النظام، بما في ذلك الاقتصاد، وكانت الطبقات الوسطى والدنيا مستبعدة ومستعدة للقبول باستبعادها. وقد قبلت بتركيز الثروة في أيدي النخبة، وكذلك بالفساد الذي صاحب ذلك، على أمل أن تكون حياتها مستقرة إلى حد معقول، بل وربما تتحسن أيضاً من خلال الحفاظ على الوضع الراهن. ولفترة من الوقت، أثبتت توقعات أعضاء هاتين الطبقتين أنها دقيقة، وأضاف النظام إلى هذا المزيج إيديولوجية وطنية، وقارن ثروة إيران وقوتها المتنامية بتلك التي شهدتها أيام الإمبراطورية الفارسية. وكان الشاه جالسا على عرش الطاووس الذي جلس عليه الأباطرة الفارسيون، وكان الرخاء المعتدل والشعور بالحق التاريخي يشكلان مزيجا  جالبا للاستقرار في بعض الأحيان.
على مدى سبعينيات القرن الماضي، تدهور الوضع، وليس بسبب ضعف البنية الهيكلية للاقتصاد بقدر ما هو بسبب الشعور بأن النخبة كانت تُراكم الثروة لصالحها، تاركة المجتمع الأوسع في العراء. وقامت بتغذية هذا الشعور جماعات المعارضة التي جادلت بأن استحضار الشاه لروح الإمبراطورية القديمة كان ينتهك ويتجاوز الواقع الأكثر مباشرة وقربا لإيران كدولة إسلامية. وتنامى شعور بعدم الشرعية حول النظام بسبب القيم التي يعتنقها، وفساده وقمعه الوحشي للسكان. ولم تكن الحياة قد أصبحت لا تحتمل بالنسبة لأصحاب الأعمال الصغيرة بعد، لكن الشعور بأنها يمكن أن تصبح كذلك زاد من منسوب الاستياء من النظام.
كان افتراض الشاه، وأولئك من الذين كانوا يراقبون الوضع في إيران، هو أن الأجهزة الأمنية والجيش وأجهزة المخابرات تتمتع بسلطة حاسمة في البلد. وكان هذا صحيحاً، إلى أن لم يعد كذلك. في العام 1979، ظل الشاه يسيطر على قواته الأمنية حتى النهاية تقريباً. وكانت تعاسة الجمهور واستياؤه ينموان تحت السطح، إلى أن اندلعت المظاهرات التي شاركت فيها مجموعات مهمشة من رجال الدين والطلاب. وعندما انضم تجار أفراد إلى الاحتجاجات، وجدت قوات الأمن نفسها في مواجهة شريحة ضخمة من المجتمع. وفتحت هذه القوات النار على المتظاهرين، لكن إطلاق النار أثار المزيد من الغضب بدلا من إجبار الناس على العودة إلى منازلهم. ولم يتمكن الجيش، الذي كان يضم عددا كبيراً من المجندين، من كبح المتظاهرين في نهاية المطاف. وأخيراً، انضم قسم كبير من الجنود إلى الانتفاضة. واندلع القتال بين هذا الفصيل من الجنود المنشقين وبين جهاز المخابرات الإيرانية “السافاك” وآخرين، وأصبح المتظاهرون ستارة المسرح الخلفية لنهاية النظام. وأفضت الضغوط الاقتصادية، مقرونة بأيديولوجية إسلامية جديدة متطرفة، إلى تحطيم الشاه.
في العادة، لا يكرر التاريخ نفسه بالضبط، لكن أحداث العام 1979 تشكل أحد النماذج لكيفية تهديد المعارضة للنظام في إيران. ولم يكن المؤشر الرئيسي على صلاحية النظام وبقائه هو ولاء قوات الأمن، وإنما الشعور بإلحاج الحاجة إلى التغيير بين قطاعات واسعة من الجمهور واستعدادهم لقبول الخسائر والإصابات على أيدي عملاء جهاز “السافاك” والمؤسسات الأخرى. وقد ظلت أحداث العام 1979 حية في ذاكرة جميع الإيرانيين، حتى أولئك الذين لم يعيشوها ويختبروها بأنفسهم. ومن عجيب المفارقات هنا أن الذي حافظ على بقاء هذه الذكريات حية كان النظام نفسه، حيث استخدمها كرمز للكرامة الوطنية بنفس الطريقة التي يستخدم بها الأميركيون الثورة الأميركية.
وهكذا، سوف ينظر الإيرانيون المتوسطون إلى العام 1979 على أنه المعيار للعمل. وفي ذلك الوقت، أدى الوضع المؤلم بازدياد إلى تآكل شرعية الشاه بشكل تدريجي، وهو الذي كان يصبح أقل  اكتراثا بمصير الجمهور وأكثر دعما للطبقة التي آثرت نفسها على حساب البلاد. وفي ذلك الحين، أصبحت الحياة غير محتملة، ولم تعد أيديولوجية الشاه وسطوة قواته الأمنية قادرة على الحفاظ على النظام أكثر من ذلك. ولم يكن رجال الدين الأيديولوجيون والطلاب غير المتميزين وقوات الأمن هم الذين حددوا ما حدث في العام 1979؛ وإنما كانت الطبقة الوسطى والتجار هم الذين فعلوا ذلك. فعندما لم يعد بإمكانهم تحمل النظام، وخرجوا إلى الشوارع لتحديه، انهار الجيش، والقوات الأمنية المتبقية إما تفككت أو انضمت إلى المقاومة.
اليوم، تعاني إيران من تضخم يبلغ معدله 35 %، ومن جيوب للاضطرابات، وشعور متزايد بين الإيرانيين بأن النظام يخدم نفسه فحسب. وقد فقدت إيديولوجية العام 1979 طهارتها وفشلت في تحقيق حياة تمكن إدارتها. ويبدو لي أن النظام أصبح يعتمد بشكل متزايد على قوات الأمن، التي تتمثل مهمتها في تهدئة وتحييد الرأي العام من خلال التهديد باستخدام القوة، بدلاً من التركيز على القادة السياسيين الذين يفترض أن تكون مهمتهم تلبية احتياجات الشعب.
مع كل هذه الضغوط الداخلية، ليس من الواضح أن النظام قادر على حل المشاكل الاقتصادية المتطرفة التي يواجهها. ولدى قراءتي للأخبار القادمة من إيران، أحاول أن أبحث عن علامات انتفاضة ممكنة بين رجال الأعمال، وعن أي دلائل تشير إلى أن التدهور الاقتصادي له تأثير على المزاج العام. ومن المحتمل ألا يؤدي خلل اقتصادي من هذا النوع، مقترن بتشاؤم متزايد إزاء النظام وأيديولوجيته، إلى أي عواقب سياسية كبيرة، لكن ذلك ليس مرجحاً.
في العام 1979، غاب ما كان يحدث تحت السطح عن بال معظم الناس إلى أن بدأ إطلاق النار، وقد اعتقدوا، حتى بعد ذلك، أن الانتفاضة ستخمد. لكن ذلك لم يحدث. فقد تغلب المجتمع على النظام، وما تزال هذه الحقيقة تدور في أذهان جميع الإيرانيين. وكانت أساس شرعية النظام الحالي. والآن، تتصاعد المشاكل الاقتصادية، وكذلك مشاعر التشاؤم. وتقف قوات الأمن مستعدة للتصرف. لكن هذا هو الذي أدى سابقا إلى سقوط الشاه. وقد لا يعيد التاريخ نفسه بالضبط، لكنه له طريقته في عرض طريق ممكن للمضي قدما.