لا خطة لإنعاش الموصل: من يعرقل إنعاش رئة الاقتصاد العراقي

لا خطة لإنعاش الموصل: من يعرقل إنعاش رئة الاقتصاد العراقي

حين أحيا العراق الذكرى الثانية لتحرير مدينة الموصل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في ديسمبر 2018، تعهّد رئيس الحكومة الجديد عادل عبدالمهدي بإعادة إعمار المدينة وبعودة النازحين إلى مدينتهم بعدما أعلنت الحكومة عن مضيها قدما في إعادة كل الوسائل الضرورية للحياة بثاني أكبر مدن العراق وجوهرته الاقتصادية. لكن بمجرّد القيام بجولة في شوارع المدينة يتأكد أن كل ما قيل عن إعادة إعمار المدينة لا يعدو أن يكون حبرا على ورق، وأن الموصل ستبقى بلا خطة لإنعاشها طالما لم تحل عقدة ميليشيات الحشد الشعبي التي مازلت رابضة في المدينة، وطالما بقي القرار العراقي رهين ما يأتي من طهران من أوامر، وظل الفساد ممارسة شرعية في العراق وظلت البلاد بلا حكومة قادرة على تدبير شؤونها وتطبيب جراح سنوات الحروب.

الموصل – مع مرور أكثر من خمسة أشهر تقريبا على تسلم الحكومة الجديدة في العراق مفاتيح السلطة، مازلت مدينة الموصل، التي وعد الناخبون بأن تكون على رأس أولويات برامجهم، بلا خطة لإعادة أعمار والإسراع بترميم ما يمكن ترميمه من آثار دمرتها الحرب وهياكل متداعية قبل أن تصبح غير قابلة للإصلاح.

وتعد محافظة نينوى وعاصمتها الموصل ثاني أكبر مدينة في العراق من حيث السكان، تتركز غالبيتهم في مدينة الموصل.

وتم تقدير الدمار الذي لحق بالمدينة القديمة في الموصل بأكثر من 1 مليار دولار، ويعتقد انه ما بين 50 بالمئة إلى 75 بالمئة من مباني وبيوت المدينة التي تضم 1.4 مليون نسمة قد دمر بالكامل .

ويتهم سكان الموصل التي تكاد تكون خربت بالكامل خلال حرب التحالف الدولي والجيش العراقي مدعوما بميليشيات الحشد الشعبي، ضد التنظيم الدولة الإسلامية الشركات والجهات التي تعاقدت معها الحكومة بالفساد وبالتباطؤ في إعادة إعمارها، رغم أن الحكومة أعلنت منذ تسلمها الحكم اتخاذ إجراءات مشددة لمكافحة الفساد وخاصة التسريع في وتيرة إعادة نسق الحياة لمحافظة الموصل.

ولم يجد العائدون إلى مدينة الموصل اليوم أي ملمـح يوحي بأن الأجهزة الحكومية تعطي أولوية قصوى لإعادة نبض المدينة التي جعلها مقاتلو التنظيم أشبه بمدينة أشباح. الانتظارات الكبرى من أهالي الموصل، رفع في سقفها رئيس الحكومة عادل عبدالمهدي الذي قال خلال إحياء الذكرى الثانية لتحرير المحافظة من تنظيم داعش الإرهابي إن العراق “سجل أكبر نصر على قوى الشر والإرهاب، وانتصرنا بشرف عظيم”.

وتعهد بالعمل على “عودة النازحين وإعمار مدنهم”، إضافة إلى تقديم “الخدمات وفرص العمل للمحافظات التي أسهمت في تحقيق النصر”.

من الملامح الهامة التي تؤكّد تواصل تردي الوضع في الموصل أن عملية هدم مبنى متداع في مدينة الموصل الشمالية، اعتاد رجال تنظيم الدولة الإسلامية أن يعدموا فيه من يتهمونهم بأنهم مثليون، دخلت شهرها الثالث دون تحقيق أي تقدّم ملموس. وفي الأطلال الباقية من المبنى يعمل الصبية الباحثون عما يصلح للبيع خردة بوتيرة أسرع من وتيرة آلة الحفر الوحيدة الرابضة على الهيكل المتداعي.

وبعد مرور سنتين على المعركة التي استعادت فيها القوات العراقية مدينة الموصل من أيدي تنظيم الدولة الإسلامية، لا تملك السلطات المعدات الكافية لرفع الركام المنتشر في أنحاء المدينة، حيث تعرّضت المئات من العربات التابعة لمجلس المدينة للتدمير خلال الاشتباكات التي استخدم فيها التنظيم التفجيرات الانتحارية. ولم يحل محلها سوى عدد قليل.

ويتهم نواب وسكان محليون الشركات، التي تعاقدت معها الحكومة بعقود مربحة لسد النقص في الأشغال المطلوبة، بتعمّد التباطؤ في العمل أو التقاعس عن أداء المهام الموكلة إليها في أغلب الأحيان. ويقول ناشطون حقوقيون إن من تم إعدامهم في مبنى شركة التأمين، الذي كان مكونا من سبعة أدوار وأصبح الآن من دورين فقط، كانوا في الغالب من خصوم التنظيم المتهمين ظلما.

فيما يقول أحد العمال، بشأن تقصير الأجهزة الحكومية والشركات المكلفة بمهمة إعادة الإعمار، إن آلة الحفر الرابضة على المبنى مستأجرة بمبلغ 300 دولار في اليوم. وتظل الآلة ساكنة لا تعمل في الكثير من الأحيان.

