الدولة اللبنانية أسيرة الحسابات الصغيرة

الدولة اللبنانية أسيرة الحسابات الصغيرة

كثير من ساسة لبنان لا ينظرون أبعد من مصالح الفئة التى ينتمون إليها. يصرون على ضرورة تشكيل الحكومة التى تأخرت حتى الآن ثمانية أشهر ولا يقبل أى منهم التنازل وإبداء المرونة.

ويؤكدون الاستعداد للتضحية من أجل لبنان، ولكنهم لا يربطون القول بالفعل، والكل مع رابطة العروبة التى تحمى لبنان وتسانده، أما الفعل فهو وفق قاعدة أن مصلحتى الصغيرة أكبر من مصلحة لبنان ككل.

فى بلد كهذا ونخبة سياسية هذه، يصعب أن تنفرج أزماته، وربما يستحيل أن يشهد نقلة فى حياته يحلم بها كل لبنانى، ولكنه يُصدم صباح كل يوم مما يجرى أمامه. الخلاف على تشكيل الحكومة بات محصورا فيمن هذا الذى يمكن توزيره ممثلا لمن يعرفون بالنواب الستة من السنة المحسوبين أو المتحالفين مع حزب الله، على أن يكون مخصوما من حصة الوزراء الذين يمثلون رئيس الدولة.

ومعروف أن هذه المشكلة ظهرت قبل نحو شهرين ونصف الشهر، وقتها كان التشكيل الحكومى مكتملا وأقرب الى الاعتماد الرئاسى، لكن إصرار حزب الله على أن تمثل هذه المجموعة السنية بوزير على الأقل من خارج حصته وحصة رئيس مجلس النواب نبيه برى، شكل عقدة مفاجئة، مازالت مستعصية على الحل، مما أوقف إعلان الحكومة وبات لبنان يدار بواسطة حكومة تسيير أعمال، وفى الأفق مشكلة اعتماد الموازنة. وما دامت الحكومة فى علم الغيب، فالأزمات سوف تتوالى والوضع العام سوف يستمر فى الاهتزاز والارتباك. أحد مظاهر الارتباك المُكلف سياسيا ومعنويا لكل من النخبة السياسية والدولة اللبنانية ككل، حدث بالفعل، وتمثل فى غياب كل القادة العرب، ما عدا رئيسى موريتانيا والصومال، عن المشاركة فى القمة الاقتصادية الرابعة فى بيروت، وهى القمة التى عَوّل عليها لبنان كثيرا لتحقيق عدة أهداف منها تأكيد الدور العربى للبنان، والحصول على دعم عربى اقتصادى وسياسى فى آن واحد، وإنعاش السياحة، وتثبيت حالة الاستقرار الأمنى رغم البيئة الإقليمية المليئة بالتوتر والتحديات، وتثبيت الخيارات السياسية اللبنانية باعتبارها خيارات عربية بالدرجة الأولى. جملة هذه الأهداف ضُربت فى الصميم، لأن قطاعا من النخبة السياسية قرر أن يربك المشهد لاعتبارات حزبية ضيقة، ولكى يوجه رسائل إلى منافسيه السياسيين، بأنه يملك الكثير من الأوراق التى تعيد تشكيل الواقع اللبنانى وفق رؤيته. وهنا طُرحت مشكلتان؛ الأولى إصرار رئيس البرلمان نبيه برى ومن ورائه حزب الله على أن تتم دعوة سوريا للمشاركة فى القمة، باعتبار أنها الآن منتصرة وأن ثمة تسابقا عربيا على العودة إليها، وأيضا لأن لبنان هو الممر لإعمار سوريا. وللالتفاف على قرار الجامعة العربية بتعليق عضوية سوريا طرح الرئيس برى أن تكون هناك اتصالات تمهيدية يتلوها اجتماع تمهيدى لوزراء الخارجية العرب قبل قمة بيروت يتخذ قرارا بإلغاء قرار تعليق العضوية، وبالتالى لا تكون هناك مشكلة حسب رؤيته.

