قرار ترامب الانسحاب من سورية.. مبرّراته وسياقاته وتداعياته

قرار ترامب الانسحاب من سورية.. مبرّراته وسياقاته وتداعياته

أمر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في 19 كانون الأول/ ديسمبر 2018، ببدء تنفيذ انسحاب “كامل” و”سريع” للقوات الأميركية من سورية. وقد نجم عن هذا القرار الذي جاء عبر تغريدة في “تويتر” صدمة كبيرة في واشنطن، وبين حلفاء الولايات المتحدة الأميركية، خصوصًا أنه ترافق مع إعلان مسؤولين في البيت الأبيض نية الرئيس خفض القوات الأميركية العاملة في أفغانستان إلى النصف. ويخشى قادة سياسيون وعسكريون في واشنطن أن يترك قرار الانسحاب من سورية فراغًا يملؤه خصوم الولايات المتحدة، وتحديدًا روسيا وإيران، كما أن خروجًا أميركيًا مبكرًا قد يعيد بعث الحياة في تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وتَمثّل أوّل تداعيات قرار ترامب الذي جاء توقيته، كما يبدو، لأغراض داخلية متعلقة بشعبيته، من دون تنسيق مع مستشاريه للأمن القومي، في استقالة وزير الدفاع، جيمس ماتيس، والمبعوث الأميركي الخاص للتحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية، الجنرال بريت ماكجورك، احتجاجًا على القرار. وقد عارض القرار أيضًا وزير الخارجية، مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي، جون بولتون، لكن محاولاتهم لثني ترامب عنه لم تُجد نفعًا.
مبرّرات ترامب
بحسب الرئيس ترامب، لم يعد ثمّة مبرر لبقاء الولايات المتحدة في سورية، بعد هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، ولا ينبغي لأميركا أن تكون “شرطي الشرق الأوسط”، تقدم التضحيات من أجل حماية الآخرين. وهي مقولاتٌ تلقى صدىً في الشارع الأميركي، حيث الأولوية للاقتصاد، وحيث تلقى شعارات مثل “أميركا أولًا” أو “على من يريد الحماية أن يدفع” بعض الرواج.

ورفض ترامب الانتقادات الموجهة لقراره، لناحية إيجاد فراغ في سورية، تستفيد منه روسيا وإيران و”داعش”، معتبرًا أن روسيا وإيران وآخرين “ليسوا سعداء بمغادرة الولايات المتحدة لأنهم سيضطرون إلى محاربة داعش (بأنفسهم)”. كما أشار، في معرض تبريره القرار، إلى أنه اتفق مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، على أن تتولى تركيا القضاء على بقايا تنظيم داعش، بينما تتولى السعودية تمويل إعادة إعمار سورية، وستقوم بذلك بدلًا من الولايات المتحدة. وقال: “وافقت السعودية على تقديم التمويل اللازم لإعادة إعمار سورية بالنيابة عن الولايات المتحدة”. وأضاف: “من الجيد أن تساعد دول فاحشة الثراء جيرانها، بدلًا من أن تقوم بذلك دولة عظمى على بعد خمسة آلاف ميل”، في إشارة إلى الولايات المتحدة، مختتمًا بالقول “شكرًا للسعودية”.
ويتسق إعلان ترامب عن الدورين المحتملين لتركيا والسعودية في سورية مع قناعته التي طالما عبّر عنها، وتتمثل في أن حلفاء الولايات المتحدة الذين يعتمدون على مظلتها الحمائية مطالبون بأن يدفعوا مقابل تلك الحماية، أو أن يقتسموا التكلفة مع الولايات المتحدة، أو أن يتحملوها وحدهم.

سياق القرار
يتخذ رفض ترامب فكرة أن تتولى الولايات المتحدة مسؤولية حماية الآخرين، أو خدمة مصالحهم من دون مقابل، بحسب رأيه، شكل عقيدةٍ إستراتيجية جديدة، لكنه في الحقيقة سلوكٌ سياسي ناجم عن أسباب داخلية وحسابات انتخابية، حتى لو كان مفعوله يشبه مفعول عقيدة إستراتيجية جديدة. ومعلوم أن سحب القوات الأميركية من سورية كان أحد الوعود الانتخابية التي سبق أن تعهّد بها ترامب مرشحًا. وهناك محاولاتٌ واضحة أيضًا من ترامب، لشد عصب قاعدة دعمه اليمينية في مواجهة المشكلات القانونية والسياسية المتصاعدة تجاهه، والمتصلة بتحقيقات المحقق الخاص، روبرت مولر، بشأن تواطؤ مزعوم بين حملته الانتخابية وروسيا في انتخابات عام 2016. ويمثل شهر كانون الأول/ ديسمبر الجاري واحدًا من أسوأ الشهور في رئاسة ترامب، خصوصًا مع اقتراب التحقيقات منه شخصيًا، ومن عائلته وأعماله، فضلًا عن استمرار النزيف في إدارته، متمثلًا في موجات الإقالات والاستقالات. وشهد تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 فوزًا كاسحًا للحزب الديمقراطي في مجلس النواب ضمن انتخابات التجديد

النصفي. وهو ما يعني تعطيل أجندته الداخلية، فضلًا عن إجراء تحقيقاتٍ واسعةٍ ومكثفةٍ حوله شخصيًا، وحول محيطه وإدارته. ونظرًا إلى أن سلطة الرئيس في حقل السياسة الخارجية أوسع منها في السياسة الداخلية، فربما اختار ترامب أن يستثمر فيها مبكرًا قبل أن تتولى الأغلبية الديمقراطية رئاسة مجلس النواب مطلع العام الجديد 2019.
ومن المهم أيضًا الإشارة إلى أن قرار ترامب جاء في سياق اتصال هاتفي أجراه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 14 كانون الأول/ ديسمبر 2018، رتّب له بومبيو، بعد تهديد أنقرة بتنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ تستهدف المقاتلين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة في شمال شرق سورية. وقد ساهم ماتيس وبومبيو وآخرون في إعداد ملاحظاتٍ لترامب يسترشد بها خلال الاتصال الهاتفي، لكي يقف في وجه العملية العسكرية التي تهدّد تركيا بشنّها شرق الفرات. إلا أن ترامب قبل شكوى أردوغان من أن الولايات المتحدة تقوّض الأمن التركي، بدعمها الأكراد، وردّ على ذلك بتأكيده أن أميركا لا تريد البقاء في سورية، واتخذ بناءً عليه قراره بالانسحاب، متجاهلًا ملاحظات مستشاريه.
وبحسب مسؤول أميركي، فإن ترامب، بعد أن تلقى تأكيداتٍ من أردوغان بأن بلاده ستتولى مهمة محاربة “داعش”، خاطبه قائلًا: “هي (سورية) لك إذًا، لقد انتهينا”. وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه ترامب قراره الانسحاب من سورية، أعلنت الخارجية الأميركية موافقتها على بيع نظام باتريوت الصاروخي الأميركي لأنقرة بقيمة 3.5 مليارات دولار، من دون أن تربط ذلك بوقف صفقة شراء تركيا منظومة الصواريخ الروسية “أس – 400″، كما كانت تشترط سابقًا. وبعد يومين من إعلان ترامب قرار الانسحاب، أعلن أردوغان أن تركيا ستتولى المعركة ضد تنظيم داعش في سورية، مع سحب الولايات المتحدة قواتها، مؤكدًا أنها ستستهدف، أيضًا، وحدات حماية الشعب الكردية التي تدعمها واشنطن. وقد بدأت تركيا ترسل تعزيزات عسكرية إلى حدودها مع سورية في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2018، على نحوٍ فُهم منه أنه تنفيذ للاتفاق بين الطرفين.

ردات الفعل
أثار قرار ترامب الانسحاب من سورية قلقًا وردّات فعل مستغربة داخل الولايات المتحدة وخارجها. وكان لافتًا الإدانات الصادرة عن قادة الحزب الجمهوري في الكونغرس إلى جانب الديمقراطيين. أما خارجيًا، فأثار قرار ترامب الذي لم يسبقه تنسيقٌ مع الحلفاء الإقليميين والدوليين (ما عدا تركيا) المخاوف من أن الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب تنهج نهجًا

انعزاليًا. وبناءً عليه، لم تعد قوةً يمكن الركون إليها والاعتماد عليها، خصوصًا مع تزايد السياسات التوسعية الروسية والصينية، وهو ما جدّد الأصوات المطالبة أوروبيًا، مثلًا، بضرورة بناء قدراتٍ دفاعيةٍ ذاتية. وقد فصلت رسالة الاستقالة التي بعث بها ماتيس تداعيات قرار الانسحاب على صدقية الولايات المتحدة، وعلى الأمن والاستقرار الدوليَين. وعُدّت هذه الرسالة توبيخًا نادرًا من وزيرٍ كبير في الإدارة الأميركية لرئيسه. ويتلخص أهم المخاوف من قرار الانسحاب في ما يلي:
• سيعزز الانسحاب الأميركي نفوذ روسيا وإيران في سورية. ومع المكاسب التي حققها النظام السوري في الأشهر الأخيرة على الأرض، بدعم منهما، فإن انسحابًا أميركيًا الآن يعني فقدان الولايات المتحدة مكانها على طاولة التسويات السياسية القادمة، وسيخلّ بالتوازنات القائمة على الأرض.
• سيمكّن قرار الانسحاب إيران من تعزيز نفوذها وتوسيعه في المنطقة، على الرغم من أن إدارة ترامب جعلت من احتواء إيران أولويةً قصوى لإستراتيجيتها في المنطقة، ومنها سورية. وسبق لبولتون أن قال، في أيلول/ سبتمبر 2018، إن الولايات المتحدة لن تنسحب من سورية، إلا إذا انسحبت القوات الإيرانية والمليشيات المرتبطة بها. ولعل هذا أحد أهم أسباب معارضة بولتون وبومبيو قرار ترامب، وكلاهما من صقور الإدارة، عندما يتعلق الأمر بإيران. وقد أعلن مسؤول في البيت الأبيض أنّ واشنطن ستستمر في استخدام عناصر القوة الأخرى مع إيران، بما في ذلك العقوبات الاقتصادية والضغط الدبلوماسي، غير أن من المشكوك فيه أن تنجح تلك العناصر وحدها في تحجيم نفوذ إيران المتنامي في المنطقة.
• يخشى المقاتلون الأكراد، وأنصارهم في واشنطن، مثل ماكجورك، أنّ انسحابًا أميركيًا سيعني سحقهم من جانب تركيا. وبحسب مسؤولٍ في إدارة ترامب، فإن ماكجورك حاول إقناع كبار المسؤولين في إدارة ترامب بالسماح للمقاتلين الأكراد بالتواصل مع نظام الأسد، في محاولة للتوصل إلى اتفاق يحميهم من عملية عسكرية تركية، إلا أن جهوده، على ما يبدو، لم تحقق نجاحًا يُذكر، وهو ما دعاه إلى تقديم موعد تقاعده إلى آخر شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري. وقد اعتبر الأكراد قرار ترامب “طعنة في الظهر”.
• لحقت بتنظيم داعش هزائم كبيرة، وتمت استعادة معظم الأراضي السورية التي كان يسيطر عليها، بحيث إنه لم يعد يسيطر إلا على 1% من مساحة الأراضي التي كان يسيطر عليها

سابقًا، إلا أن هذا لا يعني أن التنظيم انتهى كليًا في سورية، أو حتى العراق. وبحسب تقديرات التحالف، فإنه لا يزال هناك نحو ألفي مقاتل من “داعش” في بلدة هجين السورية، في محافظة دير الزور، ويمكن أن يصل الرقم إلى ثمانية آلاف مقاتل، إذا تم احتساب المقاتلين المختبئين في الصحارى الواقعة جنوب نهر الفرات. بل إن تقرير المفتش العام لوزارة الدفاع الأميركية يقدّر عدد مقاتلي التنظيم في سورية والعراق بنحو ثلاثين ألف مقاتل. وبحسب تقديرات الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، فإن الولايات المتحدة في حاجة إلى تدريب قوات محلية يراوح عددها بين خمسة وثلاثين ألف وأربعين ألف، في شمال شرق سورية، للحفاظ على الأمن على المدى الطويل ولمنع “داعش” من استعادة ما خسره من أراضٍ. ولم يتم تدريب إلا نحو 20% فقط من هذا العدد. وهو ما حدا بعدد كبير من العسكريين والسياسيين إلى التحذير من تداعيات قرار ترامب.

خلاصة
اتُّخذ قرار الانسحاب من سورية، وأصبح نهائيًا الآن، إلا أن هذا لا يعني أنه سينفَّذ على الفور؛ فتحقيق ذلك سيتطلب أسابيع، إن لم يكن شهورًا. وربما تلجأ المؤسسة العسكرية إلى إبطاء وتيرة الانسحاب قدر الإمكان، وهي لن تعدم الحجج والمسوغات لذلك، على الرغم من إصرار الرئيس على إتمامه في وقتٍ سريع نسبيًا. وتدرس وزارة الدفاع الآن خياراتٍ بديلةً لوجودها المباشر على الأرض السورية؛ فإضافة إلى الضربات الجوية التي ستستمر، فإن ثمّة حديثًا عن تشكيل فرق كوماندوز، تتمركز على الجانب الآخر من الحدود، تقوم بعمليات خاصة، كلما اقتضى الأمر، وهو ما أشار إليه ترامب خلال زيارته السرية الخاطفة للعراق. ويوجد في العراق نحو خمسة آلاف جندي أميركي، غير أن هذا كله لن يكون قادرًا على تعويض الغياب الأميركي الفعلي عن الأرض، خصوصا إذا احتدم التنافس بين القوى الساعية إلى ملء الفراغ.
باختصار، يُعدّ قرار ترامب في سورية تعبيرًا آخر عن الفوضى التي تثيرها إستراتيجيته للأمن القومي المنطلقة من شعار حملته الانتخابية “أميركا أولًا”؛ إذ أثبت قراره في سورية، والآخر المنتظر في أفغانستان، حجم الهوة بين فهم ترامب الشخصي لهذه الإستراتيجية وفهم “المؤسسة” لها. ويمكن القول إن ترامب يبدو كمن لم يقرأ إستراتيجية إدارته ذاتها للأمن القومي، إذ يبقى اهتمامه منصبًّا على الحفاظ على قاعدة دعمه الشعبية التي تزداد أهميتها بالنسبة إليه كلما زادت المشكلات والتحديات القانونية والسياسية التي تواجهه.

المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات