الحراك العسكري العراقي.. رؤى وملاحظات

الحراك العسكري العراقي.. رؤى وملاحظات

د.هدى النعيمي

يبدو العراق اليوم اكثر من أي يوم مضى عالقاً في حلقة مفرغة من الاستعداء الطائفي والقومي، الذي يتمثل في هشاشة نسيجه الوطني والسياسي والاجتماعي، اذ تشهد البلاد صداماً وجدلاً واسعاً يتعلق بالهوية الوطنية، وقد يدفع الى احتراب اهلي، يتكأ على التاريخ؛ لتفسير صراعات المصلحة الاقليمية والدولية وتبريرها ، كأن يصف رئيس الوزراء المنتهية ولايته ما يحدث في الانبار بأنها حرب بين معسكرين: “الحسين و يزيد”.

سياسة المالكي مزيج من الفشل والفردية

تسببت العملية السياسية في العراق في تعميق الاختلافات، ما عظم النقائض، ودفع الى الصدام السياسي والمجتمعي، متخلية عن اهم مهامها وواجباتها في فرض الترتيبات، والأحكام والقوانين اللازمة، للحفاظ على الامن والاستقرار في المجتمع، وتنظيم حياة الأفراد، وتعزيز الديمقراطية، وتحقيق الرفاه والمساواة والعدالة. ومن هنا فان الكثير من القرارات الحكومية اضحت موضع نقاش، وبدت مغلفة بالمصلحية، وتؤطرها روح الانتقام، بقصد فرض واقع لا يستند الى الشراكة المجتمعية والوحدة الوطنية، ويعتمد الاجبار والفرض، عبر آليات قانونية وعسكرية قسرية.

ومن المنطقي، أن يعود حديث الميليشيات في العراق إلى التداول ثانية، مع نشوب الحراك العسكري في المحافظات المنتفضة منذ 10 يونيو/ حزيران 2014. وبعد دعوة المرجع الشيعي الاعلى علي السيستاني التطوع لمقاتلة  “الارهابيين”، حيث اظهر الكثير من الرجال والنساء استجابة لهذه الفتوى. ومع احتلال العراق؛ أُريد للمذاهب والمقدسات، ان تؤثر في الشأن السياسي وفي المزاج الجمعي، لتتحول معهما الممارسة السياسية الفاشلة إلى القبول، كونها تتحرك بوحي الايمان والاعتقاد، دون ان يخالطها منافس، هدفها سد ثغرات الحكومة والقائمين عليها، وإعمال الاكراه والاجبار على الاخر.

وهنا نؤشر الى غض النظر الحكومي عن ممارسات الميليشيات الشيعية، التي تسببت وما تزال بقتل الاف العراقيين وتهجيرهم ، وتحديداً ابان الحرب الاهلية، التي اندلعت بين الاعوام 2006-2008، دون ان تصنف كجماعات ارهابية، بل ان الكثير من مقاتليها تم دمجهم في المؤسسات الامنية والعسكرية. في مقابل القاعدة وتوابعها، التي جرى التركيز على عملياتها، وبذلت الجهود اللوجستية والمالية والعسكرية وبالتعاون مع الامريكيين لمحاربتها من مدخل “مكافحة الارهاب”.

وقام رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي، بدمج ميليشيات شيعية في المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية؛ لتشكيل ميليشيات جديدة، أو منشقة عن تلك الميليشيات الرئيسة؛ مثل: “عصائب أهل الحق”، و”حزب الله العراقي”، وميليشيات عديدة أخرى. وتجد هذه الميليشيات الصغيرة ملاذاً في جيش “المتطوعين”، إلى جانب عشرات الآلاف من شيعة عاطلين عن العمل من ذوي الأصول الطبقية المتدنية بتحصيل علمي بسيط يتم التلاعب بهم طائفيا لقتال السنة، ميليشيات مشابهة لميليشيات “الشبيحة” التي سماها نظام بشار “جيش الدفاع الوطني”، وهو ما سيشعل حربا أهلية في محتملة في العراق قد تمتد لسنوات طويلة.

وبسبب ما تقدم عانى الشارع العراقي الممارسات الطائفية للميليشيات والجماعات المسلحة، ولم يكن بمقدوره دفع الحكومات المتعاقبة الى اتخاذ اجراءات حازمة وناجعة بحق اعضاء هذه الميليشيات ممن يمارسون القتل والتهجير علناً، بل أيضًا لأنّ اغفال العقاب في ظل أزمة سياسية ومجتمعية حادة ترافقها مواجهات عسكرية، يعني تعميق الصراع واستمراره والقضاء على فرص حله سياسيًا.

كمل ما تقدم التساهل الامريكي حيال سياسة رئيس الوزراء المنتهية نوري المالكي القمعية، عند استخدمه القوة لفض الاعتصامات السلمية، ونذكر هنا ما حدث بمحافظة كركوك في 23 نيسان/ أبريل 2013، اذ تصدت قوات الأمن للمتظاهرين في مناسبتين: اولهما في الفلوجة في 25 كانون الثاني/ يناير2014، وثانيهما في الموصل في 8 آذار/ مارس 2014 ما أدى إلى سقوط ضحايا، وقد وصفت التظاهرات السلمية بانها تمرد يقوده “الصداميون والبعثيون والإرهابيون”.

وافضى الشحن الطائفي والفشل الحكومي في الحفاظ على الامن والاستقرار في المجتمع وتنظيم حياة الأفراد، وتعزيز الديمقراطية وتحقيق الرفاه والمساواة والعدالة الى نتيجة مؤداها: تماس بين الخطوط الطائفية، ومواجهة عسكرية انتهت خلال ساعات قليلة هرب بعدها أكثر من 52 ألف عنصر أمني حكومي، تاركين اسلحتهم غنيمة للمقاتلين، وصارت المدينة خارج نطاق سيطرة الحكومة المركزية والمحلية، لتتوالى خسائر القوات المسلحة في محافظات اخرى مثل صلاح الدين والانبار وديالى وكركوك.

وفي معادلة العلاقات مع الولايات المتحدة يبدو السنّة اكثر انكشافاً، وان الدول العربية لا توفر لهم غطاء ولا دعماً، في مقابل ما يحصل عليه خصومهم من دعم إيراني وأميركي، بيد ان موقفاً مشتركاً جمع الكرد بالسنّة لرفض التفرد بالسلطة، واعادة تأهيل العملية السياسية على نحو يضمن التوازن.

الولايات المتحدة الامريكية تبدو اليوم في مشهد التردد حيال ظهور “داعش” في الحراك العسكري العراقي، وبدأت تدرك أن نوري المالكي ومن ورائه طهران، هما سبب المشكلة، لخص هذه الرؤية الأميركية ديفيد بترايوس الذي تولى قيادة القوات الأميركية في العراق بين 2006 و2008، اذ حذر من تحويل سلاح الجو الأميركي في هذه الظروف، إلى سلاح بجانب الشيعة ضد السنّة في العراق.

وإذا كانت سياسات إيران في دعم حكومتي بغداد ودمشق تستند في احد جوانبها الى اعتبارات الهوية الطائفية، فإن الخيار المذهبي يمثل أحد أهم المرتكزات الآيديولوجية لـ”الدولة الإسلامية في العراق والشام”، الذي يعتمد على مستوى مرتفع من التحشيد الطائفي؛ لضمان عمليات الاستقطاب والتعبئة والتجنيد لعناصره وأنصاره. ويمكن القول إنّ احداث الحراك العسكري، حركت نشاطاً مليشياوياً في بغداد، وعلى نقاط التماس الطائفي، لتعود ظاهرة القتل على الهوية من جديد.

 

ايران …ومعضلة الحراك

أما ايران التي اقلقها هذا الحراك العسكري؛ فأعلنت عن دعمها لحكومة نوري المالكي ضد “الارهابيين”، مؤكدة انها لن تدخر جهداً في الحفاظ على المعادلة السياسية التي قامت بعد الاحتلال على شيعية الحكومة، وهي اليوم أمام خيار كانت دائماً تتفاداه بكل الوسائل، وهو التدخل العسكري المباشر والمعلن في العراق وسوريا معاً، إذ ترتكز السياسة الإيرانية في توسيع دورها ونفوذها في المنطقة، على الشيعة العرب المتحالفين معها، وذلك إدراكاً منها لخطورة تدخل مباشر في البلدان العربية على خلفية حساسيات تاريخية وقومية ومذهبية حاضرة لدى الإيرانيين، كما لدى الطرف الآخر.

ولهذا رفضت طهران البحث في الخلاف على منصب رئاسة الوزراء في العراق، ما لم تحسم الأوضاع في المناطق المنتفضة، واعادة الاوضاع الى ما قبل 10 حزيران /يونيو 2014 والتحذير من أي خطوة انفصالية سيعلنها الكرد.

ولان ايران تنظر الى ما حدث ليس بوصفه تقليصا لسلطة الحكومة العراقية الموالية لها فحسب، بل انه محاولة لتحجيم النفوذ الإيراني في هذا البلد، وهو ما لن تقبل به في وقت تخوض مفاوضات صعبة مع الغرب تتعلق بملفها النووي. ولهذا فان مشاركتها الميدانية الايرانية في الأحداث الدائرة في العراق، توحي بأن طهران اختارت طريق التشدد حيال الحفاظ على مصالحها.

فالغارات الجوية التي شُنت في الأيام الماضية في العراق ضد المحافظات المنتفضة دعماً للقوات الحكومية، نفذتها طائرات إيرانية يقودها طيارون إيرانيون، فضلاً عن تقديم فريق من القوة الجيوفيزيائية الايرانية الدعم والمساندة للقوات الحكومية؛ تحسباً من فقدان السيطرة على بغداد وانهيار دفاعاتها.

والتنسيق مع المطارات العراقية في توجيه طائرات السيخوي والطائرات المسيرة في طلعاتها القتالية لقصف المحافظات المنتفضة.

بعد سقوط الموصل برزت قوة “داعش” مع العشائر السنية الثائرة، والجيش العراقي السابق، والتي يجري توظيفها شماعة او منصة لشن حرب اهلية، تحرق الاخضر واليابس، وستمتد تأثيراتها للمنطقة العربية بلا استثناء، معززة شعور الكراهية والاستعداء الطائفي، الذي اضحى اشد وضوحاً هذه الايام، بعد فتوى المرجعية الشيعية، التطوع لمقاتلة “الارهاب”، الذي تعدّه الميليشيات الشيعية، مسوغاً شرعياً لقتل اهل السنة.

وكأن هذا الحراك العسكري قد اختزل في هذا التنظيم, وكأن الآلاف الذين كانوا محتشدين في الساحات والميادين منذ أكثر من عام كانوا من “الدواعش”، وجاء الصدع الطائفي بين المملكة العربية السعودية وايران، ليعبر عن صراع جيواستراتيجي في المنطقة، حيث يتنافس الطرفان على السيادة في الخليج العربي وبلاد الشام.

فالحرب في سوريا، التي انبثقت كثورة ضد النظام، سرعان ما امتزج فيها الوطني مع الطائفي، لتتحول في بعض مواجهاتها الى جزءً من النزاع السنّي- الشيعي في الإقليم. امتد تأثيرها ليصل الى العراق ثم الى المنطقة برمتها. وفي الوقت ذاته جرى توظيف ممارسات “داعش” الارهابية، لإعادة تأهيل نظام الاسد، اقليمياً ودولياً، وتحقيق المقبولية له، رغم ما قام به النظام من جرائم وصف العديد منها بانها جرائم ضد الانسانية.

وهو امر ينطبق ايضاً على ما يحدث في العراق، فمع تغيّر الموازين العسكرية وانهيار الجيش، اعلن المالكي تمسكه بالولاية الثالثة مستغلاً وجود “داعش” وضمان دعمه لمحاربة المسلحين، ومحاولة التملص من المعارضة الكبيرة التي كانت تواجه في داخل العراق وخارجه؛ وعليه دعا في يوم 10/6/2014 مجلس النواب لإعلان حالة الطوارئ في البلاد، بعد أن قررت حكومته إعلان حالة التأهب القصوى، وحشد الطاقات؛ لمواجهة الانهيار الأمني في محافظتي الموصل وصلاح الدين.

الاستنفار الاقليمي والدولي

على الصعيد الإقليمي، يشكل الحراك العسكري “أولوية” قصوى، بالنظر لخطورة التداعيات المترتبة على انفلات الامن في العراق وتصدع البلاد، واحتمال تفككها. إذ يتصدر قائمة الأولويات بالنسبة إلى السعوديّة ودول الخليج الاخرى، أما تركيا فتبدو منشغلة بقضاياها الداخلية، وسياساتها تتسم بالسلبية والدفاعية، وهو ما يجعلها تركن الى اعتماد سياسية ضبابية، وبرغم أن صناع القرار الأتراك يكررون تصريحاتهم عن رغبتهم بأن يظل العراق موحدا، إلا أن أيمانهم يظل ضعيفا فيما يتعلق بهذا الأمر. اما الاردن فقد رفع اقصى درجات الحذر والحيطة، وارسل تعزيزات عسكرية الى الحدود مع العراق، بعد سيطرة المسلحين على معبر “طريبيل” الفاصل بين البلدين، وانسحاب القوات الحكومية من هناك، ولجوء قادة عراقيين كبار إلى المملكة.

ومن المرجح أيضًا أن يحاول رئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي عقد “المصالحات” الدائمة أو المؤقتة في مناطق متعددة، والإفراج عن عدد من المعتقلين، ما يوحي أنّ لحظةً سياسيةً جديدة قد بدأت من جهة، ولكن من دون التأثير في مسألة استمراره في الحكم من جهة اخرى. حيث اصدر عفوا لكل ابناء العشائر والشخصيات المتورطة بعمل ضد الدولة باستثناء من تلطخت ايديهم بالدماء على حد قوله.

وهو يطمح ايضاً في دعم عربي واقليمي ودولي، وفتح صفحة جديدة معه، والدخول في تنسيق مشترك لمكافحة ما يسميه “الإرهاب”. وعلى الصعيد الميدانيّ، فان القتال بين شد وجذب، وهناك الالاف من المقاتلين المعارضين لنظام المالكي ممن تصفهم الحكومة بالإرهابيين، خلفهم “حاضنة اجتماعية” ضاقت ذرعاً بسياسات الحكومة، وانتهاكاتها الواسعة لحقوق الإنسان، تؤطرها عملية سياسية متعثرة وفاسدة، تفتقر الى المعايير الاخلاقية.

ومن المحتمل ان يبرز خطر انزلاق دول إقليمية في أدوار عسكرية مباشرة في العراق، الأمر الذي يُنذر بتعقيد النزاع، وتزايد احتمالات توسعه، خصوصاً ان ايران انخرطت في التصدي للحراك العسكري العراقي كقوة عسكرية نيابة عن الشيعة، قد تدفع قوة اقليمية الى التصرف بذات النهج ما سيقوض فرص العيش المشترك.