مقدمة ابن خلدون.. كتاب شامل ومؤسس لعلوم الاجتماع

مقدمة ابن خلدون.. كتاب شامل ومؤسس لعلوم الاجتماع

ما زالت بعض القراءات السطحية تعتقد أن كتاب “المقدمة” مجرد مقدمة مستفيضة للكتاب الذي تلاه، في حين أنه بمثابة المدخل التأسيسي لعلم جديد وقائم الذات في العلوم الاجتماعية الحديثة وهو “السوسيولوجيا” بمفهومها الأوسع والأكثر دقة، ذلك أن مؤلفه وضع فيه نظريته في كتابة التاريخ ورصد نشوء الأمم وارتقاءها، شارحا أسباب انحدارها في ما يعرف بـ”العصبية القبلية”.

يتفق المؤرخون على أن ابن خلدون هو الأب المؤسس لعلم الاجتماع، وانبهر الكثير منهم بتلك المنهجية العلمية الصارمة في قراءة التاريخ. وكيف أن الرجل ضرب عرض الحائط بالأساليب والطرق المتّبعة في عصره، رغم أن بعضهم عاب عليه بعض التناقض الذي بدا واضحا بين نقده لكتابة التاريخ في عصره، وطريقته، هو نفسه، في كتابة التاريخ أي أنه قد “نهى عن شيء وأتى بمثله”.

أغلب الانتقادات التي وجهت لابن خلدون كانت من طرف بعض المتعصّبين من ذوي النزعات القبلية، والكثير من المغالين في تمجيد العرق العربي على حساب غيره من الأعراق والأمم، ذلك أن صاحب “المقدمة”، ورغم أصوله العربية الحضرمية، لم يتوان في نقد الأعراب وابتعادهم عن السلوك المدني مقارنة بشعوب عرفتها المنطقة وكان لها نصيب من الحضارة والإسهام في الرقي الإنساني على الرغم من هزائمها العسكرية.

قال ابن خلدون، الذي وجد نفسه مدفوعا بتدهور الحضارة الإسلامية، في مقدمته “وأما لهذا العهد، وهو آخر المئة الثامنة (الهجرية)، فقد انقلبت أحوال المغرب الذي نحن شاهدوه وتبدلت بالجملة… هذا إلى ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المئة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها. وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلص من ظلالها، وفل من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي”.

هذا عن أحوال بلاد المغرب في عصره، أما عن المشرق فكان له نصيبه من التراجع والتدهور، فيذكر في المقدمة “وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب، لكن على نسبته ومقدار عمرانه. كأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة. والله وارث الأرض ومن عليها”.

التاريخ له نصيبه أيضا، فهو وفي محاولة منه لفهم حاضره لجأ ابن خلدون إلى كتب التاريخ لمعرفة الماضي ولكنه وجد أن التاريخ في عصره لم يعد دقيقا وباتت الخرافات تمتزج بالوقائع وتشوّه الأحداث والمسار، فيقول “إن فحول المؤرخين في الإسلام استوعبوا أخبار اليوم وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها وخالطها المتطفلون بدسائس من الباطل”.

يتحدث ابن خلدون في كتابه عن المراحل التي مر بها التأليف التاريخي في الإسلام من الطبري والمسعودي وصولا إلى مرحلة الانحطاط حيث “الاكتفاء بأسماء الملوك” حسب تعبيره. ويقدم الأسباب والحلول والتي يتداخل فيها السياسي بالاجتماعي بالتعصب لفئة والتحيز لقوم. ويتطرق إلى العمران (الحضارة) والمغالطات التاريخية لكثير مما ذكر في الكتب.

المؤرخون والدارسون مازالوا إلى يومنا هذا، يعتبرون كتاب “المقدمة” لعبدالرحمن بن خلدون (1332ـ1406)، واحدا من أهم ما يميز المكتبة العربية بل ذهب بعضهم إلى اعتباره حجر زاوية في نشأة العلوم الاجتماعية وحتى الاقتصادية الحديثة كما ورد في عدة كتابات غربية.