والمشكلة فى هذا الطرح أن قرارا اتخذه القادة العرب يتطلب نسخه من قبل القادة العرب أنفسهم وليس وزراء الخارجية، والذين فى أفضل الأحوال يتفقون على صياغة قرار ما ويتركون حسمه للقادة أنفسهم. وهنا ملاحظتان، أن ثمة تمهلا عربيا واضحا فى مسألة العودة الى دمشق، او عودة دمشق الى النظام العربى ككل ممثلا فى جامعته العربية، والاتصالات التى جرت فى الأسابيع الماضية بين بعض العواصم العربية ودمشق لم يسفر عنها اتجاه عربى عام لإلغاء قرار تعليق العضوية، وبالتالى فإن المسألة تتطلب بعض الوقت، ومن غير المتصور أن تفرض دولة بعينها سواء لبنان او غيرها موقفا محددا على باقى الدول لأنه يحقق مصالح تلك الدولة أو مصالح فريق فيها دون الاعتبار لإرادة الدول الأخرى. والملاحظة الثانية تتعلق بتوازنات لبنان ذاته، وهناك قوى سياسية ليست مع هذا الطرح، وحتى الرئيس عون الذى يرى أهمية الانفتاح على سوريا، فهو يدرك جيدا أن هذا القرار دون وفاق لبنانى داخلى وإجماع عربى فلن يرى النور. أما المشكلة الثانية فهى رفض الرئيس برى مشاركة الوفد الليبى فى القمة الاقتصادية باعتبار أن ليبيا من وجهة نظره مسئولة عن اختفاء الإمام الصدر، وهو الغائب منذ عام 1978 وفى عهد العقيد القذافى الذى تمرد عليه الشعب فى 2011. إذ دون مقدمات طرحت قضية اختفاء الزعيم الشيعى موسى الصدر، باعتبارها قضية لبنان الاولى والتى يجب أن تحدد جدول أعماله ككل، بما فى ذلك التزاماته أمام الجامعة العربية وكل الدول العربية فى آن واحد. ووفقا للمجلس الإسلامى الشيعى الأعلى، وبعد استنكار دعوة ليبيا للمشاركة فى القمة وتحميلها مسئولية عدم معرفة الحقيقة، فإن على الدولة اللبنانية أن تسخّر كل إمكاناتها للضغط على السلطات الليبية لكشف مصير الإمام وأخويه. من ينظر إلى تلك الواقعة يتأكد له أن الأولوية لبعض الفئات اللبنانية ليست للدولة اللبنانية بقدر ما هى لمصالح تلك الفئة، وإنها على استعداد لعمل أى شىء لتثبيت تلك المصالح الخاصة على أى شىء آخر. ولما كانت قضية اختفاء الإمام الصدر ذات جذور عقدية ومرتبطة بمشاعر متأججة لدى الطائفة الشيعية، فكان من اليسير أن يتحرك البعض مدفوعين بتلك المشاعر وبالتوجيهات الضمنية لإحراق علم ليبيا ولمنع وفدها من دخول لبنان رغم حصول الوفد على التأشيرات اللازمة، فضلا عن كونه مشاركا فى اجتماع عربى بالأساس وعلى الدولة المضيفة أن تؤمن الوفود وتمنع عنهم أى خطر أو تهديد، ناهيك عن هذا الوفد والذى يمثل حكومة الوفاق الوطنى الليبية غير مسئولة عن واقعة الاختفاء، ولديها من الهموم الداخلية الكثير والكثير. وحين تم تمزيق العلم الليبى وهلل البعض، كانت الرسالة التى وصلت للدول العربية بسيطة للغاية ولكنها مسيئة الى أقصى درجة، فمن يحكم لبنان هم الجماعات وليس المؤسسات، وأن مناخ القمة ليس آمنا للمشاركة. ومن الطبيعى أن يعتذر أغلب القادة العرب، وينخفض مستوى التمثيل، ويفقد لبنان الدولة والمؤسسات مساندة سياسية ومعنوية واقتصادية هم بأمس الحاجة إليها.

د.حسن ابو طالب

الاهرام