السياسة في حياتنا

السياسة في حياتنا

عندما تندلع حرب مفاجأة على الحدود او تقع دولة ومجتمع تحت إحتلال اجنبي يقع الفعل والالم والخسارة على كل مواطن، هذا جانب مرتبط بالسياسة. وعندما يصدر قرار بفصل الشبان عن الشابات في الجامعة أو تغرق المدينة بالامطار والمياه بسبب سوء المجاري وضعف التخطيط، وعندما تصدم شاحنة مسرعة عمال يقفون على الناصية وتعجز المستشفيات عن استقبالهم لعدم امتلاكهم المال اللازم، كل هذا يدخل في مجال السياسه لأنه يؤثر على كل مواطن ومواطنة. بل بفضل الصورة التي تنتقل كل ثانية تحولت قضايا إغتيال معارض او قتل الصحافيين لقضايا سياسية تؤثر على كل مواطن ومتابع. حتى قضايا الإعدام( في مسائل التعبير والاحتجاج السياسي) تحولت لقضايا رأي عام في ظل رفض هذه العقوبة من قطاع كبير من الناس.
لنفترض أن لون بشرتك او فئتك او طائفتك التي ولدت بها سببت لك حالة اقصاء او إضطهاد. لقد منع غاندي المحامي في جنوب افريقيا من ركوب حافلة و الجلوس في مقعد محدد بسبب أصله الهندي ولونه. إن سياسة التميز تلك حولت غاندي لأكبر مجاهد ضد التميز والعنصرية، فقد صنع سياسة جديدة أساسها المقاومة اللاعنفية بهدف تغير السياسة عندما تمارس الظلم بحق الآخرين.
اذن السياسة في جانب منها مقاومة للسياسة نفسها. مثلا لنفترض إنك اقتنيت كتابا ممنوعا. في هذا انت تقاوم قانونا أقرته الدولة وحددت عقوبات له. لكن قراءتك للكتاب في مكان عام بل وتوزيعه على آخرين سوف يعني دخولك في حيز السياسي والسلوك المغاير الذي يتحدى قانونا يرفضه قطاع كبير من الناس.
وحينما قامت مجموعة من منظمة القاعدة في 2001 بعملية خطف طائرات أمريكية وادخالها في ابراج وابنية في كل من نيويورك وواشنطن أدان معظم مسلمي العالم العملية ولم يتعاطفوا مع صانعيها. لكن ذلك الفعل أثر علينا كلنا، فقد أعتقل آلاف المسلمين ممن لا علاقة لهم بالقاعدة، وتم تفتيش الملايين في المطارات بغض النظر عن موقفهم من ذلك الهجوم المدمر. وقد تم منع ملايين المسلمين من دخول الولايات المتحدة دون أدنى خطأ من قبلهم بحق الولايات المتحدة. إن من قاوم الصورة النمطية بحق المسلمين والعرب وطرح صور مغايرة لتشويه موقف معظم المسلمين مارس مقاومة سلمية سياسية في مواجهة إجراءات نتجت عن حدث لا علاقة لأغلبية المسلمين والعرب به.

الشعوب التي لا تتدخل في السياسة ولا تشارك في تقرير شؤونها تصبح ضحية للظلم و لغياب النقاش العام. في حالة كهذه يتحول موت السياسة لموت للأوطان وللحضارة

إن السياسة هي الشيء الذي يقع بيننا وبين الاخرين. كل عمل يؤثر على الآخرين وتمارسه فئة في السلطة مع فئة خارج السلطة او فئات داخل المجتمع، هو في حيز السياسي وحيز المساحة العامة. فأكثر ما يميز السياسة ويوضح مكانتها هو تأثيرها على كل ما له علاقة بالشأن العام. وبما أن الانسان بطبعة لديه غريزة حب البقاء، فبطبيعة الحال سوف تكون لديه حاجات وضرورات ومصالح قد تصطدم مع حاجات وضرورات الآخرين. حاجات الإنسان البيولوجية مثل المأكل والمشرب وحاجاته الروحانية مثل حرية التدين ومكانة الكرامة والنجاح، وحاجات الإنسان في حبه للثروة والسيطرة و بسط النفوذ تفتح ابواب النزاع والصراع بين الناس. لهذا سيقع حتما صراع وسيقع الصدام مع الرافضين للتسلط والمتمسكين بحقوقهم. هذا يؤدي لمواجهات مع الظلم والاقصاء كما حصل في الثورة الفرنسية والثورات الإنسانية والانتفاضات والحركات الإصلاحية الكبرى والثورات الديمقراطية في التاريخ.
ومنذ نشوء السوشال ميديا وبفضل تطورات غزت الإنسان منذ الثورة الفرنسية عندما فتحت مساحة الحرية والحقوق والمساواة بين الناس دخلت السياسة لكل بيت و كل مكان. لم تعد السياسة حكرا على فئة من الناس هم النخبة والاقلية، لم تعد السياسة حكرا على القائد والملك او الرئيس او رجال الدين، بل أصبحت شأنا عاما يمس كل انسان ومواطن. ان فكرة المواطنة كما نشأت مع الثورة الفرنسية والدولة الوطنية الحديثة خلقت فكرة الانسان الحر، لكن تجارب الديمقراطية التي تطورت في القرن العشرين جعلت السياسة تعني حق الشعوب في ان تكون مصدر السلطات وهذا أعطى الأفراد في كل مكان الحق بتناول الشأن العام على كل صعيد.
ويمكن لهذا تعريف السياسة( وللسياسة عشرات التعاريف ) على انها: طريقة حل الخلاف والنزاع بوسائل الإقناع والمقايضة والمساومة والضغط في ظل آراء وتصورات ومصالح مختلفة. هذا يعني السياسة تعبر عن نفسها من خلال صيغ تتضمن تراجعا و تنازلا متبادلا لتحقيق اتفاق. و لتحقيق الاتفاق عبر الاقناع والمقايضة والمساومة لا بد من وجود الحكومة والدولة، فهي أساسية للمجتمعات وللسياسة. لكن يجب التنبه بأن السياسة تطورت في العقود الماضية لتصبح أكثر تحررا من إملاءات القوة والأوامر والنواهي واكثر تلبية لتطلعات الناس وذلك بفضل الديمقراطية. بل أصبحت السياسة اكثر قدرة على بناء الاغلبية من خلال الاجماع السياسي الناتج عن تفاهمات وحوارات بل وصراعات ومساومات.
ان من يقول أنه بامكان الإنسان أن يكون كائنا غير سياسي هو كمن يقول بعزلة الفرد الكاملة عن التفاعل الآخرين. فالانسان كائن سياسي يتفاعل مع محيطه بما يلبي إحتياجاته وضروراته الروحية والحياتية والنفسية والجسدية، وهذه الضرورات لا يمكن تلبيتها من قبل رئيس أو قائد أو حزب إلا بصورة مؤقتة ونسبية، بل تتطلب تلك الحاجات عملا جماعيا وفرديا ضمن أطر وأحزاب ومؤسسات، وهي تتطلب بنفس الوقت حريات مضمونة في إطار إعلام حر وحقوق ثابتة. كلما اختفت الحريات والحقوق كلما اضمحلت السياسة وأشرفت على الموت. منع السياسة وتجريمها انطلاقا من القول بأن الانسان وجد ليأكل ويشرب ويطيع صانع القرار هو مثل منع الهواء والتنفس. فالشعوب التي لا تتدخل في السياسة ولا تشارك في تقرير شؤونها تصبح ضحية للظلم و لغياب النقاش العام. في حالة كهذه يتحول موت السياسة لموت للأوطان وللحضارة. ان إحياء السياسة حياتنا جوهري للمواطن المؤمن بحقوقه ودوره وأساسي لنمو الأوطان وتطورها.