جدل الرئيس.. كردستان تغلي

جدل الرئيس.. كردستان تغلي

تبدو اوضاع اقليم كردستان هذه الايام مقلقة للغاية، مع تزايد خلافات القوى السياسية بشأن موضوع رئاسة الاقليم، والتي وصلت الى مستوى خطير، ينذر بعودة انقسام الإقليم إلى ادارتين، إذ تعمق الجدل بهذا الصدد الخلاف بين الاطراف الكردية، التي لم تتوافق على آلية لحسم هذا الموضوع الذي يهدد مستقبل الاقليم، حيث عقد برلمان اقليم كردستان في 23/6/ 2015، جلسته الاعتيادية والتي طرح فيها مشروع قانون يقضي بتحويل نظام الرئاسة في الاقليم من رئاسي الى برلماني.
ويدور الآن صراع يتسيّده الحزب “الديمقراطي” الكردستاني، الذي يريد بقاء مسعود البرزاني رئيساً، متذرعاً بتعقيدات الوضع العام والحرب، حتى إن أعضاء الحزب، يعتبرون أن “زعيمهم بات يحمل نوعاً من الحصانة، التي تضعه بمكانة تفوق حتى كرسي رئاسة الإقليم”. ومن جهة أخرى، ترفض أحزاب أخرى “حصانة” البرزاني وتتمسك بالعملية الديمقراطية في الإقليم، وتطالب بإجراء انتخابات الرئاسة وعدم التهاون في الموضوع.
وكان الرئيس مسعود البرزاني قد امضى عشر سنوات في منصبه، بعد أن اختاره البرلمان كأول رئيس للإقليم في العام 2005، ثم أُجريت انتخابات لاختيار رئيس جديد، تنافس فيها عدد من المرشحين، وفاز فيها البرزاني مجدداً في العام 2009. ومع انتهاء ولايته الثانية في العام 2013، وانشغال برلمان كردستان بوضع مشروع دستور للإقليم، يطرح على الاستفتاء العام ليدخل حيز التنفيذ، دون تحقيق أي تقدّم يسمح بالبت بإجراء انتخابات جديدة لرئاسة الإقليم، تم التوافق على تمديد ولاية الرئيس لعامين.
إلا أن مشروع الدستور بأكمله وُضع جانباً في حزيران/ يونيو 2014، بعدما دخل الأكراد في حرب هي الأعنف لهم مع تنظيم “الدولة الإسلامية”، مانحة الرئيس مسعود البرزاني “شرعية شعبية”، كونه القائد العام لقوات “البيشمركة”، ودائم التواجد في جبهات القتال، والمشرف على المعارك والمخطط لها، ما دفع بسياسيين أكراد بارزين من أحزاب مختلفة، إلى طرح فكرة بقاء البرزاني في رئاسة الاقليم لحين انتهاء الحرب ضد “داعش” في أقل تقدير.
ولم يؤدي المرسوم الاقليمي، الذي اصدره مسعود البارزاني، في 13/6/2015، حول اجراء الانتخابات العامة لاختيار رئيس اقليم كردستان في الـ20 من شهر آب/اغسطس المقبل، الا إلى المزيد من الاعتراضات الحزبية، والتي كملها العديد من المتغيرات الاخرى التي جعلت الامر على درجة من التعقيد، أولها الاوضاع العسكرية والسياسية، وما شهده الاقليم من احتقانات ومخاوف بعد تهديد تنظيم “الدولة الاسلامية” اربيل، حيث تجري عمليات التصدي له وسط أجواء شديدة التوتر وفي جبهة مفتوحة وعلى حدود تمتد بطول 1050 كيلومتراً، تبدأ من محافظة ديالى، شمال بغداد، وتنتهي في سنجار غرب العراق، اضف إلى ذلك تصاعد الجدل الواسع النطاق بين المركز والاقليم حول العمليات العسكرية وتسليح “البيشمركة”، وما كان بارزاً هنا الهجوم الشد والجذب والاتهامات المتبادلة بينهما.
والامر الملحوظ في تجربة الحكم الكردية، انزعاج الأحزاب في الاقليم من هيمنة الرئيس مسعود البرزاني على العملية السياسية، والتي تتهمه بالانفراد بالسلطة كليا. وبذات المعنى، فان تنامي الصراع المعلن – والخفي أيضاً – بين البرزاني ومعظم الاحزاب والقوى السياسية الكردية، يهدف الى كسر احتكار الحزب “الديمقراطي الكردستاني” ورئيسه البارزاني للسلطة في الاقليم، وتحقيق أكبر قدر ممكن من المشاركة السياسية في اتخاذ القرار وادارة شؤون الاقليم، لاسيما فيما يتعلق بالشؤون الامنية والاقتصادية.
ومع اعتماد الاقليم على المحاصصة في الإدارة والحكم تماهيا مع تجربة بغداد بهذا الصدد، وان بدت بطابع حزبي بين الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، بزعامة رئيس الاقليم مسعود البرزاني، فان مزيدا من الانقسام الحزبي قد تعزز، مفضيا إلى تعقيد ازمة القيادة في الاقليم، ومنسحبا على تقاسم المناصب في الحكومة الاتحادية. على ان الاقليم سبق وان شهد اقتتالا دمويا امتد من 1994 لغاية 1998 ، لم يتوقف الا بعد تدخل الإدارة الأمريكية واجبار الحزبين على ابرام اتفاق سلام في واشنطن عام 1998.
