عن الجدل الدائر حول مئوية السادات

عن الجدل الدائر حول مئوية السادات

دار الكثير من الجدل في الآونة الأخيرة، سواء داخل مصر أو على امتداد الوطن العربي وكذلك شارك فيه عرب المهجر، بشأن الذكرى المئوية الأولى لميلاد الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، وهو ما بدا الأمر معه أحياناً كأنه إحياء لعداوات قديمة، ولكنها لم تمت، كما بدا أحياناً أخرى أنه عملية “أخذ بالثأر” من جانب تجاه الآخر والعكس، وبما تجاوز ما هو مفترض أن يقال أو يطرح أو يناقش عادة في مثل هذه المناسبات من السعي، بعد ما يقترب من أربعة عقود على رحيل الرئيس المصري الراحل عن عالمنا، إلى بلورة تقييم موضوعي، بعيداً من الانحيازات الأيديولوجية المسبقة، لما قدمه أنور السادات، خاصة خلال رئاسته لمصر ما بين تشرين الأول (أكتوبر) 1970 وتشرين الأول 1981، سواء لبلده مصر، فيما يتعلق بقضايا الداخل والخارج، أو لأمته العربية أو لإفريقيا أو للعالم الإسلامي أو للمشهد الدولي ككل.

وبدايةً يتعين القول إن الرئيس المصري الراحل أنور السادات كانت له بصمته في تاريخ وطنه ومنطقة الشرق الأوسط والقارة الإفريقية وتاريخ العلاقات الدولية في مجملها، بما يستحق معه بالتأكيد إحياء ذكرى مئوية ميلاده بالقدر الذي يتناسب مع الأدوار الهامة التي لعبها في مختلف الدوائر التي كان فاعلاً ومؤثراً فيها. كذلك فإن أنصار الرئيس المصري الراحل والمعجبين بسياساته والمؤيدين لخياراته من حقهم الاحتفال بمئوية ميلاده، بالقدر نفسه الذي مارس أنصار الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر والمؤيدون له والمنحازون لخياراته وتوجهاته حقهم الطبيعي في الاحتفال بمئوية ميلاده في 15 كانون الثاني (يناير) من عام 2018، وذلك إذا قارنا على مستوى وطني مصري أو قومي عربي، وبالقدر نفسه الذي احتفى به أنصار وأتباع والمعجبون بالمفكر والفيلسوف الكبير كارل ماركس بالمئوية الثانية لميلاده، أيضاً في عام 2018، إذا انتقلنا بالمقارنة إلى المستوى العالمي.

وإذا انتقلنا من الحديث عن الشكل إلى المضمون، نشير إلى أن التاريخ سوف يظل يذكر للرئيس المصري الراحل أنور السادات على وجه الخصوص قرارين في سياق ما يعرف في أدبيات التاريخ الحديث والمعاصر لمنطقة الشرق الأوسط بـ “الصراع العربي الإسرائيلي”، وسوف يذكر له القدرة على اتخاذ هذين القرارين واختيار التوقيت الملائم لاتخاذهما ثم الشجاعة في تحمل المسؤولية كاملة عن القرارين. كان القرار الأول هو المتعلق بشن الحرب في 6 تشرين الأول 1973، وذلك بالتنسيق مع الجانب السوري في ذلك الوقت، أما القرار الثاني فهو ذلك المتعلق بالذهاب إلى القدس في تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 بهدف تحريك ما يعرف في أدبيات التاريخ الحديث والمعاصر لمنطقة الشرق الأوسط بـ “عملية السلام” لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي. قد يتفق أي إنسان أو يختلف في تقييم كل من القرارين وتوقيته ونتائجه وآثاره، على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد، وكذلك في تقدير دور الرئيس المصري الراحل بشأن كل منهما، ولكن يبقى نسبة الفضل لصاحبه في الحالتين أمراً ضرورياً مهماً.

وحتى خارج سياق هذين القرارين، فيبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه لمجال شاسع من المواقف والقرارات والخيارات والسياسات التي تبناها الرئيس السادات أو انحاز لها، والتي كانت ولا تزال وسوف تظل إلى فترة طويلة قادمة محلاً لنقاش وجدل، هادئ في بعض الأحيان ومحتد في أحيان أخرى، ما بين مؤيد ومعارض، ومتفهم ومتحفظ، سواء في مجال تطور النظام السياسي الداخلي في مصر، أو تغيير دفة السياسات الاقتصادية والاجتماعية، أو في توجيه دفة وإدارة علاقات مصر الخارجية مع دوائر تحركها الخارجية، الإقليمية والدولية، سواء التقليدية أو المستحدثة خلال فترة حكمه لمصر.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، سيبقى الحديث مستمراً، بل ومستعراً، عن حقيقة وجوهر ونوايا التغيير الذي أدخله خلال سنوات حكمه على طبيعة وشكل وهيكل وبنية النظام السياسي المصري، خاصة الانتقال من مرحلة “التنظيم السياسي الوحيد”، وهو الذي تبلور في آخر مرحلة منه خلال الحقبة الناصرية في “الاتحاد الاشتراكي العربي” بعد مرحلتي “هيئة التحرير” و”الاتحاد القومي”، إلى مرحلة جديدة من التعددية الحزبية استمرت وتواصلت وتطورت، ولو بأشكال وأطوار مختلفة ومتعددة ومتباينة فيما بينها، حتى هذه اللحظة التي نعيشها الآن.

فهل من الحقيقي أن الدوافع لدى الرئيس الراحل كانت هي مجردة الرغبة الصادقة في الانتقال بمصر ومجتمعها إلى مرحلة بدايات تطبيق النموذج الليبرالي للديموقراطية السياسية التعددية، ومن ثم إدخال تطوير نوعي، بقصد إيجابي وبناء، على النظام السياسي المصري، كما يدفع بذلك ويؤكد عليه أنصاره ومؤيدوه؟ أم كانت المسألة، كما رأى البعض من منتقديه وقتها ولا يزال يرى البعض منهم حتى الآن، مجرد جزء من صفقة أعم وأشمل وأكبر مع الغرب، خاصة مع الولايات المتحدة الأميركية، تضمنت، بجانب إدخال تعددية سياسية “مقيدة” و”محكومة”، تبني سياسة “الانفتاح الاقتصادي”، والابتعاد عن المعسكر السوفياتي والتقارب مع المعسكر الغربي، وكذلك أخيراً، وليس آخراً، التوصل إلى تسوية سلمية ثنائية مع الجانب الإسرائيلي؟

مسألة أخرى كانت ولا تزال وسوف تظل إلى وقت طويل قادم محل نقاش وجدل بشأن سياسات الرئيس المصري الراحل هي سياسة “الانفتاح الاقتصادي” التي أعلن رسمياً تبنيها في أعقاب حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وتحديداً في بدايات عام 1974. فلقد كان الدافع للرئيس الراحل لاتخاذ مثل هذا القرار من وجهة نظر أنصاره ومؤيديه هو الخروج بالاقتصاد المصري من مرحلة “عنق الزجاجة”، أي مرحلة جمود وركود تلت هزيمة حرب 1967، وفتح الباب أمام تدفقات للاستثمارات العربية والأجنبية إلى مصر، ومعها عملية نقل للمعرفة والتكنولوجيا للاقتصاد والمجتمع المصري بما يساهم أيضاً في تحديث وسائل الإدارة، بما كان من المفترض معه تنشيط الاقتصاد المصري، كما أنها وفرت للمواطن المصري العادي إمكانية الحصول على سلع وخدمات لم تكن متوفرة في السوق المحلي.