وينفي محافظ الإقليم الاتهامات بوجود احتيال ويقول إن ما يحول من أموال إلى مكتبه لتمويل إعادة الإعمار لا يكفي، كل هذه التبريرات تأتي في وقت يواجه فيه سكان المدينة صعوبات مالية، فالأسر التي أجبرت على بناء منازلها تضطر إلى الاستدانة وتقترض من الأصدقاء وتعيش على ما يجود به أهل الخير.

كما يتكدس آخرون في بيوت أصبحت إيجاراتها باهظة على نحو متزايد، فيما تعاني مشروعات تمول من خلال مساعدات خارجية من التأخير. ويفتح سوء التخطيط الباب أمام سوء إدارة جهود إعادة البناء وما يتردد عن الفساد الأمر الذي يجعل انتعاش المدينة بطيئا واعتباطيا، حيث قال النائب محمد نوري عبدربه “لا توجد خطة إستراتيجية. إنها فوضى”.

عودة داعش

في هذا الجو يخشى السكان أن تستغل فلول تنظيم الدولة الإسلامية مشاعر الاستياء، خاصة أن العديد من التقارير الصادرة عن هيئات دولية أو محلية عراقية، تؤكّد أن اقتراب نهاية داعش في سوريا والعراق يطرح العديد من الفرضيات على رأسها أن يطل التنظيم الإرهابي من جديد في الموصل، مستثمرا حالة اليأس التي يعيش على وقعها العائدون إلى مدينتهم.

هذه التوجسات غذاها بالفعل تمكّن التنظيم المتطرف في نهاية عام 2018 من إعادة تنشيظ خلاياه النائمة حين تمكن انتحاريون من تفجير سيارة مفخخة قرب مطعم بمدينة الموصل ثانية كبرى المدن العراقية بعد بغداد.

وتخصص موازنة الدولة للعام الحالي 560 مليون دولار لإعادة بناء الموصل وفقا لما قاله اثنان من نواب المدينة. وقال مستشار يعمل لحساب الأمم المتحدة في المدينة إن كلفة أعمال إعادة البناء لعام واحد تقدر بمبلغ 1.8 مليار دولار.

وأضاف المستشار “في الغالب المنظمات الدولية هي التي تنجز الأشغال. ومن السخف أن يأتي المال من الخارج في ضوء ثروة العراق النفطية”. وتابع “السلطات تنفق أكثر مما يجب والعمل يستغرق وقتا طويلا جدا. من المفترض أن يستغرق هدم مبنى كبير بضعة أيام على أقصى تقدير وأن تكون التكلفة بضعة آلاف من الدولارات على الأكثر”.

إزاء كل هذه الاتهامات الموجهة للأجهزة الحكومية، رفض نوفل حمادي السلطان، محافظ نينوى، اتهامات سوء الإدارة والإنفاق بأكثر مما يجب.

وقال إن “رفع الركام لا يتم اعتباطا، لكن توجد بعض الأحياء التي بلغت من الدمار حدا لا يوجد لها معه حل. ويجب ألا يسأل الناس عن سبب البطء (في إعادة الإعمار)، بل يجب أن يسألوا لماذا التعجل فيه؟”. ولا يبدو أن أعمال التطهير تتم بانتظام، حيث يقوم صبية متسخون يفوق عددهم عدد العمال بتحميل أسياخ الصلب وإطارات النوافذ على عربات تجرها الحمير لبيعها في أسواق الخردة.

وتعيد بعض عائلات الموصل بناء بيوتها بأنفسها. وقد اقترض يونس حسن (67 عاما) 9000 دولار من أصدقائه لإعادة بناء بيته ذي الجدران الأرجوانية في أعلى نقطة بالمدينة القديمة المطلة على ضفة نهر دجلة الذي ينتشر عليه الركام، حيث قال “اقترضنا كل شيء. ما من مال من الحكومة ولا قروض بنكية”.

وتحظر السلطات التحويلات المصرفية للموصل التي كانت معقلا للإسلاميين السنة حتى قبل وصول داعش وذلك بسبب مخاوف من تمويل المتطرفين.

وما يؤكّد حجم الدمار الهائل الذي لحق بمدينة الموصل، أن قرابة مليوني عراقي ما زالوا نازحين عن بيوتهم بسبب الحرب على التنظيم وذلك وفقا لمسح أجرته هيئة غير حكومية. ويقول كثيرون إنهم غير مستعدين للعودة إلى بيوتهم بسبب الدمار ونقص الخدمات.

تتصدر الاتهامات بالفساد، أسباب تأخر عملية أعمار الموصل، إلا أن الأهالي والمتابعون يؤكدون أن هناك أسباب أخرى أكثر خطورة، وهي تلك المتعلقة بحركة التغلغل الواسعة لمليشيات الحشد الشعبي، التي لم يغادر بعضها الموصل بعد انتهاء الحرب ضد داعش، وأيضا مساعي أطراف موالية لإيران للسيطرة على الموصل وضواحيها.

ويخشى السكان أنه كلما طالت فترة البدء بالإصلاح في الموصل سهلت مهمة جماعات مثل تنظيم الدولة الإسلامية في الظهور مجدّدا وتجنيد الأفراد.

ولا تزال الظروف التي ساعدت التنظيم في السيطرة على الموصل ومدن أخرى عام 2014 قائمة بما في ذلك الفساد وإهمال الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة للتجمعات السكنية التي يعيش فيها المسلمون السنة.

ويؤكد شرطي عند حاجز أمني هذه المخاوف بقوله إنه يخاف أشدّ ما يكون الخوف على الأطفال الذين ينبشون الركام، مضيفا “سيكون هؤلاء هم الجيل التالي من تنظيم الدولة الإسلامية.. فهي تزدهر في الفساد والفوضى”.

العرب