أزمة واردات العراق المائية بين إيران وتركيا والاتفاقيات الدولية

أزمة واردات العراق المائية بين إيران وتركيا والاتفاقيات الدولية

الباحثة شذى خليل *
مع بداية فصل الصيف 2019 حيث تظهر انعكاسات أزمة المياه واضحة على بلاد الرافدين أرضا وشعبا واقتصادا ، كيف سيعالج ملف هذه الازمة .. وهل يمكن حلها .؟
يواجه العراق تناقصاً سريعاً ومضطرداً بموارده المائية ، فخلال العقود الثلاث الاخيرة خسر ما يوازي نصف معدل المياه التي كان يتمتع بها خلال النصف الاول من القرن المنصرم ، ووفقاً للجنة الزراعة والمياه النيابية العراقية ، خسر العراق في السنوات العشر الاخيرة نحو (80%) من المياه المتدفقة إليه من إيران بعد قطعها نحو (35) رافداً رئيسياً ، والمتبقي هو (7) روافد إيرانية فقط ، وأن طهران بصدد بناء نواظم وسدود جديدة عليها.
ومنذ منتصف القرن الماضي لم يتوصل العراق الى حلول نهائية لأزمته المتكررة والتي باتت ورقة ضغط بيد دول المنبع تركيا وإيران ، لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية من خلال التحكم بشكل مطلق بتدفق مياه نهري دجلة والفرات.
اتفاقية الأمم المتحدة حول قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الاغراض غير الملاحية لعام 1997 المشاطئة يمكن الاطلاع عليها والتي تتضمن (37) مادة مصنفة في (7) أبواب ، ولكن بإيجاز شديد يمكن للعراق ان يطالب بحقه المشروع للحفاظ على حياة شعبه واقتصاده ، وباختصار الاتفاقية تركز على عدم إلحاق الضرر بمصالح الدول المتشاطئة ، ولا يمكن بأي شكل من الاشكال الاستهانة بالسيادة الوطنية لأي طرف على أرضه وسماءه ومياهه ، وتجنب إلحاق الضرر بمصالح الدول المتشاطئة.

تسري الاتفاقية على الاستخدامات غير الملاحية لمجاري الانهار الدولية فقط ، ولا تسري على الاستخدامات الملاحية ، إلا بقدر تأثيرها على الاستخدامات غير الملاحية ، وهذا ما اكدته المادة الاولى من الاتفاقية التي حددت نطاق سريان الاتفاقية.
هذا والأهم ان الدولتين الجارتين ، شمالا وشرقا ، لم توقّعا اتفاقية قانون استخدام مجاري الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية لعام 1997 ، وان عدم التوقيع او عدم المصادقة عليها لا يعفي الدولة من التزاماتها بمبادئ القانون الدولي ، لأن الأخير يستند أساسا على القانون العرفي.
بنفس الوقت لا بد من القول ان عدم التوقيع على هذه الاتفاقية ، لا يشكل مانعا جديا لدول الحوض من التوصل الى اتفاقيات طويلة المدى فيما بينها بما يتناسب مع الخصائص الوطنية والاقليمية ، سواء كانت اتفاقيات ثنائية او ثلاثية او رباعية (في حالة دجلة والفرات) ، لذلك يجب ان لا يشكل عدم توقيع الدولتين الجارتين على اتفاقية الأمم المتحدة رادعا لجهود العراق في محاولته التوصل الى قسمة منصفة وعادلة لمياه الرافدين بما يضمن حقوق الجميع.

إيران والأزمة : اتفاقية الجزائر (1975) التي ألغيت في العام 1980 (من طرف العراق بعد سقوط الشاه) فأشعلت حرباً مدمرة ، وأعيد العمل بها مجدداً بعد انتهاء الحرب ، كاتفاقية وضع نهائي تحتاج إلى لمسات تعديل وفقاً لمنطق الضعف العراقي والقوة الإيرانية ، وبالمحصلة فهي لم تستعد ، واعتبرها رئيس الجمهورية السابق جلال طالباني ملغاة (فهي وقعت بين صدام حسين والشاه محمد رضى بعلوي وليس بين العراق وإيران” على حد قوله!!) ، فاستغلت إيران ذلك في ظل الضعف العراقي لفرض سياستها بسهولة على مجمل المصالح المشتركة في الشريط الحدودي من ماء ونفط وأراضي.
وقد عمدت السلطات الإيرانية ، وفي ذروة التصعيد الحاصل بين بغداد وإقليم كردستان إبان أزمة الاستفتاء على انفصال المنطقة الكردية عن العراق الى قطع رافد “الزاب الكبير”، اكبر الشرايين المغذية لدجلة ، ويمتد لنحو 402 كيلو متر داخل الاراضي العراقية ، بمعدل 30 ألف م3/ ثانية ، كعقوبة سياسية برضا بغداد التي لم تعترض على الفعل الإيراني ، وأرجعت طهران التدفق الى الرافد مجدداً عقب إجراء الاستفتاء ، ولاحظ المختصون أنه كان أقل من التدفق الطبيعي السابق.
وعملت إيران على تغيير مسار أهم رافدين هما “الوند” و”الكارون”، ما اضرّ كثيراً بالمساحات الزراعية الواسعة في البصرة (جنوب) وواسط (جنوب شرق) وديالى (شمال شرق) ، ويؤكد مجلس محافظة واسط أن “الإيرانيين يماطلون في المفاوضات ويتحججون بالجفاف وقلّة الامطار ، أما التنسيق فهو مجرد وعود لا تطبّق في الواقع.

أقرت الحكومة الإيرانية في العام 2011 مشروعاً ضخما لبناء 152 سداً ، بعضها للتحكم و”استنقاذ” المياه الداخلة الى العراق ، لا سيما الروافد والأنهر ، فيما الحكومة المركزية العراقية ، وعلى الرغم من التجاوزات المائية الإيرانية وتسببها بحصار مائي خانق على الاراضي الأساسية والمواسم الزراعية ، لم تشتكِ من السلوك الإيراني وفقاً للاتفاقيات الدولية التي تنظم التدفق المائي بين البلدان ، وظلت الاجتماعات غير المثمرة التي عقدتها بغداد مع طهران بهذا الشأن حبيسة الأوامر السياسية التي تشدد على تقديم التسهيلات الكبيرة والتطبيع الكامل ، فغالباً ما يتم تجنب الإشارة الى الأضرار الإيرانية وتحميل المسؤولية كاملة لأنقرة في حرمان العراق من المياه العذبة ، وفي الوقت الذي تعقد فيه اجتماعات متكررة ودائمة مع مسؤولين إيرانيين ، لرفع التبادل التجاري او التنسيق السياسي ، لا يتم التطرق لمشكلة المياه.

وتعاني مدينة البصرة من مشكلة ملوحة قديمة ، نظراً لوقوعها في أقصى الجنوب ورداءة المياه الواصلة إليها بعد مسير طويل داخل الأراضي العراقية لنهري دجلة (1300 كلم) والفرات (1000 كلم) ، والتلوث الذي تحمله تلك المياه نتيجة الري والاستخدام المنزلي والصناعي ، إضافة لما سببه التجفيف للأهوار من قبل النظام السابق في تسعينيات القرن الفائت ، وشق نهر ثالث لتصريف مياه المبازل من شمال بغداد ، بطول 565 كلم ، والذي يصل الى شمال نقطة الحدود بين قضائي المدينة والزبير ليرتبط بقناة المصب العام الى البحر.

وبعد عام 2003 ، ورغم العلاقات الوثيقة التي تربط السلطة العراقية الجديدة بطهران ، إلاّ ان الأخيرة لا تقيم وزناً للمصالح العراقية ، حيث ما يجري للمناطق الجنوبية من تدمير للأراضي الزراعية وقلة مياه الشرب ورفع لنسبة الملوحة جرّاء تحويل إيران لمياه البزل المالحة الى الارضي العراقية ، وتعارض طهران بشدة إقامة مشروع “ناظم شط العرب” (جنوب البصرة ، ما قبل مرفأ ابو فلوس) المصمم للحفاظ على مناسيب مياه عذبة مرتفعة في الشط لتقليل الملوحة ، ومنع اللسان الملحي القادم من البحر من الصعود الى مناطق شمال البصرة.
ويقول عضو بمجلس البصرة (طلب عدم الكشف عن اسمه) “إيران تعارض هذا الناظم ، وتتحجج بالمعاهدات أو الاتفاقيات ذات العلاقة باستخدام المياه مع الدول المتشاطئة ، المشروع قديم ، طرحته حكومة صدام حسين في تسعينيات القرن الماضي مجدداً ، وبسبب ظروف الحصار لم يتحقق ، وبعد التغيير طُرح أكثر من مرة ، وعقب “صولة الفرسان” (2008) خصصت له ميزانية ، لكن فجأة تنصلت حكومة المالكي من انشائه بضغط إيراني”.
الأهوار تعاني:
أن مشكلة معاناة الأهوار من جفاف مياهها ، وهي تمتد على مساحة شاسعة بين ذي قار والبصرة (8900 كلم) ، لا تقتصر على الفترة الأخيرة ، وأن اسبابها معقدة ومتداخلة ، إلا أن الانخفاض الحاد بمناسيب مياهها بلغ 20 سم في الاشهر الستة الأخيرة في المساحات المغمورة التي تمثل 10% فقط من المساحات الأصلية للأهوار قبل تجفيفها ، ما يعني أنها مياه ضحلة ، وذلك وفقاً لبرنامج الامم المتحدة للبيئة ، فيما يؤكد “مركز العراق لانعاش الأهوار” ان المناطق العميقة من الهور توجد بها مياه مرتفعة بنسبة 30 سم ، ما يعني ان المنطقة التي ادرجتها اليونسكو كجزء من التراث العالمي معرضة للاندثار ولموت بيئتها وثقافتها الاجتماعية وانشطتها الاقتصادية ، وقد تقلصت مساحة الاهوار في ميسان الى 35 كلم2 فقط من أصل 1733 كم2 ، وتحتاج عملية إدامة الاهوار سنوياً الى 16 مليار م3.
ويبدو أن الحكومات العراقية على مدى قرن مضى لم تنجح في توقيع اتفاق ملزم مع الجارتين يضمن حقوق بلاد ما بين النهرين بشكل دائم ، حيث يبلغ إجمالي معدل الاستهلاك لكافة الاحتياجات في البلاد نحو 53 مليار متر مكعب سنويا ، بينما تقدر كمية مياه الأنهار في المواسم الجيدة بنحو 77 مليار متر مكعب ، وفي مواسم الجفاف نحو 44 مليار متر مكعب ، وإن نقص واحد (1) مليار متر مكعب من حصة العراق المائية يعني خروج 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية من حيز الإنتاج.

ولم يحقق العراق أي اكتفاءٍ ذاتيٍ في محصولاته الاستراتيجية (القمح، الشعير، الرز، الذرة) فيما اندثرت زراعتي القطن والنخيل على نحو كبير ، ويقول اتحاد الجمعيات الفلاحية ان مساحة زراعة الرز تراجعت الى 40% وباتت توجد في اراضٍ محدودة وبإنتاجية ضعيفة ، ولا تسد ربع الحاجة المحلية سنوياً ، بحصيلة انتاج تصل الى 110 الف طن ، وتناقصت مساحات زراعة الرز بمنطقة الفرات الاوسط في العام 2013 الى 200 الف دونم ، وفي 2014 الى 127 الف دونم ، لتصل في 2017 الى 90 الف دونم فقط.

تركيا وتاريخ الأزمة :
تعود جذور أزمة المياه العراقية التركية إلى عشرينيات القرن الماضي ، حيث شهد عام 1920 توقيع اتفاقيات “ثلاثية وثنائية” بين العراق وتركيا وسوريا لتقسيم المياه وفق المعايير الدولية المتبعة آنذاك ، والتي عززت بعد ذلك بتوقيع معاهدة الصلح بين تركيا والحلفاء في لوزان عام 1923 ، وهي اتفاقية متعددة الأطراف تضمنت نصا خاصا يتعلق بمياه نهري دجلة والفرات ، حيث جاء في المادة 109 من هذه الاتفاقية “لا يحق لأية دولة من هذه الدول الثلاث إقامة سد أو خزان أو تحويل مجرى نهر من دون أن تعقد جلسة مشتركة مع الدول الأخرى وتستشيرها لضمان عدم إلحاق الأذى بأي طرف”.
وفي عام 1946 وقع الطرفان البروتوكول رقم (1) الخاص بتنظيم مياه النهرين الملحق بمعاهدة الصداقة وحُسن الجوار الموقعة بين العراق وتركيا ، ثم جرت أولى المفاوضات بين دول الحوض عام 1962 لتقاسم المياه ، حيث رفض الجانب التركي “ولا يزال يرفض” اعتبار نهري دجلة والفرات نهرين دوليين ، وبذلك خالفت تركيا “المادة د” من مبادئ هلسنكي لعام 1966 ، باعتبار الفرات نهرا دوليا ، واعتبرته نهرا عابرا للحدود فقط.
لم تنقطع اللقاءات والتفاهمات بين البلدين ، ففي أنقرة عام 1978 تم توقيع بروتوكول التعاون الاقتصادي والفني الثنائي على إثر إنجاز تركيا سد كيبان الذي خلف أزمة كبيرة عادت مرة أخرى للواجهة مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد إنشاء سد أتاتورك الذي خلف نقصا حادا في مياه العراق.
ورغم العديد من المذكرات الموقعة بين العراق وتركيا والتي كان آخرها عام 2017 حيث اتفق الطرفان على تفعيل مذكرة التفاهم الموقعة بينهما عام 2014 التي تضمنت التعاون في إدارة الموارد المائية لنهري دجلة والفرات وتحديد حصة كل دولة ، فإن مشكلة واردات العراق المائية من تركيا ما زالت قائمة.

