الربيع العربي والأسئلة الحائرة

الربيع العربي والأسئلة الحائرة

أسئلة عديدة تطرح نفسها بشدة، كلما جاءت ذكرى انطلاق الربيع العربى في مطلع العام 2011، وأول تلك الأسئلة الحائرة: هل ما جرى يمثل بالفعل انطلاق ربيع عربي، أم أن تسمية الربيع العربي كانت مجرد تعبير مجازي عن إرهاصات ثورية انطلقت فى خمس دول، من إجمالى اثنتين وعشرين دولة عربية؟ وكأن من أطلقوا مصطلح الربيع العربى كانوا يتصوّرون، أو يأملون أن تسري رياح ذلك الربيع لتشمل كل العالم العربي، ولكنها توقفت عند الدول الخمس، فبقيت التسمية تعبيراً عن حلم، أو أمل لم يكتمل.
وتتوالى الأسئلة الحائرة، ولعل أبرزها: هل ما جرى فى الدول الخمس كان بالفعل ثوراتٍ شعبيةً حقيقية، أم مجرد انتفاضاتٍ تطورت، وتداعت، بأشكال مختلفة من دولة إلى أخرى، أم أنها كانت تخفي فى ثناياها مؤامرات، أم أنها كانت فرصةً لكى تقفز عليها مؤامراتٌ تستهدف كيانات تلك الدول ومقدّراتها؟ تتطلب محاولة الوصول إلى إجابات على تلك الأسئلة الحائرة تحليلاً موضوعياً، ومتجرّداً، لكل حالةٍ على حدة، فعلى الرغم من تشابه البدايات في الدول الخمس، إلا أن المسارات، والمآلات، قد اختلفت من دولةٍ إلى أخرى؟ وهنا تقع المسؤولية على الباحثين، والمعنيين من أبناء تلك الشعوب، حيث لا يسعنا إلا الحديث عما آلت إليه ثورات تلك الشعوب، من دون الدخول في تفاصيل مساراتها.
في تونس، وبعد هروب بن علي وأسرته، اختار الشعب التوافق بين مختلف القوى السياسية، من دون إقصاء، واختار الشعب طريق التغيير السياسي السلمي مهما كانت العقبات. اختلفت الأمور فى كل من ليبيا واليمن وسورية، حيث بادر حكام تلك الدول باستخدام القوة المسلحة في مواجهة المتظاهرين، بغرض استدراجهم إلى عسكرة الثورة، وهو ما أتاح الفرصة أمام التدخلات الخارجية المباشرة.
وفي ليبيا تدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) عسكرياً بدعوى حماية الثوار، وبعد مقتل معمر
“هل لا يزال حلم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية قائماً؟” القذافي بشكل مأساوي على أيدى الثوار، استمرت التدخلات الإقليمية، والدولية، إضافة إلى الانقسامات الداخلية. وتاهت الثورة الليبية، ولم يعد يتحدّث عنها أحد.
وفي اليمن، بادرت السعودية، ومعها دول مجلس التعاون، إلى طرح مبادرة لاحتواء الحراك الشعبي على أساس تخلّي علي عبد الله صالح عن السلطة، وتولي نائبه عبد ربه منصور هادي الحكم لفترة انتقالية، يتم خلالها وضع دستور جديد للبلاد، وإجراء الانتخابات. ولكن أفلت الزمام من يد السعودية وحلفائها، وقفز الحوثي على السلطة في صنعاء، وتطورت الأمور بسرعة، حيث تمكّن هادي من الهرب والوصول إلى الرياض. وأعلنت السعودية قيادتها تحالفا عسكريا عربيا، وشن عملية عسكرية حملت اسم “عاصفة الحزم”، بهدف إعادة هادي وحكومته إلى السلطة في صنعاء، وغرق الشعب اليمني في بحر من الدماء، في حربٍ لا يعرف أحد لها نهاية، بعد أن تضاربت المصالح الإقليمية والدولية في اليمن. ولم يعد أحد يتحدّث عن ثورة الشعب اليمني وتطلعاته.
وفي سورية، ما أن انشغل الجيش السوري بالتصدي للثوار، حتى تخلخلت الأوضاع على الحدود السورية الممتدة مع خمس من دول الجوار، الأردن والسعودية والعراق ولبنان وتركيا، بالإضافة إلى حدودها مع العدو الإسرائيلي على هضبة الجولان المحتلة، وتدفقت على سورية جماعاتٌ متطرّفة، ومصنّفة ضمن حركات الإرهاب الدولي مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، وعشرات غيرها من الجماعات. ولجأ نظام بشار الأسد إلى تحالفاته الإستراتيجية، سواء الإقليمية مع إيران وحزب الله اللبناني، أو الدولية مع روسيا. وبادرت أميركا إلى التدخل بذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، كما تدخلت تركيا مباشرةً بدعوى حماية حدودها ضد التنظيمات الإرهابية، وتهيئة الظروف لإعادة ملايين اللاجئين السوريين الذين وجدوا فى تركيا ملاذاً آمنا، وتمزّقت سورية من جرّاء ذلك الاقتتال متعدّد الأطراف، ولم يعد هناك مجال للحديث عن ثورة.
تبقى مصر، والتي كانت محط أنظار العالم على مدى الثمانية عشر يوماً الشهيرة في ميدان التحرير، من 25 يناير/ كانون الثاني وحتى 11 فبراير/ شباط 2011، وهي الأيام التي شهدت الأحداث التي تم إطلاق مصطلح “ثورة 25 يناير” عليها. ولكن ذلك لم يمنع الأصوات التي تصر على وصف تلك الأحداث بأنها محض مؤامرةٍ كانت تهدف إلى إثارة حالةٍ من الفوضى العارمة التي تهدد كيان الدولة المصرية. ويبقى السؤال الحائر ما إذا كانت “25 يناير” ثورة أم مؤامرة. وتتطلب محاولة الإجابة على ذلك السؤال التحليل العميق لما جرى خلال تلك الأيام الثمانية عشر، وما أعقبها من أحداث جرت حتى 30 يونيو/ حزيران و 3 يوليو/ تموز 2013. ومن دون الدخول في تفاصيل كثيرة، بدأت الثمانية عشر يوماً بمشهد خروج الشباب يوم 25 يناير في تظاهراتٍ سلميةٍ اتجهت تلقائيا إلى ميدان التحرير، يردّدون
“الإجابة على الأسئلة الحائرة تملكها الشعوب عندما تملك إرادتها” هتافا بسيطا له دلالة عميقة وهو “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، وتصدّت قوات الأمن للتظاهرات بعنف، وتمكّنت في منتصف الليل من إخلاء ميدان التحرير تماماً؟ وكان ذلك المشهد بمثابة الشرارة التي حرّكت كل القوى الكامنة في مصر، سواء كانت قوى النظام ومؤسسات الدولة العميقة أو كانت قوى الشارع، بكل تنوعاتها السياسية والأيديولوجية والفئوية.
خرجت دعوة إلى الحشد الجماهيري في جمعة الغضب يوم 28 يناير، حيث كان المشهد الثاني. وتصدرت ذلك المشهد جماعة الإخوان المسلمين بشكل واضح، وانتهى اليوم، كما هو معروف، بانهيار قوات الشرطة في مواجهة الجماهير التي تمكنت من الاعتصام في الميدان، وأيضاً بقرار نزول القوات المسلحة إلى الشارع، وبداية دخولها بشكل مباشر في معادلة الأحداث. وأعقبت ذلك حالة الانفلات الأمني المدبر في كل أنحاء البلاد، وفتح السجون، ومداهمة أقسام الشرطة. ثم كان مشهد “2 فبراير” وموقعة الجمل، والتي توحد بعدها الميدان على مطلب واحد، رحيل حسني مبارك، بينما تصدر “الإخوان المسلمون” المشهد الثوري. وجاء المشهد الأخير من مشاهد الثمانية عشر يوماً، يوم 11 فبراير، عندما أعلن عمر سليمان قرار مبارك التخلي عن رئاسة الجمهورية، والأهم تسليم السلطة للجيش، ممثلا في المجلس الأعلى للقوات المسلحة.
على مدى ثماني سنوات، جرت في أنهار دول الربيع العربى الخمس مياه كثيرة، وأريقت في ميادينها، وشوارعها وصحاريها، دماء زكية كثيرة. ولكن لا أحد يستطيع أن يدّعى أنه يملك الحقيقة الكاملة فيما جرى ويجري، حتى يومنا هذا، أو يمكّنه أن يجيب إجابة قاطعة على السؤال الحائر: أين كانت تكمن الثورة، وأين كانت تكمن المؤامرة، في ذلك كله؟ والأهم: هل لا يزال حلم العيش والحرية والعدالة الاجتماعية قائماً؟
الإجابة على كل تلك الأسئلة الحائرة تملكها الشعوب عندما تملك إرادتها؟

العربي الجديد