سفير إسرائيل بالقاهرة.. من استشهاد “حلاوة” إلى سلام السيسي الدافئ

سفير إسرائيل بالقاهرة.. من استشهاد “حلاوة” إلى سلام السيسي الدافئ

“لا تصالح ولو وقفت ضد سيفك كل الشيوخ، والرجال التي ملأتها الشروخ”، هكذا صرخ الشاعر المصري الراحل أمل دنقل في أشهر قصيدة ضد التطبيع مع إسرائيل، ليتبعه أول شهيد ضد التطبيع بصرخة مماثلة “اطردوا السفير الإسرائيلي من القاهرة، ولتحيا مصر حرة، ولتحيا مصر عربية”، ليدفع سعد إدريس حلاوة حياته ثمنا لأول تبادل سفراء بين مصر وإسرائيل في فبراير/شباط 1980.

استقبال بالصراخ
في 24 فبراير/شباط عام 1980 وصل أول سفير إسرائيلي إلى مصر “إلياهو بن إليسار”، مع وصول سعد مرتضى أول سفير مصري إلى إسرائيل.

قبلها بستة أيام رفع العلم الإسرائيلي لأول مرة في القاهرة في مشهد حزين ثقيل على قلوب المصريين، خاصة جيران السفارة، الذين شاهدوا رفع العلم بالصراخ والعويل، ولم تتحمل فتاة عشرينية المشهد فهرولت باكية، وآخر كان يمسك علم مصر ويلوح متحديا حتى رأى العلم الأرزق، فدس وجهه بالعلم المصري باكيا، متمثلا قول الشاعر أحمد شفيق كامل “وفي علمي داريت دمع هواني”.

بعد هذا المشهد الذي وصفت الإذاعة الإسرائيلية بأنه “عيد لنا ولهم”، خرج الرئيس الراحل محمد أنور السادات إلى قصر عابدين لاستقبال إلياهو بن إليسار كأول سفير إسرائيلي لمصر، في غرفة مغلقة بعيدا عن عيون الصحف ووسائل الإعلام المحلية والعالمية.

أول شهيد للتطبيع
في الوقت نفسه كان المصريون والعالم يتابعون قصة شاب عشريني من قرية أجهور بمحافظة القليوبية شمال القاهرة، قرر احتجاز موظفي الوحدة المحلية بقريته مهددا بقتلهم، وقتل نفسه إذا لم يطرد السفير الإسرائيلي، لكنه قتل برصاص الشرطة، ليكون يوم 26 فبراير/شباط هو ذكرى سقوط أول شهيد ضد التطبيع.

وجرى تخليد ذكرى سعد حلاوة كأول شهيد لقطار التطبيع الذي مر على أجساد مصريين بالقتل أو السجن، أو الموت مصابين بسرطان تفشى تحت غطاء التعاون الزراعي بين الدولتين.

وسعد هو حفيد “إبراهيم حلاوة” أحد الأعيان الذين ساندوا الثورة العرابية ووقفوا إلى جانب جيش أحمد عرابى بالخبز والتمر والمال لشراء الأسلحة، ووقعوا على عريضة مطولة تأييدا لعرابى ثم رفعوها إلى الخديوي توفيق، حسبما ذكر المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه عن الثورة العرابية.

السفير الإسرائيلي السابق حاييم كورين والدبلوماسي المصري أشرف منير خلال افتتاح السفارة الإسرائيلية بالقاهرة (الجزيرة)
عزلة تامة
منذ وصول السفير الإسرائيلي إلى القاهرة تعامل معه المصريون على كل المستويات -باستثناء الرسمي- كمن به طاعون أو جرب، على حد وصف دبلوماسي إسرائيلي، حيث عانى من عزلة تامة شعبيا وثقافيا وسياسيا، وكذلك فشلت كل محاولاته للقاء سفراء عرب بالقاهرة أو دعوتهم لمناسبات تقيمها السفارة.

لم يكمل بن إليسار 11 شهرا حتى طلب من وزارة الخارجية الإسرائيلية إعفاءه من منصبه، وقال في مذكرته للخارجية والكنيست “إن المصريين يرفضون التطبيع والوجود الإسرائيلي في القاهرة، ومن ثم فإن عمل أي سفير لتل أبيب في القاهرة هو أمر مستحيل، وإن التطبيع بين القاهرة وتل أبيب سوف يظل تطبيعا على الورق أبد الدهر”.

على مدار السنوات الماضية، لم تفلح السفارة الإسرائيلية بالقاهرة في الفت في عضد الرفض الشعبي الكامل للتطبيع، وتشهد على ذلك الفرحة العارمة بعدما نجح الشاب أحمد الشحات في تسلق مبنى السفارة عقب ثورة يناير 2011، وانتزاع العلم الإسرائيلي وحرقه بعد أن وضع العلم المصري مكانه، واعتبره المصريون بطلا، واحتفوا به وحملوه على الأعناق.

