التاريخ ليس تدليسا وتزويرا أو سردية يفرضها المنتصرون

التاريخ ليس تدليسا وتزويرا أو سردية يفرضها المنتصرون

في مقدمة كتابه الذي صدر حديثًا بعنوان “عندما سُحقت حية موسى: نشوء اليهودية في فلسطين في العصر الفارسي”، يذكر الباحث زكريا محمد أن كتابه هذا ليس دحضًا للتوراة، أو روايتها، كما قد يفترض بعضهم من عنوانه، مؤكدًا أنه ليس من حاجة أصلًا إلى هذا الدحض. إذ يرى أن التوراة جزء أصيل من إرثنا الثقافي، أي أنها ملك لنا، وملك لتاريخنا، فكيف نشغل أنفسنا بدحضها؟ الديانة اليهودية مثلها مثل الديانة المسيحية، بعض من التاريخ والتراث الفلسطيني والعربي. والتوراة مثلها مثل الأناجيل نتاج أرضنا، وعلامة من علامات تاريخنا.

هذا الكتاب محاولة أخرى من المحاولات التي جرت وتجري للتغلب على التشوه الذي حصل في علاقتنا مع قسم من تراثنا، حين حاول بعضهم -وبردة فعل أو لأسباب أخرى- عده جسمًا غريبًا أو إنكاره، أو إعطاءه أكثر أو أقل من حجمه وعدم وضعه في سياقه التاريخي بوصفه جزءًا من نسيج المنطقة وتراثها، لا أكثر ولا أقل.

دحض الأساطير

يبحث زكريا محمد بداية في كتابه، الصادر عن دار الأهلية بعمان، الانقسامات البدئية في التوراة، حيث يحاول الباحث أن يدحض الأساطير الثلاث بشأن الديانة اليهودية في فلسطين لدى باحثي التوراة، أولاها أن الانقسام بين يهودا وإسرائيل انقسام قَبَلي- سياسي أساسًا، وأن طرفيه كانا منذ البدء يعبدان إلهًا واحدًا هو “يهوه”. لكن تأثر بني إسرائيل بالشعوب الكنعانية في فلسطين أدّى إلى “هرطقات” وانحرافات عن التوحيد اليهوي، التي انبثقت واتسعت بعد موت سليمان وتفتت المملكة الموحدة المفترضة، التي كانت تعكس الوحدة الدينية الأصلية.

أما الأسطورة الثانية فتكمن في أن الإله “يهوه” يختلف جذريًّا عن آلهة الشعوب التي سكنت فلسطين والمنطقة؛ إله توحيدٍ وَسْطَ محيط التعددية الوثنية. أما ثالثة الأساطير فهي أن هناك صلة ما بين “هرطقات” الطائفة السامرية في نابلس و”هرطقات” بني إسرائيل. فهذه الطائفة وارثة هرطقات بني إسرائيل. وبالتالي فالسامرة في الواقع بقية إسرائيل القديمة، بشكل ما. ودحض هذه الأساطير هو جوهر هذا الكتاب، حيث يعقد الباحث مقارنة تحليلية بين انقسام إسرائيل وانقسام قريش، انقسام كوني بدئي، يمثل الشتاء والصيف، فجبل جرزيم (حلف الصيف) وجبل عيبال (حلف الشتاء)، وفي مكة جبل أبي قبيس يعادل جرزيم والأحمر يعادل عيبال.

وبعد أن يُثبت أن “يشورون” صيغة من “أشر” وربما صيغة جمع، وأن “يشورون” تساوي “إسرائيل”، يُعَرّج على مسلة الفرعون المصري “مرنفتاح” حوالي (1205 ق.م) وفيها أقدم ذكر للاسم “إسرائيل” التي اختلفت الآراء فيها، فهناك مَن يرى أن لا علاقة بين إسرائيل مسلة مرنفتاح وبين إسرائيل التوراة، بينما يرى آخرون أنها دليل على وجود إسرائيل، لكن الباحث يفترض فرضًا مختلفًا، أن الاسم في المسلة المصرية يشير إلى إلهٍ محدد، وإلى تابعيه معًا، فإسرائيل إله وتابعوه إسرائيل، أي يدعون باسمه. ويستمر في الحفر حتى يصل إلى نتيجة مقنعة بأن إله الفلسطينيين “داجون” هو نفسه الإله “إسرائيل”. هذا الحفر يؤكد أن التاريخ ليس كذبًا وتدليسًا وتزويرًا، أو سردية يفرضها المنتصرون، بل وقائع وأدلة.

يربط الباحث بين آلهة “فلسطينية” قديمة وآلهة “جاهلية” سبقت الإسلام، وهذه إحدى طرق حفريات التاريخ المبنية على أسس علمية، ووعي حاد، ترفض النتائج التي توصل لها المختصون الغربيون وتحولت إلى مسلمات يقينية مقدسة.

العصا وحقيقة اليهودية

على طول الكتاب يبرهن الباحث زكريا محمد كيف جرى، في ظل سياسة الاستعادة، العبث بقطع كثيرة من نصوص كتب التوراة الخمسة للتغلب على ثنائية يهودا وإسرائيل. وحفرياته في التوراة تعتمد النسخ العبرية والعربية والإنكليزية، وهذا ما أوصله إلى نتائج جديدة.

السنة التوراتية برأسين، شهر نيسان- أبيب وهو الشهر الأول، يفقد امتيازه كرأس للسنة، لكي يكون الاحتفال ببدء السنة في شهر تشري، الشهر السابع، والسبب وجود إلهين؛ هما يهودا وإسرائيل، في أصل ما سيسمى لاحقًا بالديانة اليهودية. وهذا يعني وجود طائفتين دينيتين، بشرعين رئيسيين، هما شرع بني يهودا، وشرع بني إسرائيل، ومنهما تم نسج شرع واحد، وتقليد واحد، أصبح يدعى في ما بعد باسم: الديانة اليهودية.
آثار عملية النسج والتوحيد والتلفيق والدمج هذه تخترق التوراة كلها. وتُدعى عند الباحثين باسم “سياسة الاستعادة”. وهي في نظرهم سياسة هدفت إلى تنقية الديانة اليهودية من الشوائب الوثنية، ومن تأثيرات الأديان الكنعانية. غير أن الديانة اليهودية -كما نعرفها اليوم من التوراة- لم تكن موجودة قبل زمن الاستعادة أصلًا حتى يجري الحديث عن تنقيتها. وقد جرى هذا كله في العصر الفارسي.

ويلفت الباحث إلى أنه في “سحق حية موسى النحاسية” يرينا زكريا محمد أن الحية هي آية موسى المقدسة التي وضعها على رايته والتي كانت آية الله في يده، قام الملك المفترض “حزقيا” بسحقها ووضعها في قائمة الرموز الوثنية. وأن خصم سياسة الاستعادة الأول هو عقائد بني إسرائيل، لا عقائد الكنعانيين والفلسطينيين والفينيقيين؛ وحية موسى لم تكن رمزًا لموسى وحده فقط، بل كانت رمزًا كبيرًا من رموز بني إسرائيل. وكانوا يتعبدون لها، لأنها رمز معبودهم. ولأن موسى يتماهى في أحيان كثيرة مع إسرائيل، فكان سحق الحية يشبه إخصاء لإسرائيل وديانتهم، لتنتصر سياسة يهودا وديانتها الجديدة.

أما عصا موسى في سفر التكوين -والتي تتحول إلى حية أحيانًا- فتتحول إلى غصن مزهر، حيث يراها الباحث في هذا النص التوراتي، محاولة لحل الصراع على الكهانة بين بني يهودا وبني إسرائيل في سياق الاستعادة، فهو نص توفيقي ملفّق.

إن قارئ هذا الكتاب الذي بين أيدينا سينهي الكتاب وقد اكتسب وعيًا معرفيًّا أكبر وأعمق فيما يخص الديانة اليهودية. وإذا كان الباحث يرى أن إعادة تحرير اليهودية تمت في القرن الخامس قبل الميلاد، فإن اكتمال التوراة بشكلها شبه النهائي لم يحدث إلّا قبيل أو بُعَيْد الميلاد، بعد شيوع كتاب “بابليات” للمؤرخ البابلي برعوثا- بيروسوس أي لا يفصل التوراة عن الإسلام سوى 5 قرون أو أكثر قليلًا.

العرب