ردود أفعال عربية حذرة جدا على انسحاب الولايات المتحدة من سوريا وخروج ماتيس

ردود أفعال عربية حذرة جدا على انسحاب الولايات المتحدة من سوريا وخروج ماتيس

فاجأ إعلان الرئيس دونالد ترامب المباغت في 19 كانون الأول/ديسمبر عبر تويتر عن سحب الولايات المتحدة قواتها من سوريا العالم بأسره تقريبًا. وفي حين سارع المحللون الغربيون والإقليميون على السواء إلى تبيُّن كيف سيحدد هذا الإعلان معالم التطورات المستقبلية، بما في ذلك استقالة وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، توائم وسائل الإعلام العربية كلمات ترامب ونتائجها المحتملة مع وجهات نظرها الخاصة حيال دور الولايات المتحدة الأكبر في المنطقة. والجدير بالذكر أن معظم الدول غير المعنية بشكل مباشر لم تعلق كثيرا على استقالة ماتيس أو على انسحاب الولايات المتحدة من سوريا.

والجدير بالملاحظة أن المسؤولين العرب يتجنبون توجيه أي انتقاد صريح لهذا التحوّل الأخير الذي قام به ترامب – سواء لأنهم يتفقون معه، كما هي الحال بالنسبة للوضع السوري وبعض الحالات اللبنانية، أو لأنهم يترددون في انتقاده علنًا، كما هي الحال على الأرجح في عواصم عربية أخرى شجعت المعارضة السورية. في المقابل، بدأت وسائل الإعلام العربية أساسًا بإبداء ردّ فعل بطرق متباينة إزاء أحدث انعطافة في السياسة الأمريكية. وتوفّر سمات هذا التحوّل – التي تتراوح بين التهاني على وضع حدّ لسياسة أمريكية فاشلة بطريقة إستراتيجية، إلى استياء من وجود حلف “الناتو” المستمر وصولًا إلى تجنّب أي تعليق صريح – نافذة على كيفية تفسير وسائل الإعلام العربية تغيرًا في دور الولايات المتحدة في المنطقة.

تغطية واقعية مكثفة إضافةً إلى بعض التكهنات حول الخطوات التالية

في المقالات التي أفادت عن الانسحاب، ترجمت معظم وسائل الإعلام الإخبارية الناطقة باللغة العربية تغريدات الرئيس بالكامل، حيث شكّلت في بعض الحالات اقتباسات مقاطع كاملة القسم الأكبر من المقالات الإخبارية بذاتها (راجع على سبيل المثال تفسير “العربية” للانسحاب)، ما يسلّط الضوء على الأهمية التي توليها هذه الوسائل إلى حساب الرئيس على توتير كمصدر رسمي لسياسة الولايات المتحدة الخارجية. وبشكل خاص، تصدّر تعليق ترامب بأن أمريكا لا تريد أن تكون “شرطي الشرق الأوسط” عناوين معظم الأخبار الصادرة في الآونة الأخيرة حول إعلان ترامب، حيث وصل البيان إلى عناوين “وكالة معًا الإخبارية” و”غزة بوست” في فلسطين، والموقع الإخباري العراقي المستقل “السومرية”، وصحيفة “النهار” وقناة “المستقبل” المملوكة لرئيس الوزراء سعد الحريري في لبنان إلى جانب موقع “باب نت” التونسي و”مدي 1 تي في” المغربية و”الدستور” المصرية.

والأهم من ذلك، تترجم هذه المصادر سؤال ترامب البلاغي: “هل ترغب الولايات المتحدة في أن تكون شرطي الشرق الأوسط؟” كبيان: وتشمل التباينات “الولايات المتحدة لا تريد أن تكون شرطي الشرق الأوسط” أو “لن نكون شرطي الشرق الأوسط” أو “لسنا شرطي الشرق الأوسط”.

كما بدأت مقالات بالبروز في محاولة لتحديد سياق التداعيات المحتملة على عدد اللاعبين الذي لا يحصى المتورطين في سوريا. وتحدثت “الجزيرة” عن أثر الانسحاب على عمليات تركيا، حيث ركّزت على البيان الصادر يوم الخميس عن وزير الدفاع التركي بأن عملية عسكرية في منبج باتت وشيكة. من جهتها، أفادت تقارير جريدة اليوم السابع أن مسؤولين أمريكيين يشيرون إلى أن الضربات الجوية الأمريكية ستنتهي أيضًا في الساحة السورية. وتؤكد “العربية” أيضًا التزام الولايات المتحدة المستمر بقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 2254.

كما أن التقارير حول استقالة وزير الدفاع جيمس ماتيس لاحقا بدت هي أيضا حذرة في معظمها، حيث استقى عدد من هذه التقارير الإخبارية مباشرةً من مقال نشرته صحيفة واشنطن بوست حول الموضوع، بينما تألفت بعض التقارير الأخرى بشكل أساسي من اقتباسات من تغريدات ترامب وخطاب استقالة ماتيس. فعلى سبيل المثال لم يقدم موقع العربية نت سوى ملاحظة تحريرية صغيرة في نهاية مقاله ، حيث ذكر أن ماتيس سبق وان أعلن في أيلول/ سبتمبر أنه لن يستقيل في المستقبل القريب. كما وفرت الجزيرة تغطية حذرة وواسعة حول الموضوع حيث أشارت إلى أن الاستقالة لم تكن مفاجئة بالكامل منذ أن تجاهل ترامب نصيحة ماتيس.

ومع ذلك، هناك العديد من المقالات التي طرحت وجهات نظر واضحة. فعلى غرار مصادر الأخبار الإنجليزية، اختارت وسائل الإعلام المختلفة تسمية رحيل ماتيس إما “بالتقاعد” أو “الاستقالة. أما الصحف التي تؤكد على الفوز الاستراتيجي للأسد أو على الوضع القوى للقوات الروسية، فقد اتخذت مواقف أقوى، حيث قالت صحيفة التحرير المصرية الخاصة بعد استقالة ماتيس أن” العالم ينتظر فوضى ترامب “، في حين اصدر  موقع” لبنان 24 ” تقريرا  تحت عنوان “حمى الأسد “ومحاولة إقناع ترامب بالبقاء في سوريا … هذه أسرار استقالة ماتيس”. ومع ذلك ، بدت صحيفة “المواطن” السعودية  هي الأخرى حذرة  حيث قامت بتأطير رحيل  ماتيس من خلال عدسة السياسة الخارجية الخاصة بها ، مدعية أن  أحد الخبراء السعوديين قد تنبأ برحيل ماتيس قبل عدة أشهر ، ومستشهده  بتصريحات الولايات المتحدة “غير الدقيقة” بشأن اليمن.

وتنشغل وسائل الإعلام العربية أيضًا بنشر تقارير عن ردود قيادات خارجية متورطة في الصراع ضد “الدولة الإسلامية” والائتلاف السوري الأشمل. ونشرت مواقع عدة ردودًا رسمية صادرة عن ألمانيا وفرنسا وروسيا وتركيا وإسرائيل وبريطانيا – إيجابية وسلبية على حدّ سواء. فضلًا عن ذلك، تحدّد عدة مصادر سياق تغريدات ترامب من خلال ردود مسؤولين أمريكيين آخرين، منها على سبيل المثالتغطية بوابة “أخبار اليوم” المصرية شبه الرسمية لتصريحات ليندسي غراهام. وتسلّط العديد من التقارير الإخبارية هذه الضوء على مفاجأة وكالات أمريكية أخرى حيال الإعلان.

وما افتقدته الساحة الإعلامية على نحو مفاجئ هو بيانات مسؤولين عرب خارج سوريا. وبدلًا من ذلك، بدأت مقالات افتتاحية في عدد من وسائل الإعلام الحكومية أو المدعومة من الدولة بالظهور، مبيّنةً وجهات النظر الخاصة لسياسات دولها الخارجية.

التقارير تعكس مواقف الدول حيال سوريا

لغاية الآن، لم يصدر عن أي مسؤول عربي تصريحًا يتعلق بانسحاب الولايات المتحدة المقترح من سوريا. غير أن هذا لا يعني على الإطلاق أنه تمّ تلقّي قرار ترامب بشكل حيادي: لا بل تلقي ردود النقاد الضوء على شبكة العلاقات المعقدة التي تحدّد معالم سلوكيات حكومات عربية أخرى إزاء الحرب السورية.

بالنسبة لمصر، البلد الذي تدعم حكومته علنًا موقف روسيا في سوريا، يبدو أن الأخبار التي تبثها وسائل الإعلام غير المعارضة تؤيد بشكل معتدل قرار ترامب وذلك على عكس الأخبار التي تبثها وسائل الإعلام الحكومية. ومن مصر، يلخص أحمد جمعة من “اليوم السابع” في عنوان طويل نظرته إلى المسألة: “سحب القوات الأجنبية بداية حل الأزمة السورية.. انسحاب واشنطن يثبت فشلها الإستراتيجي ويضعف موقف الأكراد.. تركيا تعزز تواجدها العسكري على طول الشريط الحدودي.. وقوات سوريا الديمقراطية: سنرد بقوة على أي هجوم تركي”. ويصف جمعة، بما يرضي روسيا وبلغة تكرر ردود وسائل الإعلام الموالية للأسد (المستطلعة أدناه)، هذه الخطوة بأنها “هزة كبيرة في الأوساط السياسية والعسكرية … تؤكد نجاح الإستراتيجية الروسية في سوريا”.

وتتفق صحيفة “سبق” السعودية مع هذا التقييم فقط من حيث أن سياسة ترامب تعكس تغيّرًا ملحوظًا في سياسة الولايات المتحدة. غير أنه تمّ تقديم التحوّل بذاته بشكل سلبي، رغم الاختيار الحذر للكلمات من أجل نقل الانتقادات بنفسها من مصادر أمريكية. ويصف المقال كيف “تجاهل الرئيس الأميركي دونالد ترامب كبار مستشاريه للأمن القومي، وفاجأ القادة العسكريين الأميركيين على الأرض، وصدم أعضاء الكونغرس وحلفاءه بقراره”، ناقلًا عن مسؤولين أمريكيين اعتقادهم أن السياسة الجديدة ستعجز عن منع عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”. كما يمكن ملاحظة الحذر في تغطية “العربية” الممولة من الدولة السعودية، التي تقدّم تغطية إخبارية واسعة للموضوع لكن من دون اتخاذ الافتتاحيات موقفًا في هذا المجال بطريقة أو بأخرى. وللمفارقة، تبدي “الجزيرة” الممولة من قطر، وهي منافسة “العربية”، حذرًا مماثلًا في تقييمها للانسحاب.

في المقابل، تحدّد صحيفة “الأخبار” اللبنانية اليسارية والموالية للأسد معالم ردّ ترامب بشكل قاس، مشيرةً إلى أنه لا بدّ من الاشتباه والشكّ بأي موقف للولايات المتحدة. وجاء في أحد العناوين: “أمريكا “خارج” سوريا: الاحتلال “الأطلسي” (أي الناتو) باقٍ”، في تأكيد على أن سوريا هي دولة محتلة. وأفاد مقال آخر أن “البيت الأبيض يشيع أنّ في ذلك اتفاقًا مع أنقرة، والفراغ الذي سيحدثه انسحابنا سيملؤه حليف من “الأطلسي”، لا حلفاء دمشق”. وللمفارقة، تكرر وسائل الإعلام المعارضة في سوريا هذا التبرير عن تحالف أمريكي-تركي لإيذاء سوريا.

الردود في وسائل الإعلام السورية، الحكومة والمعارضة

مقابل الردّ الرسمي الخجول للعالم العربي الأوسع نطاقًا، أصدر كل من مسؤولي نظام الأسد ومتحدثين باسم “قوات سورية الديمقراطية” المعارضة بيانات حول هذه المسألة.

وتنتقد تقارير المعارضة انسحاب قوات الولايات المتحدة. فقد وصفت “الثورة”، صحيفة معارضة سورية، الانسحاب الأمريكي بأنه “مخطط” أمريكي-تركي يثبته موافقة واشنطن في الآونة الأخيرة على تزويد أنقرة بمنظومة “باتريوت” المتكاملة للدفاع الجوي والصاروخي.

أما على موقع وزارة الإعلان الرسمي التابعة لنظام الأسد، فيفصّل بيان الإعلانات الموحدة الصادرة عن ترامب والمتحدثة باسم البيت الأبيض سارة ساندرز والمتحدثة باسم البنتاغون دانا وايت حول المسألة، مع التشديد على أن “سوريا طالبت دائما بخروج القوات الأجنبية الموجودة على الأراضي السورية بشكل غير شرعي ودون موافقة الحكومة السورية”. ويشدد القسم الأكبر من النصف الثاني للمقال على ردود روسيا الأخيرة على المسألة، مسلطًا الضوء بشكل خاص على البيانات الروسية الرسمية حول إقرار الولايات المتحدة أخيرًا أن معارضتها للمساعي الشرعية لكل من روسيا وإيران وتركيا تلحق الضرر بمصالحها الخاصة.

وكما هو متوقع، تبنت وسائل إخبارية أخرى موالية للحكومة موقف النظام واستفاضت في الوصف. فقد اعتبرت الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا) الحكومية القوات الأمريكية في سوريا راعية للإرهاب. ويبدو أن المقال يرحّب بانسحاب “الوجود غير الشرعي لقوات الولايات المتحدة في سوريا… التي ارتكبت عشرات المجازر بحق المدنيين ودمرت البنى التحتية ولاسيما في دير الزور والرقة بحجة مكافحة تنظيم “داعش” الإرهابي”، رغم أن المقال ينتهي بالإشارة إلى شكوك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الصريحة بتبلور هذا الانسحاب على أرض الواقع. ووصفت”سانا”، وهي الموقع الإعلامي الحكومي السوري، بدورها انسحاب ترامب كرد على “خسارة واشنطن رهاناتها وفشل خططها في سوريا، التي دامت أربع سنوات، وشملت دعم المنظمات الإرهابية والمتطرفين”. وردّد موقع “جهينة نيوز” الموالي للنظام السوري الاعتماد على البيانات الرسمية الروسية – لاسيما البيان الصادر عن المتحدثة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا – لتحديد سياق أرجحية الانسحاب.

ردود المعلقين التلفزيونيين تمنح وقتًا إضافيًا للمحللين الروس على الهواء

لم تضيّع القنوات التلفزيونية العربية الكبرى الوقت لاستقبال شخصيات روسية تتحدث العربية على الهواء من أجل التفاخر بهذا “الإنجاز الكبير” الذي حققته سياسة موسكو في الشرق الأوسط. وخلال استضافته على كل من “سكاي نيوز عربية” و”العربية” في 19 كانون الأول/ديسمبر، أسهب الروسي المتحيّز للعرب فايشسلاف ماتوزوف، وهو من بين أشرس المدافعين عن نظام الأسد، في ترحيبه بانسحاب الولايات المتحدة من سوريا. ويزعم أن هذه الخطوة هي مقدمة لعودة “الحكومة الشرعية في دمشق” إلى طبيعتها وبسط سيطرتها على كل إنش من الأراضي السورية.

وفي ردّ تقليدي، وافق أستاذ لبناني ظهر على قناة “العربية” على أن انسحاب الولايات المتحدة سيفتح على الأرجح الباب أمام الأسد وروسيا وكذلك إيران وتركيا من أجل ملء الفراغ الناتج عن هذه الخطوة. ولكنه أضاف أن “الدولة الإسلامية” وغيرها من الجهاديين لن يتأخروا في تنشيط حملاتهم الدموية داخل أي مناطق تمّ إخلاؤها برحيل الجنود الأمريكيين. وتابع قائلًا إن أكراد سوريا سيدفعون الثمن الأكبر على الإطلاق، حيث لن يكون أمامهم سوى المساومة من موقع ضعيف للغاية للحصول على أي فتات سياسي أو اقتصادي ممكن من نظام الأسد في الوقت الراهن.

معهد واشنطن