1848 و2011.. ما قبلهما وما بعدهما

1848 و2011.. ما قبلهما وما بعدهما

كلما اشتد بى القنوط مما يحاصرنا من رداءة، ومن مقولات متهافتة تبرر للسلطوية، ومن زعم زائف بعدم حدوث مظالم وانتهاكات، ومن ترويج لثقافة الجهل يمارسه خدمة السلطان ومؤيدو حكم الفرد والمتلاعبون بالوعى العام عبر أدوات إلهاء الجموع المتنوعة وناشرى أنصاف الحقائق والمعارف الجزئية، ومن إماتة للسياسة واغتيال للتعددية، ومن المقايضة المستمرة للناس فإما خبزهم وأمنهم وإما حقوقهم وحرياتهم؛ كلما اشتد بى القنوط من كل ذلك عدت للقراءة فى تواريخ الشعوب البعيدة عنا، إن تلك التى سبقتنا إلى انتزاع حقوقها وحرياتها وتمكنت من بناء مؤسسات ديمقراطية وحافظت عليها أو غيرها من الشعوب التى أخفقت فى إنجاز التحول الديمقراطى أو عجزت عن المزج بينه وبين صناعة التقدم العلمى والتنمية المستديمة والعدالة الاجتماعية.

خلال الأيام القليلة الماضية، طالعت مجموعة من الدراسات التاريخية عن ثورات 1848 الأوروبية ــ وهذه يتواتر فى الآونة الراهنة مصريا وعربيا، بل وفى بعض الدوائر الفكرية والأكاديمية الغربية، مقارنتها بثورات وانتفاضات بلاد العرب الديمقراطية منذ الثورة التونسية فى 2010 والثورة المصرية فى 2011. وتحمل المقارنة بين 1848 الأوروبية وثورات وانتفاضات العرب فى الألفية الجديدة العديد من الإضاءات المعرفية الهامة التى تستحق التأمل:

1) يدلل حصاد 1848 الأوروبية على أن طلب الشعوب للحرية وللديمقراطية ولإزاحة الاستبداد والسلطوية كثيرا ما يحبط على المديين الزمنيين القصير والمتوسط إن بفعل تماسك نظم الحكم القائمة وقدرتها على احتواء الطلب الشعبى دون إدخال تغييرات حقيقية أو فى سياق الثورات المضادة التى سرعان ما تسقط التجارب الديمقراطية وقد تعيد عقارب الساعة كاملة إلى الوراء وقد تحدث بعض التحولات الشكلية التى لا تلغى ــ أبدا ــ إعادة التأسيس للاستبداد وللسلطوية.

2) يدلل حصاد 1848 أيضا على أن التجارب الديمقراطية، وعلى الرغم من ضعفها وعجزها على المديين الزمنيين القصير والمتوسط عن مقاومة بقاء نظم الحكم المستبدة والسلطوية أو منع «عودتها المظفرة» عبر الثورات المضادة وعلى الرغم من العنف البالغ للثورات المضادة لجهة الانتقام ممن تبنوا المطالب الديمقراطية وتصفية القبول الشعبى لقيم الحق والحرية ولمبادئ العدل والمساواة وسيادة القانون، تظل محتفظة فى المجال العام وفى الذاكرة الجمعية للشعوب بخانات وهوامش تدافع عنها وتجتهد لإحيائها وتستدعيها باستمرار كبديل للاستبداد وللسلطوية وكأمل مشروع لا يموت.

3) لذلك، يستحيل الفصل بين ثورات 1848 الأوروبية التى أخفقت فى بناء الديمقراطية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر وبين بناء أغلبية الديمقراطيات الأوروبية فى القرن العشرين واستقرار مؤسساتها التدريجى بعد حربين عالميتين مروعتين ــ فإحباط المطالب الديمقراطية بفعل قوة نظم الاستبداد والسلطوية القائمة أو بفعل الثورات المضادة لم يجرد الشعوب من الرغبة فى مواصلة المحاولة وفى التعلق بأمل بناء الديمقراطية وفى النجاح بعد عثرات متوالية.

4) غير أن 1848 الأوروبية وطلبها الديمقراطى لم تَلِهَا فقط الثورات المضادة، بل سبقتها أيضا ثورة مضادة كبرى نفذتها وبعنف الملكيات الأوروبية المطلقة (روسيا وبريطانيا وبروسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية ــ والأخيرة استضافت فى فيينا مؤتمر 1814ــ1815 الشهير الذى هدف إلى إنقاذ الملكيات المطلقة عبر الدعم المتبادل والامتناع عن التورط فى حروب بينية) ضد مبادئ الثورة الفرنسية 1789 وأفكار الجمهورية التى اجتذبت الكثير من شعوب أوروبا ودفعتها للتعاطف مع الثورة الفرنسية وبطلها نابليون بونابرت ــ على الرغم من أن الواقع التاريخى يدلل على أن بونابرت لم يكن يقل سلطوية عن ملوك أوروبا الآخرين).

الكثير من التشابه بين 1848 الأوروبية وبين ثورات العرب تظهره هذه الإضاءات المعرفية، وربما كانت الإضاءة الرابعة ــ ثورة المستبدين المضادة ــ هى اﻷدق فى توصيف الوضعية العربية الراهنة.

عمرو حمزاوي

صحيفة الشروق المصرية