إضعاف الزعامات التقليدية وصفة حزب الله لتعزيز قبضته على لبنان

إضعاف الزعامات التقليدية وصفة حزب الله لتعزيز قبضته على لبنان

توحي العديد من المؤشّرات بوجود أجندة لدى حزب الله لتشكيل جبهة درزية معارضة للزعيم وليد جنبلاط، ظهرت ملامحها منذ انطلاق المشاورات لتشكيل حكومة الوحدة الوطنية المتعثرة إلى اليوم، لتأخذ هذه الملامح بعدا أكثر وضوحا في الأيام الماضية، خاصة مع “حادثة الجاهلية” في جبل لبنان وما أعقبها من تقارب لافت بين رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب ورئيس الحزب الديمقراطي طلال أرسلان، بعد فترة خصومة.

وتقول أوساط سياسية لبنانية إن حزب الله في الوقت الذي يشدّ فيه عضد طائفته إليه مستفيدا من تحالفه الاستراتيجي مع حركة أمل، يسعى إلى اختراق باقي الطوائف الأخرى وشق صفوفها بضرب زعاماتها التقليدية وتحجيم نفوذها لتكريس هيمنته على المشهد السياسي اللبناني.

ويركز حزب الله عمله، منذ فترة، على مسارين متوازيين يلتقيان في ذات الهدف، وهما ضرب أحادية تمثيل رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، للطائفة الدرزية، وتمثيل رئيس تيار المستقبل سعد الحريري للطائفة السنية بمحاولة “صنع” زعامات جديدة موالية له قادرة على مقارعة الجانبين.

الدروز في عين عاصفة حزب الله
في ما يتعلق بالطائفة الدرزية، بدأت تتجلى ملامح هذا التوجه لدى حزب الله، وبعض حلفائه، منذ الأيام الأولى من مشاورات تشكيل الحكومة، حيث أصرّ التيار الوطني الحر، ومن خلفه حزب الله، على منح رئيس الحزب الديمقراطي طلال أرسلان حقيبة ضمن الحصة الوزارية للطائفة الدرزية، رغم أن الحزب التقدمي الاشتراكي حقق انتصارا كاسحا في الانتخابات النيابية في المناطق ذات الغالبية الدرزية.

واستمرت عملية لي الأذرع والضغط على “وليد بك” على مدار خمسة أشهر، وسط إصرار من الأخير على رفض توزير أرسلان، في ظل إدراكه بأن خلف هذه الرغبة أجندة تستهدفه في شخصه، لتنتهي المسألة بالاتفاق على توزير شخصية درزية ثانية تلقى تأييدا من كل من التيار الوطني الحر والحزب التقدمي الاشتراكي.

كما هو متوقع، لم تهدأ محاولات استهداف وليد جنبلاط، لتسلك هذه المرة طريقا جديدة قادها رئيس حزب التوحيد العربي وئام وهاب، الدرزي المقرب من حزب الله والنظام السوري، حيث عمد الأخير إلى تحريض أنصاره على القيام باستعراض مسلح الأسبوع الماضي (الخميس) بالقرب من بلدة المختارة (معقل جنبلاط) وكاد أن يتطور الأمر إلى اشتباك بين أنصار الجانبين لولا تدخّل سريع من قوات الجيش اللبناني، الذي حال دون وقوع فتنة درزية-درزية.

وقال البعض إن “العراضة” التي قام بها أنصار وهاب، كانت مجرد ردة فعل على اصطفاف جنبلاط إلى جانب رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري في الهجمة التي تعرّض لها من رئيس حزب التوحيد العربي، بيد أن للزعيم الدرزي قراءة أخرى، أيدها الكثير من المحللين، وهي أن ما حصل لم يكن مجرد استفزاز عابر من وهاب بل يأتي في صلب أجندة مدروسة تستهدفه شخصيا وتستهدف كل جبل لبنان.

وكشفت “حادثة الجاهلية”، وما أعقبها من تداعيات، بالواضح ما كان يخشاه جنبلاط ويحذّر منه. وتعود الحادثة التي جدت السبت الماضي إلى قيام قوة من شعبة المعلومات بمداهمة منزل وهاب في بلدة الجاهلية من قضاء الشوف بناء على إشارة من النيابة العامة التمييزية بعد رفضه الحضور أمامها، لتتفاجأ بقرار الأخير، ما اضطر القوة إلى أن تعود أدراجها، وأثناء ذلك عمدت عناصر تابعة لرئيس حزب التوحيد إلى إطلاق النار، مما أدى إلى إصابة أحد مرافقي وهاب، ويدعى محمد أبوذياب، الذي فارق الحياة بعد فترة وجيزة من وصوله إلى مستشفى “الرسول الأعظم” التابع لحزب الله.

وكان وهاب شنّ منذ مطلع الأسبوع الماضي هجوما عنيفا على رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري وعلى والده الراحل رفيق الحريري، الأمر الذي دفع عددا من المحامين المكلفين من تيار المستقبل إلى تقديم شكوى ضدّه.

وسارع وهاب إلى تحميل الحريري مسؤولية دماء مرافقه منذ الدقيقة الأولى من إعلان وفاته، واصطف معه أرسلان، وهو ما قابله رئيس حزب التوحيد بانتشاء قائلا “إننا كلنا تحت راية رئيس الحزب الديمقراطي النائب طلال أرسلان، فنحن واحد لسنا اثنين وكلنا تحت سقف خلدة”.

وفيما بدا الأمر عملية توزيع أدوار بدفع من حزب الله فقد ركز وهاب طيلة الأيام الماضية هجومه على الحريري والأجهزة الأمنية وخاصة شعبة المعلومات متّهما إياها بالتسييس، فيما ركز أرسلان على هجوم متدرج على وليد جنبلاط الذي اتهمه بالسماح بـ”استباحة الجبل”، وكأن، هذه المنطقة “خارجة عن سلطة الدولة اللبنانية”، على حد قول أحد السياسيين. وفي أحد تصريحاته قال رئيس الحزب الديمقراطي “إذا كان ​وليد جنبلاط​ هو حامي الجبل فعلى أمن الجبل السلامة”.

جنبلاط ينحني للعاصفة
تقول أوساط سياسية إنه بدا واضحا من خلال التطورات الأخيرة بدءا بهجوم وهاب على قامات سنيّة (الراحل رفيق الحريري) وصولا إلى حادثة الجاهلية، أن حزب الله أراد إشعال فتنة درزية – سنية، بالتوازي مع العمل على ضرب جنبلاط الذي خيّر التزام قدر من الهدوء في مواجهة الحملة الموجّهة ضده، مرسلا جملة من الرسائل لامتصاص تصعيد الحزب، وذلك عبر إرسال وفد التقى قبل أيام المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله الحاج حسين الخليل، أو عبر الإعلام من خلال التأكيد على استمرار التعاون مع الحزب، “رغم وجود تباعد في وجهات النظر”، بحسب تعبيره.

وتشير الأوساط إلى أن جنبلاط يدرك أن التصعيد سيوّلد تصعيدا مضادا وهذا طبعا ليس في صالحه كما ليس في صالح الجبل، وبالتالي فضّل “الانحناء للعاصفة”، ويرجح أن يكون الحزب قرأ الأمر جيّدا، وأنه بصدد تخفيف ضغوطه على رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي بانتظار جولة جديدة، خاصة وأن هناك معركة حاليا مفتوحة على مصراعيها مع رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري بشأن توزير أحد النواب السنة الموالين له في الحكومة، التي أخذت منحى دراماتيكيا بدخول رئيس الجمهورية ميشال عون على الخط، فيما بدا دعما لموقف حزب الله.

الحريري أولوية

يندرج موقف حزب الله من توزير أحد النواب السنة في صلب الأجندة التي يعمل عليها لشق الطائفة، والتي تكشّفت خيوطها منذ التحضيرات للانتخابات النيابية.

وسعى حزب الله بشكل مكثف إلى دعم مرشحين موالين له من هذه الطائفة خلال الانتخابات التي جرت في مايو الماضي، في عقر دار تيار المستقبل (دائرة بيروت الثانية) وفي طرابلس (شمالا). ونجح الحزب في إيصال ستة نواب سنّة من بينهم عبدالرحيم مراد وفيصل كرامي وجهاد السكرية.

وأحدث هذا الفوز رجّة في صفوف تيار المستقبل، وإن كان الأخير توقع هذه النتيجة في ظل قانون الانتخابات القائم على النسبية والذي أصر حزب الله على تمريره تحت داعي تحقيق تمثيل أوسع للبنانيين بيد أن غايته كانت إحداث ثغرات تسمح له باختراق باقي الطوائف.

ونجح المستقبل في امتصاص صدمة مرور هؤلاء النواب إلى قبة البرلمان. وأعاد التيار الأزرق ترتيب أوراقه مجددا، بعد أن أعيد تكليف رئيسه سعد الحريري بتشكيل حكومة جديدة امتدادا للاتفاق الذي جرى مع التيار الوطني الحر في أواخر العام 2016، حيث تولى آنذاك الحريري رئاسة الحكومة فيما آلت رئاسة الجمهورية إلى حليف حزب الله العماد ميشال عون.

وتوقع البعض أن تسير مهمّة تشكيل الحكومة الجديدة بسلاسة على ضوء أنها حكومة العهد الأولى بحسب وصف ميشال عون، فضلا عن أن المناخين الداخلي والإقليمي يخدمان سرعة إنجازها، بيد أن هذه التوقعات سرعان ما خابت، لتطرأ جملة من العقد اتهم حزب الله بالمساهمة فيها، ولعل أبرزها العقدتان المسيحية والدرزية.

ونجح الرئيس سعد الحريري بعد أكثر من 5 أشهر في تفكيك هذه العقد والتوصل إلى صيغة توافقية بين الفرقاء، وكان قاب قوسين أو أدنى من إعلان التشكيل الحكومي، قبل أيام قليلة من الاحتفال بالذكرى الثالثة للعهد، ليفجر الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله في إطلالة له قنبلة “النواب السنّة” الموالين له، بالمطالبة بتوزير أحدهم.

وللضغط على الحريري عمد الحزب إلى عدم إعطاء أسماء وزرائه لرئيس الوزراء، مسنودا في ذلك بدعم من حركة أمل. هذا الأمر لم ينجح في زحزحة موقف الحريري الذي يدرك جيّدا أن المغزى من توزير أحد هؤلاء النواب هو نسف أحادية تمثيله للسنّة داخل الحكومة.

وإزاء تصميم الحريري أوعز حزب الله لوسائل الإعلام الموالية له بشن حملة ضده، ليأخذ الأمر بعدا خطيرا مع تصعيد وهاب الذي استهدف شخص الحريري ووالده، لينتهي هذا التصعيد بحادث الجاهلية المأساوي، والذي كاد أن يؤدي إلى فتنة درزية سنية.

يبدو أنه لم يعد لحزب الله من خيار سوى رئيس الجمهورية ميشال عون الذي هدّد الجمعة، بشكل غير مباشر الحريري، بإمكانية نزع التكليف منه، عبر التلويح بورقة البرلمان.

ورد الحريري على التطور المستجد بالقول إن “المسألة ليست مسألة ‘مرجلة’ فإذا أردنا أن نكون بلدا حضاريا، يجب علينا أن نحترم الدستور والقانون. وإن آلية تشكيل الحكومة استنادا إلى الدستور واضحة، وهي تنص على أن يقوم رئيس الحكومة المكلف بتشكيل الحكومة بالتفاهم مع فخامة رئيس الجمهورية ونقطة على السطر”.

وإزاء بلوغ أزمة التشكيل الحكومي ذروتها، يرى محللون أن لبنان أمام مسارين إما هدم كل ما تحقق على مستوى التشكيل وإعادة خلط الأوراق مجددا وإما انفراجة على قاعدة “اشتدي أزمة تنفرجي”.

العرب