الخيارات الجديدة للسياسة الأميركية في الخليج

الخيارات الجديدة للسياسة الأميركية في الخليج

201561710500622734_19

ملخص:
في ضوء بيئة أمنية متغيرة، أعادت الولايات المتحدة الأميركية التأكيد على عزمها إقامة منظومة مدمجة للدفاع المضاد للصواريخ، على مستوى منطقة الخليج؛ ويعني إقامة هذه المنظومة إعادة بناء جزئي للقدرات العسكرية الأميركية في المنطقة، على نحو تبدو أقل عبئًا، وأكثر انسجامًا مع التوجهات الجديدة للسياسة الخارجية الأميركية إقليميًّا ودوليًّا.

ولا تعتبر منظومة الدفاع الصاروخية المراد إقامتها منظومة إقليمية بالمعنى النظامي للمصطلح، بل منظومة أميركية تغطي إقليم الخليج، وتحديدًا نطاقه الداخلي.

ويحتاج إنجاز هذا المشروع إلى إبرام اتفاق خاص بين الولايات المتحدة من جهة ودول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة من جهة ثانية. والسبب في ذلك أن هذه المنظومة الدفاعية لا يُمكنها العمل على مستوى كل دولة على انفراد، بل تحتاج بالضرورة إلى نطاق عملياتي موحَّد على مستوى المنطقة.

وفي البُعد السياسي لهذا البرنامج الدفاعي، تستهدف الولايات المتحدة طمأنة دول الخليج بأن التقارب الأميركي-الإيراني المحتمل لن يكون على حساب أمنها، وأن السياسة الأميركية في الخليج لا تعمل وفق معادلة صفرية، بمعنى أن إعادة بناء العلاقة مع إيران لن يوازيه خفض في الروابط مع بقية دول المنطقة.

وفي المقابل، فإن نجاح التقارب الأميركي-الإيراني، ووصوله إلى غاياته النهائية أو قريبًا منها، يحتاج إلى إعادة توجيه لمسار التفاعلات الإقليمية، وتحديدًا بين دول مجلس التعاون الخليجي وإيران، وبالضرورة العراق أيضًا. وبحيث تبدو هذه التفاعلات أقلَّ صراعية وأكثر ميلًا للتفاهم والانسجام العام، وتزداد فيها فرص الاستقرار الإقليمي، الذي يسير في ظلِّه مشروع التقارب الأميركي-الإيراني.

وهذا البُعد يبدو ضرورة في الحسابات النهائية، ومن دونه يفقد برنامج الدفاع الأميركي المضاد للصواريخ في المنطقة مضمونه السياسي، وفلسفته ذات الصلة بمتغيِّر السياسة الخارجية الأميركية في بُعدها الإقليمي، وهذا مع ضرورة التأكيد، في الوقت نفسه، على أن مبدأ التقارب والتعاون بين دول المنطقة هو مصلحة إقليمية بالدرجة الأولى.

مقدمة

هناك أربعة ملامح أساسية حاكمة لبيئة الأمن في النظام الإقليمي الخليجي، المؤتلف من ثماني دول، هي أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية والعراق وإيران.

هذه الملامح هي: انهيار التوازن الاستراتيجي، غياب الردع المستقر، غلبة التفاعلات السالبة، والغياب التام لأي نظام أو ترتيب أمني قادر على احتواء التوترات.

وهذا الواقع هو نتاج أحداث كبرى غيّرت وجه المنطقة، فضلًا عن كونه انعكاسًا لمكون جيوسياسي يصعب القفز عليه. وإذا كان لهذا الحال أن يتغير، فهو لن يحدث إلا كنتاجٍ تراكمي بعيد المدى لنسق كُلِّيّ من التحولات بنيوية الطابع، معطوفًا على إرادة مشتركة لتحفيز مقومات السلم وإدامتها.

وتعتبر الولايات المتحدة صاحبة حضور رئيس في تفاعلات أمن الخليج، الذي شهد تطوّرًا تاريخيًّا بعد إعلان مبدأ كارتر عام 1980، ثم شهد انعطافته التالية بعد حرب الخليج الثانية، وجرت له إعادة إنتاج جزئي إبّان الاحتلال الأميركي للعراق، واتجه بعد ذلك لإعادة تعريف نفسه، أو في الحد الأدنى إعادة تشكيل الركائز التي ينهض عليها؛ لتنسجم والسياسة الجديدة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ورؤيتها للبيئة الأمنية المتحوّلة إقليميًّا وكونيًّا.