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر، دهش عالما الاجتماع النمساوي لودفيج جومبلوفيتش والإيطالي جون فريرو، من عثورهما على مبادئ علم الاجتماع الأوروبي الجديد بكتاب “المقدمة”؛ ومع ذلك ساهم الاستخدام الموجه لعلم الاجتماع “القومي” بالثلاثينات وعلم الاجتماع “الاستعماري” في حجب الأهمية العلمية لهذا الكتاب.

كان ينبغي الانتظار حتى خمسينات وستينات القرن الماضي ليكتشف علماء الاجتماع العرب والأوروبيون المتخصصون في دراسة بلاد المغرب الكبير، الأوجه المتعددة للكتاب التي سمحت بإثبات أن مؤلفه كان من أول، إن لم يكن أول عالم اجتماع، في العصور الحديثة.

تناول عبدالرحمن بن خلدون في “المقدمة” مختلف جوانب المعرفة في مقدمته، ومنها علوم الشريعة والجغرافيا والعمران والسياسة والاجتماع، كما اهتم بأحوال الناس والفروق في طبائعهم وأثر البيئة فيهم.

كما احتوت المقدمة على توضيح كيفية تطوّر الأمم ونشوء الدول وأسباب انهيارها، وقد تمكّن ابن خلدون في مقدمته من عرض الكثير من الأفكار السابقة لعصرها، مما ساهم في اعتباره المؤسس الأول لعلم الاجتماع.

يقسم ابن خلدون كتابه “المقدمة” إلى 6 أبواب:

  •  الباب الأول: في العمران البشري، ويرى فيه أن التعاون بين البشر واجتماعهم مسألة ضرورية لا خيار فيها، حيث أن أساس بقاء الإنسان هو الطعام. وتحصيل الطعام لا يعتمد على فرد واحد بل على الجماعة.

 كما ربط ابن خلدون بين درجة الحرارة وبناء المجتمعات ربطا وثيقا، فالمناطق الحارة صعب العيش فيها والعمران، أما المناطق الباردة والمعتدلة نسبيا فهي الأنسب للمعيشة ولبناء الحضارة والمجتمع.

وصنّف ابن خلدون في هذا الباب البشر إلى ثلاثة أنواع؛ الأول هو الذي يعتمد على الشكل الخارجي والمظهر فقط وهذا شخص سطحي، والثاني هو المتعقل روحانيا، فينظر قليلا للدواخل النفسية وهؤلاء هم رجال الدين، أما الأخير فهو الأشبه بالملائكة وخصصه بالأنبياء. ويرى ابن خلدون أن الفقراء هم أكثر تقربا لله وتديّنا، فهم يتطلبون منه دائما الرحمة وطيب الحال، على أن الأغنياء ينسون في لهو الحياة الزهد والتقرب لله.

  • الباب الثاني: في هذا الباب يرى ابن خلدون أن بناء الحضارة فعل متسلسل غير ثوري، حيث يبدأ الأمر بتوفير الغذاء وبعده توفير الملبس والمسكن ثم التفرغ للزينة والتأمل؛ ومن هنا تأتي الحضارة من المجتمعات الآمنة فقط. ويوضح أن البدو هم أساس كل شيء حيث يكتفون  بالضروريات على عكس المدن التي تبحث عن الكماليات.

والنسب من وجهة ابن خلدون يمتد فقط لأربعة جدود، وما قبله فهو اعتزاز لا أساس به، فمكارم الأخلاق لا تنتقل بالدم ولكن بالقدوة والتربية. ويقول ابن خلدون في هذا الباب إن الأمم التي تعودت على الكسل وعدم الجد سهل تملكها وحكمها من خارجها، وإن استمر الكسل فيها.

  • الباب الثالث: يرى فيه صاحب المقدمة أن كل نظام جديد يواجه في بدايته مشاكل كثيرة لعدم اعتياد النفس البشرية عليه وصعوبة انقيادها إليه، ولكن بمرور الزمن تعتاد عليه وتتقبله..

وأرجع ابن خلدون ذلك إلى أن الصبغة الدينية تجعل التنافس في أقل درجاته، فيقل فيها الخلاف وتصبح الأهداف إلى حد ما موحدة ولو بشكل صوري. كما شرح ابن خلدون، الذي قضى معظم حياته في شمال أفريقيا، أن سبب تفكهم الدائم هو عدم وجود نظام يستوعب كل القبائل والعصبيات المختلفة.

ويؤكد ابن خلدون على أن الدول والأمم التي يتثبت حاكمها فترة طويلة تصاب بالهوان عادة، ففي بدء الأمر وبعد أن يستقر حكم الحاكم الجديد يفقد حماسه في رعيته، مما يظهر الفساد، وإن استمراره فترة طويلة يزيد الفجوة بين طبقتي الأغنياء والفقراء، وإن استمرار نفس الحاكم يخلق أجيالا غير مجددة ساكنة غير مندفعة للعمل.
وإن الترف في الدول يدل على تقدمها ولكن إن لم يحسن استخدامه أصبح سبب رجوعها.

ابن خلدون يرى أن بناء الحضارة فعل متسلسل غير ثوري، حيث يبدأ الأمر بتوفير الغذاء وبعده توفير الملبس والمسكن ثم التفرغ للزينة والتأمل؛ ومن هنا تأتي الحضارة من المجتمعات الآمنة فقط

الدولة، في رأي صاحب المقدمة، تمر بأربعة أطوار آخرها التقليد، وفي هذا الطور يبعد الحاكم عن التجديد ويظل مقلدا لمن سبقوه وكذا الملك يقلد أجداده، ويكون ذلك نابعا من خوفه من التجديد والمغامرة وضياع مجد سابقيه.

  • الباب الرابع: يقول ابن خلدون في هذا الباب إن فساد الفرد الواحد ينشر بين أفراد أسرته ومحيطه فساده ذلك حتى يتكاثر ذلك الفساد وينتقل في جميع أرجاء المدينة حتى حاكمها، وكذلك الصفة السيئة تتخلل الناس من شخص واحد، حتى تصبح صفة عامة في البلاد فيهتز كيانها على آثرها وتصبح قابلة للانهيار.

إن للحضارة حتى تظهر من وجهة نظر المفكر ابن خلدون مفاسد تمر بها المجتمعات في فترات بناء الحضارة، منها البعد الديني والترف وطاعة الشهوات بمختلف أنواعها وغلاء الأسعار.

  • الباب الخامس: توصل ابن خلدون إلى حقيقة في هذا الباب، مفادها أن اختلاف الأعمال وتنوع أشكالها يعني زيادة في معدل الكسب لأهل البلد، وربط بشكل مباشر بين مقدار الدخل ومقدار التعمير السائر. وعن العلاقة بين المال والجاه، يقول ابن خلدون إن الرجل صاحب المال فقط تسير أموره على مقدار ماله على أن صاحب الاثنين تسير أموره بسهولة وتكون فرصته في استثمار ماله أكبر.

وفي علاقة رجال الدين بالثروة، يرى صاحب المقدمة أن المنطق يقول إن رجل الدين لا يكون صاحب ثورة، وذلك لأن دعوته الدينية ونهجه التوعوي لا يشكلان أهمية كبيرة في حياة الناس، على أن مقدار الدخل يأتي على أهمية العمل. ورأى أن رجال الدين أصحاب الثروة هم يستغلون دعوتهم لتحقيق أهدافهم وكسب المال. ويقول ابن خلدون إن الحضارة تأتي أولا بالعمران ولا عمران دون صناعة مما يجعل الحضارة والصناعة توأمين، حيث تزداد الصناعة مع الحضارات مما يفسّر ظهور بعض الصناعات الجديدة على الحضارة الإسلامية.

  • الباب السادس: يرى ابن خلدون في آخر أبواب كتابه أن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو الفكر الذي يجعله يربط الأمور ببعضها البعض ونتيجة ذلك الفكر نتجت العلوم المختلفة، ومن شروط تكامل الإنسان اكتسابه العلم والمعرفة. ويرى أن من أوجه تطور الحضارة أن تشهد تطورا في الصنائع وكذلك العلوم، وإن جودة تلك العلوم مؤشر مباشر على قوة الدولة والحضارة التي تنشأ فيها.

صنّف ابن خلدون العلوم إلى قسمين؛ الأول صنف طبيعي يهتدي إليه الإنسان بفكره، وصنف يتم أخده مما توصل إليه من قبل والاعتماد فيه على الأخذ وليس العقل. ويقول في هذا الفصل إن كثرة التأليف في العلوم تنتج عنها كثرة في المصطلحات والمفاهيم مما يؤدي إلى صعوبة فهمها، وطالب بوضوح أن يكون التعليم قائما على القضايا الأساسية وبعدها يتوسع الطالب بعد أن يتشرّب المفاهيم.

كتاب أبهر علماء الغرب

يعد جاكوب خوليو أول عالم غربي تأثّر بابن خلدون، حيث تتبَّع عام 1636 في كتابه “رحلات ابن خلدون ” فكر هذه الشخصية المسلمة الفذة. وترجم بيير فاتيف عام 1658 هذا الكتاب إلى اللغة الفرنسية. وفي عام 1767 ترجمه صامويل مانجر، إلى اللغة اللاتينية. أما سيلفستر دو ساسي، فتطرق في بعض أعماله إلى عدة أبواب وفصول من مقدمة ابن خلدون، وقام المؤرخ النمساوي هامر بورشتيفال، عام 1812 بترجمة بعض كتب ابن خلدون إلى اللغة اليونانية، ووصفه بـ”مونتيسكو العرب”، كما أنجز الفيلسوف الفرنسي ماك كاكين دوسلان عام 1868 عملا متميزا عن هذا العلامة.

ركز دوسلان على دور العامل الاقتصادي عند ابن خلدون، ومسيرة حياته الاجتماعية، علاوة على معالجته لموضوع “حب البقاء” لكنه أغفل شرح دور العصبية في ذلك. أبدى هذا الأستاذ الجامعي إعجابه الكبير بابن خلدون، لكنه لم يستوعب عمق فكره وخصائصه ومقاصده، وهذه هي المشكلة التي نجدها عند أقلية من العلماء الغربيين الذين لم يدركوا مفهوم “العصبية القبلية” التي ترتبط بالفضاءين الزماني والمكاني للذهنية العربية. راج اسم ابن خلدون في أكبر الجامعات الغربية التي تهتمُ بمجالي علم الاجتماع والفلسفة، كما شاع منهجه في جامعات أوروبية أخرى في إسبانيا، وفرنسا، وإنكلترا، وألمانيا، واليونان، وما زالت النقاشات والأطروحات حوله متواصلة لحد اليوم.

يصف الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا أي جاست، ابن خلدون بـ”فيلسوف التاريخ الأفريقي”، كما يرى أن “المقدمة” تعد من حيث الزمن أول كتاب يؤلَف في مجال فلسفة التاريخ. ويَتَعَرَّض المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي، لفكر ابن خلدون بشيء من المدح والإعجاب، كما يرسم بعض سماته الشخصية ونبوغه العلمي، فيذكر أنه يجسّد آخر نجوم المؤرخين، وقد عدَّ “المقدمة” إنجازا علميا عظيما استفاد منه العلماء الغربيون كثيرا.

العرب