تنظيم ثورة مصر
قوبلت كل محاولات السفارة الإسرائيلية للتغلغل داخل المجتمع المصري أو حتى التقرب منه برفض قاطع، وصل في بعض الأحيان إلى استخدام العنف والسلاح ضد محاولات التقرب ممن يرونه عدوا لكل بيت مصري.

فبعد أقل من ثلاثة أشهر من افتتاح السفارة بالقاهرة حدث انفجار في المعبد اليهودي، ثم تعرض أتوبيس يقل سياحا إسرائيليين للتفجير بمنطقة الهرم أكتوبر/تشرين الأول عام 1982 خلف قتلى ومصابين، تلاه إلقاء قنبلة مولوتوف على سيارة القنصل الإسرائيلي بالإسكندرية، وإطلاق قذيفة “آر بي جي” على مبنى السفارة بالقاهرة عام 1985، واغتيل في العام نفسه مدير شركة سياحية إسرائيلية بمنطقة المهندسين ووجدت على جدار الشقة عبارات معادية للصهيونية.

ووصل الأمر إلى أن يؤسس ضابط المخابرات السابق محمود نور الدين، تنظيما سريا مع ثلاثة آخرين (ضباط بالقوات المسلحة ومدنيين) أطلق عليه “منظمة ثورة مصر” أخذت على عاتقها -حسب كلام نور الدين أمام النيابة- مكافحة الوجود الصهيوني على أرض مصر بالسلاح، وكان خالد نجل الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر من أهم الفاعلين في التنظيم.

نفذت المنظمة عمليات عدة منها محاولة اغتيال عضو الموساد زيفي كيدار عام 1984، وفي أغسطس/آب 1985 أعلنت المنظمة “قتلها مسؤول الأمن بالسفارة الإسرائيلية وإرساله إلى الجحيم”، وبعد مظاهرات كبيرة ضد الوجود الإسرائيلي في معرض القاهرة التجاري الدولي عام 1986، حيث كان المتظاهرون يهتفون “ثورة مصر طريق النصر” أعلنت المنظمة تصفيتها لمديرة الجناح الإسرائيلي “إيلي تايلور”.

انقلاب واختراق
بعد الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2013 والترحيب الإسرائيلي به، ومع وصول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم، وتصريحاته المتوددة إلى إسرائيل، نجحت السفارة الإسرائيلية في التسلل إلى فعاليات هامة داخل مصر ومحاولة اختراق المجتمع المصري، مثلما حدث مع زيارة السفير الإسرائيلي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وتجوله بكل أريحية ونشر صور تلك الزيارة على حساب السفارة الرسمي على موقع التواصل الاجتماعي تويتر.

كما أقامت السفارة في مايو/أيار الماضي حفلا بأحد الفنادق بميدان التحرير -رمز الثورة المصرية- معلنة حضور لفيف من الدبلوماسيين ورجال الأعمال المصريين، وممثلون عن الحكومة المصرية، وسبقها إقامة فرقة موسيقية إسرائيلية حفلا بمنطقة الأهرامات السياحية.

العلاقات المصرية الإسرائيلية شهدت تطورا كبيرا منذ وصول السيسي إلى الرئاسة (مواقع التواصل)
تطبيع شبه مستحيل
يرى أستاذ العلوم السياسية ورئيس وحدة الدراسات الإسرائيلية بالمركز القومي لدراسات الشرق الأوسط -التابع للمخابرات المصرية- طارق فهمي أنه رغم التقارب الكبير بين النظام المصري الآن وإسرائيل، فإن التطبيع على المستوى الشعبي شبه مستحيل، وإن هناك كتابا وروائيين وسياسيين زاروا إسرائيل وألفوا كتبا وروايات من داخل تل أبيب ينظر لهم المصريون كخونة، وتدين مؤسسات المجتمع المدني كالنقابات وغيرها من يقوم بمحاولة التطبيع بأي شكل كان.

وفهمي هو أحد أعضاء مجموعة كوبنهاغن التي أسسها الكاتب اليساري لطفي الخولي منتصف التسعينيات مع مجموعة من المثقفين والأكاديميين لدعم التطبيع.

ورغم دعمه للتطبيع، يرى فهمي أن تصريحات السفير الإسرائيلي بالقاهرة “دافيد جوبرين” بأن تغييرا ملحوظا قد جرى على معاملة الدول العربية لإسرائيل باعتبارها شريكا وليس عدوا، تنسحب على المستوى الرسمي، وربما الأكاديمي فقط دون الشعبي أو حتى الثقافي، مؤكدا أن تلك المستويات ربما تحتاج لعشرات السنوات حتى تغير عقيدتها في التطبيع.

الجزيرة