أما منتقدو هذه السياسة، وهم يأتون من خلفيات مختلفة ولهم منطلقات متنوعة، فمنهم من رأى أنه حتى مع افتراض النوايا الحسنة التي يسوقها أنصار الرئيس الراحل في سياق الدفاع عن تبنيه سياسة “الانفتاح الاقتصادي”، فإن ما حدث على أرض الواقع كان مختلفاً: فالانفتاح الاقتصادي أدى إلى فتح باب الاستيراد على مصراعيه، ومن ثم تزايد العجز التجاري، وغالبية الاستثمارات لم تذهب إلى قطاعات إنتاجية مثل الزراعة والصناعة، بل ذهبت إما إلى قطاعات استهلاكية سريعة العائد ووفيرة الربح دون إضافة تذكر للاقتصاد الوطني، أو إلى قطاعي العقارات والسياحة المعرضين بطبيعتهما للتأثر سريعاً بتقبات أسواق خارجية. كما أرجع بعض هؤلاء تعاظم النزعة الاستهلاكية في المجتمع المصري من جهة وتراجع الصناعة الوطنية من جهة أخرى إلى سياسة “الانفتاح الاقتصادي” تلك.

وإذا انتقلنا من قضايا الداخل المصري إلى مسائل العلاقات الدولية، نرى أن من أهم الموضوعات التي أثيرت بشأن الرئيس المصري الراحل أنور السادات هو الدور الذي لعبه ضمن الصورة الأكبر للحرب الباردة في زمن حكمه، والتي كانت تدور بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والمعسكر الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي السابق. فبينما يرى أنصار الرئيس الراحل ومؤيدوه أنه كان صاحب رؤية استراتيجية ثاقبة وعميقة وبعيدة المدى توقع من خلالها مبكراً سقوط وانهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة السوفياتية في أوروبا الشرقية بأسرها في ذلك الوقت، ولذا نقل نمط تحالف مصر إلى المعسكر الغربي في توقيت مناسب، فإن هناك من منتقدي مواقفه في هذا السياق من يري أن الرئيس المصري الراحل قرر، لأسباب تتعلق بمواقف أيديولوجية له معادية لليسار من جهة وفي ضوء تحالفات سابقة لديه مع قوى إقليمية ودولية مناهضة للنزعات اليسارية من جهة أخرى، أن ينحاز بإرادته وبشكل فاعل إلى المعسكر الغربي في مواجهاته إبان الحرب الباردة مع المعسكر السوفياتي، وأنه في هذا المدى ذهب إلى حد المشاركة في عمليات عسكرية على الأرض فيما بدا أنه مواجهات مع الاتحاد السوفياتي وحلفائه، كما كان الحال مثلاً في إقليم “شابا” فيما كان يعرف بزائير وقتها. كما يرى هؤلاء المنتقدون أن هذه السياسات أضرت بمصر آنذاك من حيث تقليص الأوراق المتاحة لديها على الساحة الدولية بدون مبررات كافية، كما أنها أتت على إرث عقد ونصف من العلاقات المصرية الوطيدة مع الاتحاد السوفياتي السابق، والتي ساهمت في تسليح القوات المسلحة المصرية من جهة وفي التنمية الاقتصادية وتطوير البنية التحتية من جهة أخرى. ويخلص هؤلاء إلى أن الرئيس المصري الراحل أسهم فعلياً بدرجة ما من خلال سياساته تلك في انتهاء الحرب الباردة باختفاء الاتحاد السوفياتي وكتلته من الوجود، وهي نتيجة مثلت في المجمل خسارة لبلدان الجنوب.

ولم يكن كل ما تقدم سوى أمثلة معدودة ومحددة على مواقف وقرارات وسياسات وخيارات للرئيس المصري الراحل أنور السادات كانت وما زالت وسوف تظل في المستقبل القريب والبعيد تثير تساؤلات من جهة ومشاحنات بين أنصاره وخصومه من جهة أخرى، خصوصاً أن الأمر لا يتعلق بمجرد أحاديث مجردة أو جدل نظري يحلق في الآفاق ومنقطع الصلة بالواقع، بل بتحولات جرت على الأرض وواقع تغير وأحداث دارت أمام أعين البشر أو خلف الكواليس، وأثرت في حياة الشعب المصري والأمة العربية وأقاليم الشرق الأوسط وإفريقيا والعالم الإسلامي والبحر المتوسط، بل والعالم بأسره، في مرحلة تاريخية مهمة، بل ولا تزال تؤثر في هذه الدوائر كافة حتى اليوم، ولا تزال الكثير من تداعياتها تعيش معنا ومن المتوقع أن تظل كذلك لفترات زمنية قادمة.