وهنا، كان على الولايات المتحدة أن تتحرك وَفْق نسقين متوازيين، يُعني الأول بإعادة صوغ قدراتها العسكرية في المنطقة، ويختص الثاني ببلورة مقاربة توليفيّة للتفاعلات البينيّة داخل النظام الإقليمي الخليجي، على النحو الذي يجعله أقل توترًا، وأكثر قدرة على الانسجام مع متغيّرات البيئة الأوسع مدًى للشرق الأوسط.

في الشق الأول، اتجهت الولايات المتحدة لتبنِّي خيار دفاعي يستند إلى منظومة متكاملة للدفاع المضاد للصواريخ على مستوى المنطقة الخليجية. وهذه ليست منظومة إقليمية، بل أميركية دفاعية تغطي كامل الإقليم، ويُراد لها أن تحظى بدعم إقليمي؛ كونها طُرحت في سياق مطالب إقليمية، أو في الحد الأدنى هواجس قائمة.

وفي الشق الثاني، سعت الولايات المتحدة للتأكيد على أن علاقاتها في المنطقة لا تنهض على معادلة صفريّة، وإن تطويرها أو إعادة بنائها مع إحدى دول النظام الإقليمي الخليجي لن تكون على حساب تطوّرها مع بقية أطراف هذا النظام. وقد تمت الإشارة على نحوٍ خاص إلى مشروع اتفاق جنيف النووي بين إيران والمجتمع الدولي، الذي قد يُفضي في نهاية المطاف إلى إعادة إنتاج للعلاقات الإيرانية الغربية عامة، والإيرانية الأميركية على نحو خاص.

هذا الشق الأخير من متغيّر السياسة الأميركية في الخليج يبدو أكثر صعوبة من الأول، وهو يفرض صياغة توليفة من التسويات الإقليمية داخل النظام الخليجي، أو في الحد الأدنى بناء فضاء من الانسجام العام، قادر على تحفيز مقومات السلم والاستقرار الإقليمي.

إعادة بناء خيارات الدفاع الأميركية

بعد الانسحاب الأميركي من العراق، بدا للمخططين الاستراتيجيين في البنتاغون أن لا بديل عن العودة للارتكاز إلى الوجود العسكري الأميركي في الداخل الخليجي ذاته، وتعزيز هذا الوجود ليكون قادرًا على التعامل مع المتغيّر العراقي ومفاعيله واسعة النطاق، وكذلك متغيّرات بيئة الأمن في الخليج عامة.

وفي إطار هذه الرؤية، تقرَّر الدخول في إعادة بناء للقدرات العسكرية الأميركية في المنطقة، وبالتبعية فلسفة الردع المرتكزة إليها(1).

وهنا، اعتمدت إدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، سياسة جديدة تقوم على بناء منظومة إقليمية متكاملة ومدمجة للدفاع الجوي والدفاع الصاروخي المضاد للصواريخ، تنتقل في ضوئها الولايات المتحدة من التعاون الثنائي مع دول مجلس التعاون الخليجي إلى التعاون متعدد الأطراف. وفي هذا السياق، سعت الولايات المتحدة لنصب رادار من نوع (AN/TPY-2)، في أحد الدول الخليجية(2)، وهذه خطوة ذات دلالة ومغزى في حسابات الدفاع.

ويُمكن الإشارة هنا إلى أن هذا الرادار يعمل على تتبُّع الصواريخ في مراحل الانطلاق، وفي منتصف الرحلة ونهايتها. وهو قادر على اكتشافها قبل ألفي كيلومتر من وصولها إلى الهدف، الأمر الذي يمنح منظومات الدفاع ما بين 60 إلى 70 ثانية إضافية للرد(3).

وقد نصب حلف شمال الأطلسي (الناتو) رادارًا من هذا الطراز في منطقة (Kürecik)، الواقعة جنوب شرق تركيا، على بُعد 435 كيلومترًا من الحدود الإيرانية، كما نصبت الولايات المتحدة قبل ذلك رادارًا مماثلًا في اليابان.