ورغم ذلك، بقيت منطقة كردستان منقسمة، بين إدارتين، الأولى تحت حكم الديمقراطي الكردستاني، تضم محافظتي أربيل ودهوك . والثانية، تحت حكم الاتحاد الوطني، وتضم محافظة السليمانية . وبقي الوضع على ما هو عليه، حتى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 بل حتى بعد دمج الإدارتين، وتشكيل حكومة موحّدة، وانتخاب البرزاني رئيساً للإقليم سنة 2005.
ثم ان هناك انقسام آخر، إذ يعتبر الاتحاد الوطني نفسه حزبا يساريا علمانيا، وينظر الى الديمقراطي الكردستاني على أنه حزب “ريفي، قبلي، يمثل الاقطاع وارستقراطيّة القبيلة”. بينما ينظر الديمقراطي الكردستانيّ للاتحاد على أنه “حزب البرجوازيّة والبرجوازيّة الصغيرة، التي تسعى لحماية مصالحها على حساب المصلحة العامّة”. ويرتبط ما تقدم بتداخل الصراع على الرئاسة وهوية النظام السياسي في كردستان، مع التحولات في الإقليم المحيط به، إذ انشطر الاكراد ما بين دعم “حزب العدالة والتنمية” والرئيس رجب طيب أردوغان، مقابل علاقات تاريخية وطيدة بين الاتحاد الوطني برئاسة مام جلال الطالباني مع إيران، ولا يخفي كل من حركة التغيير وبعض إسلاميي كردستان، انزعاجهم من التغلغل التركي في الشأن الكردي، وربما كان هذا سببا للتوافق مع الاتحاد الوطني في السعي لتغيير هوية النظام ومنع الولاية الثالثة عن رئيس الإقليم.
ويطالعنا صراع بدأ منذ زمن وبدفع إيراني، يراد به اقلاق كردستان وتسخين اوضاعها، وجعل قضية استمرار مسعود البرزاني في منصبه رئيساً لفترة جديدة، الحدث الأكثر خلافا في الاقليم. ومن جهة اخرى فان تحجيم دور الاقليم، بعد نجاح الرئيس في تعزيز المكانة الكردية على صعيد العراق وخارجه، وما حققه في الحرب ضد “داعش”، واتخاذه مواقف حازمة ومستقلة تحد من التدخل الايراني في الاقليم خصوصاً وان إيران تعتقد أن البرزاني منع الشيعة من إحكام السيطرة على كل العراق، عندما تمسك ببقاء الدور السُني والكردي في العملية السياسية.
كما تبدي طهران قلقا متزايدا من احتمال محاولة أكراد العراق نيل استقلالهم، فوجود دولة كردية مستقلة في الجوار انما يحفز الأقلية الكردية في إيران بشيء مماثل من خلال تسجيل سابقة خطيرة في البلد متعدد الإثنيات والانتماءات. وثانياً، فان الخشية الايرانية تدور حول تأثيرات كل من تركيا وإسرائيل على الاقليم، وهما خصمي إيران الإقليميين. وبالتالي منع تحقيق أي كسب جيوسياسي تركي وإسرائيلي على حساب طهران.
مع ذلك، فإن غالبية المسؤولين الإيرانيين يرون أن البرزاني ملتزم بقوة بالاستقلال الكردي، ويرون أنه يناور من أجل الاستفادة من الظروف السائبة سياسياً في العراق وفي الشرق الأوسط لطرح هذه المحاولة. نشير هنا إلى ما حذر منه علنا حسين أمير عبد اللهيان، نائب وزير الخارجية الإيرانية المسؤول عن الشئون العربية والإفريقية، من ان “كل الفصائل العراقية يجب أن تحترم دستور البلد… ومنع البلد من الانقسام”. ووفق كلمات عبد اللهيان، فإنه يجب على أكراد العراق “مواجهة الحقيقة”. ما يعني القبول بأن تفعل طهران ما تستطيع فعله لمنع اقتطاع كردستان مستقلة في شمالي العراق.
وما ادركته إيران مبكرا، بان تكون كردستان مستقلة وعلمانية بمثابة العقبة جيوسياسية وأيديولوجية لها، وبالتالي فان مقاربتها حيال الاقليم اتخذت بعدا حركيا هادئا، جرى من خلاله توظيف علاقات تاريخية مع اطراف حزبية كردية، لدعم وجهات النظر الايرانية حيال الاحداث الجارية في العراق. وتمكنت في الوقت ذاته من نزع تأثير السنة وتحجيم دورهم، وتشكيل طبقة سياسية سنية ارتبطت مصالحها الضيقة بنهج المحاصصة، تتحرك باتجاه البوصلة الحكومية، والتي تتأثر على نحو كبير بالإرادة الايرانية.
وفي الغالب فان الاوضاع الاقتصادية في الاقليم، تركت آثارها على الاوضاع السياسية هناك، ما ادى الى احتدام الجدل حول الفساد والاستخدام غير القانوني للسلطة، اضف إلى ذلك ما ترتب على انخفاض سعر النفط، تقليص إيرادات الحكومة بينما تسبب الخلاف الطويل حول الميزانية مع السلطات الاتحادية في بغداد في وقف التحويلات المالية إلى العاصمة الكردية أربيل، الامر الذي حال دون دفع الرواتب الحكومية منذ أشهر.
جدل الرئيس في كردستان من شأنه ان يضع الاقليم في اتون صراعات مستقبلية، تكرس استقطابا حادا على خلفية استبدل “التوافق” بـ”القانون”.

هدى النعيمي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية