التضخم والدولار يقيدانه.. اقتصاد السودان لا يزال تحت الصدمة

التضخم والدولار يقيدانه.. اقتصاد السودان لا يزال تحت الصدمة

الملمح الطاغي في الاقتصاد السوداني هو ارتفاع معدلات التضخم وعدم استقرار صرف الدولار، وهو تشخيص بات مبتذلا على قارعة الشارع بين عوام الناس، من شدة ما عاناه السودانيون.
ولئن كان انفصال دولة جنوب السودان في يوليو/تموز 2011 شكل مركز الصدمة للاقتصاد، فإن منطق الأشياء كان يفرض التعافي كلما ابتعدنا عن هذا المركز، لكن نحو سبع سنوات عجاف تفاقمت فيها الأزمة كانت هي الحصيلة، بحسب ما يقول الخبير الاقتصادي محمد الناير.

ويقول الناير للجزيرة نت إن الخلل في إدارة الشأن الاقتصادي الذي ظهر جليا في موازنة 2018، جعل سعر الصرف ومعدل التضخم من أهم التحديات التي واجهت الاقتصاد السوداني بعد الانفصال.

وكان جنوب السودان قد استأثر لدى انفصاله عن السودان بحوالي 75% من الإنتاج النفطي الذي وصل في إحدى السنوات إلى خمسمئة ألف برميل يوميا.

ويلوم الناير الطاقم الذي أدار شأن الاقتصاد في البلاد عقب الانفصال، لأنه لم يتمكن من هيكلة الاقتصاد بشكل سليم، فالسودان كان يعتمد على النفط بنسبة 90% وهو ما شكل نحو 50% من إيرادات الدولة من النقد الأجنبي.

واقع الاستثمار
وعلى الرغم من الموارد الهائلة للسودان غير المستغلة التي تشكل عامل جذب للاستثمارات الأجنبية، فإن ثمة عوائق تجعل من الراغبين في جلب أموالهم للبلاد مغامرين بالدرجة الأولى.

ورغم ذلك، هناك بعض المستثمرين الذين تشبعوا بهذه الروح على أمل حدوث انفراجة في الأداء الاقتصادي للظفر بفوائد وأرباح أكثر.

ويقول المستثمر السوري عامر زيني صاحب سلسلة مطاعم “فونديور” بالسودان للجزيرة نت إن تذبذب سعر صرف الدولار هو أكثر تحدٍ يواجهه، مما يؤثر على تحديد تكلفة المنتج والخدمة، “فمن الصعب أن تتنبأ كم سيكون سعر الصرف غدا”.

ويشير إلى أنه عندما بدأ استثماراته في السودان عام 2016 كان سعر صرف الدولار في حدود 14 جنيها، في حين يبلغ اليوم نحو 55 جنيها.

وتفاقم عدم استقرار صرف العملات الصعبة بشكل لافت خلال عام 2018 ولأول مرة يتحول الجنيه السوداني نفسه إلى سلعة أسوة بالدولار، وذلك إثر صعوبات قابلها السودانيون في الحصول على مدخراتهم من البنوك وأجهزة الصرف الآلي بسبب شح النقود.

لكن عامر زيني يبدو متفائلا، وهو يقول إن السودان بلد استثماري واعد من حيث الموارد التي يتمتع بها، بالرغم من المشكلات البيروقراطية التي يمكن أن تكون موجودة في أي دولة أخرى.

السنوات السمان
حقبة ما قبيل اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل في 2005 والأعوام التي أعقبتها، كانت بمثابة السنوات السمان للاقتصاد السوداني، حيث استقر سعر صرف الدولار في حدود 2.5 جنيه.

وبحسب محمد الناير، فإن السودان -قبل انفصال دولة جنوب السودان- كان الأول أفريقيا والثاني عربيا من حيث حجم تدفقات الاستثمار الأجنبي، بسبب الاستقرار السياسي والاقتصادي، وإن لم توجه عائدات النفط بشكل صحيح.

ويقرّ بأن الاستثمارات تراجعت حاليا بشكل كبير، وأن ما سيعيد تدفقها هو استقرار سعر صرف الدولار وخفض معدل التضخم إلى رقم أحادي.

ويقول إن ذلك ممكن في غضون سنتين إلى ثلاث سنوات، إذا ما اتبعت سياسات صحيحة وتدخلت دول صديقة بضخ الاستثمارات.

وارتفع التضخم في عام 2018 بشكل قياسي، وفاق في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 نسبة 69%، بينما تستهدف موازنة عام 2019 نسبة تضخم 27%.

ويعتقد الخبير الاقتصادي الناير أن رفع الحظر الاقتصادي الأميركي “نظريا” عن السودان من التحديات التي تواجه الاقتصاد في 2019، وأوضح أن مكتب مراقبة الأصول “أوفاك” أتاح للبنوك السودانية التحويلات الدولية، لكن على أرض الواقع فإن الحظر ما زال ساريا لبقاء السودان في قائمة الدول الراعية لإرهاب.

وتظل الديون أيضا تحديا وفق الخبير الاقتصادي، إذا إنها تجاوزت خمسين مليار دولار (أصل الدين 17 مليارا والباقي فوائد)، إلى جانب عامل الاستقرار الأمني والسياسي.

نفط الجنوب
عمل السودان بجد خلال عام 2018 لبلوغ شهر فبراير/شباط المقبل، وقد عاد نفط دولة جنوب السودان إلى كامل إنتاجه حتى تشكل رسوم عبور النفط عبر الأراضي السودانية، داعما الخزانة العامة بالنقد الأجنبي.

وطبقا لاتفاقات سابقة بين البلدين، فإن نصيب الخرطوم من عبور النفط الجنوبي هو 25 دولارا عن كل برميل.

وكان جنوب السودان ينتج قبل اندلاع الحرب نحو 340 ألف برميل يوميا، لكنها تراجعت إلى أقل من 150 ألف برميل بنسبة 60%.

ويشكل النفط طوق نجاة لدولتي السودان وجنوب السودان، بعد التراجع المنفلت للعملة الوطنية “الجنيه” وارتفاع التضخم لحد الجموح خاصة في الدولة الوليدة.

ميزانية 2019
العام الماضي كان قاسيا على السودانيين، فقد شهدت الأسعار خلاله قفزات كبيرة وعادت طوابير الخبز والوقود التي كانت نسيا منسيا على الأقل للأجيال الجديدة، في حين فشلت البنوك لأول مرة في الإيفاء بمدخرات العملاء.

وأسهمت الأزمات في رواج الثقافة الاقتصادية بين الشرائح البسيطة في المجتمع، فلن يكون مدهشا أن يخبرك بائع الحليب بأنه رفع السعر لأن الجنيه انخفض أمام الدولار.

ويبدي النذير إبراهيم الذي يدير بقالة في السوق العربي وسط الخرطوم، خشيته من أن يكون عام 2019 مثل العام الماضي على صعيد ارتفاع التضخم وتراجع قيمة الجنيه.

ويقول إبراهيم “إذا استمر هذا الحال فستتراجع القوى الشرائية بشكل أكبر. أنا خائف من غلق هذه البقالة”.

وأمام البقالة كانت الموظفة هيبات كروم تشتري زيتا، وقالت للجزيرة نت إنها قبل أسبوعين اشترت عبوة لتر واحد بـ80 لكنها اليوم اشترتها بـ95 جنيها، وتؤكد أن الغلاء سيستمر هذا العام.

ويبدو أن موازنة عام 2018 تمسك بخناق موازنة العام الحالي من واقع قول الخبير محمد الناير إن المستهلكين تأثروا في الموازنة السابقة برفع الدولار الجمركي من 6 جنيهات إلى 18 جنيها.

ويحذر الناير من أن موازنة 2019 ستكون كسابقتها ما لم تزل الحكومة الجبايات عن الصادرات غير النفطية وتتبع سياسة واضحة في صادر الذهب وجذب مدخرات المغتربين، متوقعا إحراز نتائج في مدى قصير إذا ما تم اتباع هذه السياسات بحزم.

وبلغت إجمالي الإيرادات المتوقعة في موازنة العام المالي الحالي 162.8 مليار جنيها (3.4 مليارات دولار)، والمصرفات نحو 194.760 مليار جنيه (4.1 مليارات دولار)، وذلك بحساب سعر صرف الدولار المحدد من قبل آلية صناع السوق (الدولار بـ47.5 جنيها).

وقدرت الموازنة الجديدة العجز بنسبة 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 3.7% للعام الماضي، ويتوقع أن تحقق نموا في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.1%.

الجزيرة