وإضافة إلى نصب الرادار، تقضي المقاربة الدفاعية الجديدة بنصب نوعين من الصواريخ الاعتراضية، وربطها بأنظمة (AEGIS)، المنصوبة على متن السفن التابعة للبحرية الأميركية(4). وهذه المنظومة مخصصة لاعتراض الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى، كما يُمكنها اعتراض الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في بداية المسار، بشرط التواجد بالقرب من نقطة الانطلاق. وتستطيع سفينة أميركية مزودة بأنظمة (AEGIS)، وصواريخ (SM-3) الاعتراضية العاملة في إطارها، أن تتعامل مع ظروف حرب صاروخية على مستوى رقعة تعادل ضعف مساحة الخليج تقريبًا. وتعتبر صواريخ (SM-3) المطوّرة ذات معدلات تسارعٍ عالية، ولديها ارتفاع اعتراض يفوق 1000 كيلومتر(5).

وبصفة عامة، يُمكن أن نلحظ أن السفن الحربية الأميركية في المنطقة مزودة بأنظمة دفاع جوي للمديين القريب والمتوسط، والسفن الكبرى منها مزودة بثلاثة مستويات من أنظمة الدفاع الجوي، إذا أضفنا نظام الدفاع الجوي للمدى البعيد.

كذلك، واعتبارًا من منتصف العام 2018، سوف تبدأ البحرية الأميركية باستخدام مقاتلات (F-35- C)، المصممة للانطلاق من على متن حاملات الطائرات، وهي مقاتلات متعددة المهام تنتمي للجيل الخامس من الطائرات الحربية، وتُعدّ الأحدث على صعيد عالمي.

إن برنامج الدفاع الصاروخي، الذي ترغب الولايات المتحدة إقامته في الخليج، هو برنامج أميركي سيشرف على تنفيذه في حال إقراره القيادة المركزية الأميركية. وحتى يتم هذا الأمر، لابد من توقيع اتفاق خاص بين الولايات المتحدة من جهة ودول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة من جهة أخرى، فهذا البرنامج لا يُمكن التعامل معه على مستوى كل دولة على انفراد.

وهذه القضية وفقًا لمصادر مطلعة، قد تم تداولها وطرحها في أجواء قمة كامب ديفيد، التي جمعت الرئيس أوباما بالقادة الخليجيين في مايو/أيار 2015.

ويحتاج توقيع الاتفاقية المشتركة إلى تنازلات متبادلة بين أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية ذات صلة بسيادة كل منها، ذلك أن آلية عمل النظام المضاد للصواريخ، المزمع إقامته، تتطلب بالضرورة مثل هذه التنازلات. ولا يُمكن لهذا النظام أن يعمل من دون ذلك بأي حال من الأحوال؛ وعليه فإننا بصدد مسألة قانونية ذات بُعد خليجي-خليجي، وخليجي-أميركي.

وفي الأصل، تعود الاتفاقيات الدفاعية بين الولايات المتحدة ودول الخليج العربية إلى العام 1945، وقد تطوّرت منذ العام 1980، مع صدور مبدأ كارتر، ثم دخلت طورًا جديدًا بعد حرب الخليج الثانية عام 1991. ويبلغ عدد القوات الأميركية في المنطقة 40 ألفًا، وفقًا لتصريح وزير الدفاع الأميركي الأسبق، ليون بانيتا(6). ولا ترتبط الدول الخليجية باتفاقيات أمنية أو دفاعية جماعية مع الولايات المتحدة، أو مع أيٍّ من القوى الإقليمية أو الدولية الأخرى.

نمذجة التفاعلات الإقليمية

وإذا قُدِّر للولايات المتحدة إنجاز مشروعها الدفاعي المضاد للصواريخ، في فرعه الخليجي، فإنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف ستتصرف الولايات المتحدة لتشكيل مناخ إقليمي يُمكِّنها من الإفادة من هذا التطوّر في إزالة أو تحجيم الهواجس الأمنية القائمة، والاتجاه نحو إعادة بناء علاقاتها مع إيران؟ أو لنقُلْ: كيف ستستثمر هذا النظام في إعادة توجيه التفاعلات البينيّة داخل الإقليم على نحوٍ تبدو أقل صراعية وسلبية، وأكثر قدرة على مواكبة متغيّر السياسة الخارجية الأميركية، في نطاقه الإقليمي، كما الكوني الأوسع مدًى؟

يُمكن الإشارة بداية إلى أن أمن الخليج قد دخل مرحلة إعادة التعريف الاستراتيجي، منذ اللحظة التي قُدّر فيها لعملية عاصفة الصحراء في العام 1991 أن تُنهي القوة العراقية، وتُعيد رسم موازين القوى في النظام الإقليمي الخليجي. ففي إعادة الرسم هذه، انهار التوازن الاستراتيجي الهشّ، الذي ساد الخليج في سبعينات وثمانينات القرن العشرين؛ وعليه، دخل الخليج مرحلة أحادية القوة بعد ثنائيتها. وهي لا تزال بادية أحادية، متجلية أمنيًّا ومعبرة عن ذاتها في التفاعلات السياسية ثنائيًّا، كما في سياقها الناظم أو المنتظم جمعيًّا.

وخارج تفاعلاتها المحلية، لم تكن بيئة الخيارات الدولية للنظام الإقليمي الخليجي سهلة التوصيف؛ فعراق ما بعد العام 1958 لم ينتمِ بالمدلول النظامي للمصطلح إلى أيٍّ من المعسكرين الاشتراكي أو الرأسمالي، كما أنه لم يكن في الوقت نفسه محايدًا، وذلك على الرغم من انتمائه إلى كتلة عدم الانحياز. والأمر ذاته ينطبق على إيران ما بعد العام 1979، وإنْ ضِمن سياقات مغايرة(7).

بَيْدَ أنّ هذا الوضع قد تغيّر بالنسبة للعراق اعتبارًا من العام 2003، وتحديدًا لناحية علاقته بالولايات المتحدة الأميركية، إذ أضحى حليفًا لها بمعيار المعاهدات الموقّعة بين الدولتين، أو في الحد الأدنى صديقًا له خصوصيته.

وتاليًا، مثَّل انسحاب القوات الأميركية من العراق لحظة تاريخية فارقة في العلاقات الثنائية بين البلدين، حرصت فيها واشنطن على التأكيد بأن شراكتها مع بغداد ستبقى ثابتة وقوية. و”هذا اليوم نؤكد من جديد رؤيتنا المشتركة المتمثلة في إقامة شراكة طويلة الأمد بين دولتينا” – كما قال الرئيس أوباما-(8).

وبدورها، باتت إيران في طريقها لإعادة إنتاج علاقاتها بالولايات المتحدة، على نحوٍ تبدو فيه أقل صدامية. وربما يقترب البلدان من حالة وفاق مماثلة لتلك التي حدثت بين أميركا والصين في سبعينات القرن العشرين. وهذا، على أي حال، قد يكون رهان الكثيرين في كل من إيران والولايات المتحدة. وسواء وصلنا إلى هذه المرحلة أو قريبًا منها، فإن النتيجة تبقى واحدة بالنسبة لتداعياتها على المقاربة الأميركية لأمن الخليج في سياقها الكُلِّي الناظم.

إن التحدي الذي بات يفرض نفسه على هذه المقاربة، هو مدى القدرة على إعادة توجيه التفاعلات المحلية في النظام الإقليمي الخليجي بوحداته الثماني (دول الخليج العربية الست وإيران والعراق)، لتنسجم مع حقيقة أن الولايات المتحدة لا أعداء لديها داخل هذا النظام، أو لنقُلْ: ليست بصدد الصدام مع أيٍّ من دوله.

ويُمكن صياغة هذه المعادلة على النحو التالي: إن العلاقات المتوترة بين دول الداخل الخليجي (أقطار مجلس التعاون لدول الخليج العربية) وإيران و/ أو/ العراق تتناسب عكسيًّا مع فرص نجاح الولايات المتحدة في رعاية نظام (أو إطار) للأمن الإقليمي للخليج، يفرضه ويستدعيه بالضرورة مسار التحوّل في العلاقات الأميركية-الإيرانية.

قد تنجح الولايات المتحدة، في المدى المنظور، في إقناع دول الداخل الخليجي بالتفاعل مع خططها الرامية لإقامة نظام للدفاع المضاد للصواريخ. وهذا هو جانب الردع الذي قد يُطمئن هذه الدول، والذي قد يُشكّل رافعة لإعادة بناء الوجود العسكري الأميركي في الخليج ليغدو أقل اتساعًا، وأقل عبئًا في الحسابات الجيوسياسية للولايات المتحدة.

وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه المقاربة الدفاعية التاريخية الطابع، في حال استكمالها، لا يُمكنها العثور على ترجمة سياسية من دون النجاح في تحقيق حد أدنى من الوئام على مستوى التفاعلات البينية في النظام الإقليمي الخليجي، أو لنقُلْ: ستغدو هذه المقاربة فاقدة لثمارها السياسية من دون هذا الوئام. وستبقى الولايات المتحدة تحت وطأة الشعور بأعباء متعاظمة، حتى في حال قُدر لها يومًا تحقيق اختراق نسبي في علاقتها المعقّدة بإيران.

فعلى صعيد الشق العراقي من المتغيّر الأميركي، يُمكن أن نلحظ أن الولايات المتحدة قد تحركت، في الأشهر الأخيرة، بخُطًا وئيدة لإعادة بناء خياراتها الأمنية في العراق، مقتربة مما كانت بصدد تحقيقه قُبيل انسحابها منه في نهاية العام 2011. وارتبط التحرك الأميركي الجديد برؤية أوسع مدًى لتحديات الأمن الإقليمي، وفي المقدمة منها الخطر الذي يُمثله تنظيم “داعش” والتنظيمات المماثلة، التي تمكنت من توطيد مواقعها في كلٍّ من سوريا والعراق، واتجهت لتهديد دول الجوار كالأردن والسعودية والكويت.

وربما لم تتوقع الولايات المتحدة، والحكومة العراقية ذاتها، أن العراق قد يدخل مرحلة أمنية مثل التي يشهدها اليوم؛ ولذا جاء الانسحاب الأميركي على النحو الذي تم.

وأيًّا يكن الأمر، فالولايات المتحدة قد عادت الآن لتفعيل برامج التسلّح العراقي، ورَفد بغداد بمزيدٍ من المستشارين، ودعمها استطلاعيًّا واستخباراتيًّا، وتشجيع دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) على تقديم صور العون المختلفة لها.

وإذا انتهينا للقول بأن تحقيق حد أدنى من الانسجام بين وحدات النظام الإقليمي الخليجي الثماني يُعدّ حاجة ضمنية، أو غير مباشرة بالنسبة للولايات المتحدة، وضرورة يمليها التتابع المنطقي لمسار السياسة الأميركية في الإقليم، فما هو السبيل لجعل هذا الأمر حقيقة قائمة؟

هناك ثلاثة خيارات يُمكن الأخذ بها لضمان سيادة التفاعلات الإيجابية داخل النظام الإقليمي الخليجي، والحد من تفاعلاته السالبة، التي قد تطيح بفرص الأمن والاستقرار فيه، وتحول بين الولايات المتحدة وبين تطلعاتها لإعادة بناء روابطها بالعراق وإيران.

هذه الخيارات هي: أولًا، انضواء دول المنطقة في نظام خاص للأمن الإقليمي. ثانيًا، الدخول في معاهدات ثنائية أو متعددة للسلم الإقليمي بضمانات دولية. وثالثًا، انخراط دول الإقليم في شبكة مصالح مدنية متداخلة على نحوٍ وثيق.

على صعيد خيار انضواء دول الخليج الثماني في نظام للأمن الإقليمي، يُمكن القول بداية: إن الرؤية الواقعية للأمور لا تقود للدعوة إلى تبنِّي خيارات أمنية من قبيل التحالفات، أو الأمن الجماعي، الذي بُنيت فلسفته في الأصل ليعمل على أساس عالمي أكثر منه إقليمي. كذلك، لا نرى فرصة واقعية للدعوة إلى فكرة المجتمع الأمني.

وإذا قررت دول المنطقة، في هذه اللحظة، اعتماد ترتيب أمني معين، فالواقعية تقتضي بالضرورة أن يكون ذا التزاماتٍ محدودة، وله سقف سياسي منخفض كثيرًا، الأمر الذي قد لا يجعله فاعلًا أو ذا مغزًى.

وعلى الرغم من ذلك، قد يكون واقعيًّا القول -بشيء من الحذر-: إن دول المنطقة يُمكنها أن تتحرك، في أفق عقد من الآن، باتجاه ترتيب محدود الالتزامات كالأمن المنسق (Coordinated Security)؛ بهدف خلق مناخ من الثقة المتبادلة(9). وينبغي التمييز هنا، على مستوى المفهوم، بين نظامي الأمن المنسق والأمن التعاوني ((Cooperative Security، فهذا الأخير يشير إلى تعاون غير رسمي بين الدول.

على صعيد خيار المعاهدات الثنائية والمتعددة للسلم والأمن الإقليمي، والتي قد تتخذ مسمى “معاهدة عدم اعتداء” بوجود أطراف ضامنة، يُمكن الإشارة بداية إلى أن معاهدة كهذه قد تتخذ، على مستوى الشكل، واحدًا من نموذجين: الأول، بين إيران (أو العراق) وكل دولة من دول الداخل الخليجي على حدة. وهذا النموذج هو السائد في تجربة العلاقات الدولية. أما النموذج الآخر فيتمثل في اتفاقية يكون أحد طرفيها إيران (أو العراق)، وطرفها الثاني مجلس التعاون الخليجي كمنظومة واحدة، كونه ممثلًا اعتباريًا لأعضائه. وهذا النموذج ربما يستدعي إطارًا قانونيًّا تمهيديًّا على مستوى المجلس ذاته.

وبطبيعة الحال، يبدو النموذج الثاني أكثر يُسرًا بالمعيار الإجرائي، لكنه أكثر تعقيدًا على مستوى حيثياته القانونية والدستورية، فضلًا عن السياسية.

أما الدول الضامنة، فتبدو عملية تحديدها ممكنة، في ظل المعطى السياسي الراهن؛ ويُمكن أن تتمثل في كلٍّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أو بعض دوله.

هذا الخيار يبدو منطقيًّا بوجه عام، ويُعدّ بالمدلول الفلسفي صورة من صور الدبلوماسية الوقائية. بيد أن المشكلة هنا تكمن في إمكانية تحوّله إلى بديل عن التفاعل الإيجابي الثنائي والمتعدد، وقد يحوِّل الحرب الباردة الإقليمية إلى سلام إقليمي بارد، لا دفء فيه.

الخيار الثالث، يتمثل في دخول دول النظام الإقليمي الخليجي الثُماني في شبكة مصالح مدنية متداخلة على نحو وثيق، بحيث يقود ابتعاد أيّ طرف منها إلى خسائر جسيمة وغير محمودة. وهنا يتحقق ما يُمكن أن نصطلح عليه بـ”الأمن من خلال الازدهار”. ونعني به ازدهار فرص التنمية والتكامل الإقليمي. هذا الخيار ينسجم مع مبدأ التعاون الإقليمي بمدلوله العام، وهو عديم المخاطر على العلاقات البينية بين وحدات الإقليم الثماني، ولا يصطدم من جهة أخرى، مع الخصوصيات المحلية لهذه الوحدات، ولا يتعارض مع شكل واتجاه خياراتها الخارجية.

إن دخول دول المنطقة في شبكة مصالح اقتصادية ومدنية يُمثِّل تعبيرًا أمنيًّا عن المنظور التنموي للأمن الإقليمي، الذي أثبت نجاحه في مناطق وأقاليم مختلفة من العالم، بما في ذلك أوروبا وأميركا الشمالية.

يبقى التشجيع على اعتماد الخيار الأخير، هو الأجدى والأيسر للولايات المتحدة من أجل إعادة توجيه التفاعلات البينية في النظام الإقليمي الخليجي، ليغدو قادرًا على استيعاب متغيّر السياسة الأميركية في المنطقة، والذي يُعدّ في الأصل متغيرًا تابعًا لمتغيّر السياسة الخارجية الأميركية في إطارها الكوني.

خاتمة

تمر السياسة الأميركية في الخليج بأحد منعطفاتها الأشد حساسية، وينبع ذلك من سعيها لإعادة بناء مسارات أمنية تنسجم ورؤية الولايات المتحدة للبيئة الأمنية الجديدة، وتلتقي مع متغيّر السياسة الخارجية لواشنطن على الصعيدين الإقليمي والكوني.

وهنا، تبرز حاجة أميركية للدفع بإعادة إنتاج جزئي لمسار التفاعلات في النظام الإقليمي الخليجي، لتغدو أقل صراعية، وأكثر ميلًا للتعاون، أو للانسجام العام في حدِّه الأدنى.

وهذا الشق من الأهداف يحمل طابعًا تاريخيًّا بالنسبة للسياسة الأميركية، ويحتاج تحقيقه إلى قناعة محلية مشتركة بأهمية مواكبته. وهناك الكثير من التحديات الماثلة للعيان، لكنها لا يُمكن أن تغدو، بمنطق السياسة، حاجزًا لا نهاية له أمام التعاون الإقليمي. وعلى العكس من ذلك، يُمكن النظر إليها على أنها محفِّز للعمل في هذا الاتجاه.
_________________________________________
عبد الجليل زيد المرهون – خبير في قضايا التسلّح والأمن الإقليمي.

المراجع
1- SHANKER, THOM, and LEE MYERS, STEVEN, U.S. Is Planning Buildup in Gulf After Iraq Exit, The New York Times, October 30, 2011, at: http://query.nytimes.com/gst/fullpage.html?res=9C04E7DB113DF933A05753C1A9679D8B63&scp=108&sq=Gulf%20nations&st=nyt&pagewanted=2
2- U.S. plans for Middle East missile shield take shape, Reuters, May 27, 2010, at: http://uk.reuters.com/article/idUKTRE64Q6U120100527
3- Transportable Radar Surveillance (AN/TPY-2), The Missile Defense Agency (MDA), at: http://www.mda.mil/global/documents/pdf/an_tpy2.pdf
4- U.S. plans for Middle East missile shield take shape, Op.Cit.
5- Mahoney, John and Fletcher, Seth, Disabled U.S. Satellite Reportedly Shot Down, popsci.com, February 21,2008, at:
http://www.popsci.com/military-aviation-space/article/2008-02/disabled-us-satellite-reportedly-shot-down
6- Blackwell, James, The Thunder in the Desert: the Strategy and Tactics of the Persian Gulf War, New York :Bantam Books,1991,p.p.79-87; Tucker, Robert, Intervention and the Reagan Doctrine, New York: Council on Religious and International Affairs, 1985; Record, Jeffrey, Jousting with Unreality: Reagan’s Military Strategy, International Security, Vol. 8, No. 3, Winter 1983-84, pp. 3-19 ; Thomas L, McNaugher, Balancing Soviet Power in the Persian Gulf, Brookings Review, Vol. 1, No. 4 ,1983, pp. 20-25, and W DeForth, Peter, U.S. Naval Presence in the Persian Gulf, The Mideast Force Since World War II., Naval War College Review, Vol. 28, No. 1,1975, pp. 28-38.
7- Peretz, Don, U.S. Middle East Policy in the 1990′s, in Robert O. Freedman, The Middle East and the Peace Process (Ed.), Gainesville: University Press of Florida, 1998, pp. 347-364; Mylroie, Laurie A., After the Guns fell Silent: Iraq in the Middle East, Middle East Journal, Vol. 43, No.1, Winter 1989, pp. 51-67, and Smart, Ian, Oil, the Super-powers and the Middle East, International Affairs,Vol.53, No. 1, January 1977, pp. 17-35.
8- REMARKS BY PRESIDENT OBAMA AND PRIME MINISTER AL-MALIKI OF IRAQ IN A JOINT PRESS CONFERENCE, THE WHITE HOUSE, Office of the Press Secretary, December 12, 2011, at:
http://iipdigital.usembassy.gov/st/english/texttrans/2011/12/20111212160932su0.5256703.html#axzz2BbFoP1b7
9- Vayryan, Raimo, Regionalism: Old and New, International Studies Review, Vol. 5, 2003, pp.25-51.

عبد الجليل زيد المرهون
 المصدر: مركز الجزيرة للدراسات