وفي عام 2018 تكرر المشهد ذاته عقب إنجاز سد إليسو التركي الذي سيغير المعادلة بالنسبة لنهر دجلة ، حيث سيتحول النهر إلى قناة متدفقة داخل الحدود التركية بدلا من قناة متدفقة خارج الحدود ضمن السياسة المائية التركية المتمثلة بمشروعها الضخم “GAP” المتضمن إقامة 22 سدا و 19 محطة كهرومائية لاستصلاح 1.9 مليون هكتار على نهري دجلة والفرات.
برهم صالح يقترح آلية لحل المشكلة:
ان زيارة الرئيس العراقي برهم صالح الأخيرة لتركيا ، حملت مقترحاً ووضع آلية لحل أزمة المياه المستمرة ، بالإضافة الى تعيين ايروغلو ، جاء بطلب خاص من الرئيس برهم صالح ، كونه خبير في مسائل المياه ، والذي شكل بعد تعيينه فريقاً يتألف من مسؤولين من وزارات الخارجية والتجارة والطاقة والموارد الطبيعية والزراعة.
ويخطط إيروغلو لزيارة بغداد قريبا لمناقشة خطة العمل ، لأن المياه هي محور هذه الزيارة ، إلا أنها تتضمن أيضا مشاريع تجارية بين البلدين ، ويمكن أن يجعل العراقيين يأملون بالحلول الجدية والجذرية السريعة للازمة ، والاهم هو طرح المشكلة على طاولة النقاش والوصول الى وجهة نظر مشتركة حول سبب المشكلة وحلها ، فيمكنهما تمهيد الطريق لمشاريع مشتركة لتعزيز كفاءة استخدام المياه ، ومنع الخسائر ، واستبدال قنوات الأرض بالأنابيب ، وتحسين أنظمة الري والسدود ، وزيادة السعات التخزينية ، وبناء مرافق معالجة المياه ، وإعادة تأهيل مجاري الأنهار ومنع تملحها.

الزراعة في العراق تواجه الإجهاد المائي:
“مؤشر الإجهاد المائي” الذي يعني ان نمو أي نبات نمواً طبيعياً يعتمد على حالة الاتزان بين ما يمتصه ذلك النبات من الماء وبين ما يفقده منه ، قد تكون حالة عدم الاتزان ضئيلة (أي أن ما يمتصه النبات من الماء بالكاد يكفي لتغطية ما يفقده خلاياه ولا تكون في حالة امتلاء) ، وقد تكون حالة عدم الاتزان كبيرة فتظهر آثارها على هيئة ذبول مؤقت.
أما إذا كانت كمية الماء المفقود من النبات تفوق ما يستطيع النبات امتصاصه ، وعلى درجة كبيرة ، فإن أعراض الذبول الدائم تبدو واضحة عليه وغالباً ينتهي الأمر بموت النبات ، وبالرغم من أن للماء أهمية كبيرة في حياة النبات ، إلا أنه قد يكون عامل بيئي مجهد ، ويرجع الإجهاد المائي إلى.
إجهاد نقص الماء (إجهاد جفاف) إجهاد زيادة الماء (إجهاد غمر)

إذاً ، الإجهاد المائي هو الضرر الذي يصيب النبات نتيجة التعرض لنقص أو زيادة الماء في بيئة النبات عن الحد الأمثل للنمو.
إذا لم تضع الحلول السريعة ، فإن العراق سيكون أرضا بلا أنهار بحلول عام 2040 ، ولن يصل النهران العظيمان إلى المصب النهائي في الخليج العربي ، وتضيف الدراسات المتخصصة ، أنه في عام 2025 ستكون ملامح الجفاف الشديد واضحة جدا في عموم البلاد مع جفاف شبه كلي لنهر الفرات باتجاه الجنوب ، وتحول نهر دجلة إلى مجرى مائي محدود الموارد.

وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية