بكين تمنع الاختراقات الخارجية بسياسة “التصيين”

بكين تمنع الاختراقات الخارجية بسياسة “التصيين”

منذ تبنّيها لما عُرف بسياسة الإصلاح والانفتاح في العام 1978، عملت الصين على انتهاج سياسات جديدة أكثر مرونة تجاه الأديان التي ظلت تكافح للبقاء في محيط لا ديني، وهو ما لمسته «العرب»، خلال زيارة للصين اطلعت خلالها عن قرب عن حياة الصينيين المسلمين، وغيرهم، واطلعت عن قرب عن سياسة التصيين التي تنتهجها الحكومة لحماية خصوصيات البلاد وصد محاولات الاختراق الخارجية، عبر الطوائف والأقليات.

بكين- خلال العقود الأربعة الماضية وفي أعقاب “الثورة الثقافية” التي ضيّقت من هامش التنوع الثقافي والديني في الصين، سعت الحكومات الصينية المتعاقبة إلى خلق مسار جديد في التعامل مع الأديان.

ولم يكن من السهل تطبيق هذه السياسة في بلد شيوعي يكافح للمواءمة ما بين لا دينية الدولة وما بين ضرورة التعامل مع الأديان كأمر واقع، بالتزامن مع العمل على تكريس الخصوصية الصينية الطاغية في مختلف مناحي الحياة وتحويل الديانات الخمس في البلاد (الطاوية والبوذية والإسلام والبروتستانتية والكاثوليكية) إلى نسخ صينية خالصة، في سياق السياسة التي ينتهجها الحزب الشيوعي الصيني الحاكم والتي تحمل عنوانا عريضا وصادما وواقعيا هو “تصيين الأديان”.

وفقا لما جين، نائب رئيس دائرة الاثنا عشر في إدارة الجبهات الموحدة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني التي تتولى الإشراف على شؤون الأديان في الصين، تم ضم مصلحة شؤون الأديان إلى دائرته في سياق الإصلاحات التي اتخذها الحزب الشيوعي الصيني والتي حاولت الحكومة الصينية التعبير عنها من خلال إصدار الكتب البيضاء التي تعرف بالتطورات التي شهدتها حريات الاعتقاد الديني في الصين.

ويقول ما جين، لـ”العرب” إن الدائرة الاثنا عشر التي ينوب رئاستها تتولى تقديم الخدمات للصينيين المتدينين وتكفل الحقوق المشروعة للأوساط الدينية في الصين، وضمان حرية الاعتقاد الديني لحوالي مئتي مليون صيني ينتمون إلى الأديان الخمسة الذين يمارسون شعائرهم في أكثر من 14 ألف دار مخصصة للعبادة إلى جانب 5500 مؤسسة دينية، يقوم على إدارتها حوالي 38 ألف شخص، وينظمون شؤونهم من خلال خمس جمعيات رئيسية من بينها الجمعية الإسلامية وجمعيات فرعية في المدن الصينية.

ويشير ما جين إلى أن الإحصاءات التي قدمها الكتاب الأبيض في العام 1997 والكتاب الصادر في 2018 تعكس حالة التطور التي شهدتها حرية الأديان، من خلال رصد الزيادة في عدد دور العبادة بين هذين العامين.

وعلى سبيل المثال ارتفع عدد دور العبادة للمسلمين بقومياتهم العشر من حوالي 30 ألف مسجد إلى أكثر من 35 ألف مسجد، وذات الأمر ينطبق على الديانات الأخرى مثل الطاوية والبوذية والمسيحية بشقيها الكاثوليكي والبروتستانتي. ووفقا لما جين فقد ضاعفت الحكومة الصينية من اهتمامها بالأديان في الصين في أعقاب المؤتمر الثامن عشر للحزب الشيوعي الصيني، الذي حث على تشجيع المتدينين على الانخراط في المجتمع الصيني بفاعلية وتقديم المساهمات المجتمعية.

أربعة مبادئ
عن المعايير الأساسية التي تحكم العلاقة بين الدولة الصينية والأديان، يقول ما جين إن السياسة الدينية التي تنتهجها الحكومة قائمة على أربعة مبادئ هي:

● حرية الاعتقاد الديني التي تتضمن حماية المتدينين والنشاطات الدينية المشروعة.

● التعامل مع المتدينين ومع غير المتدينين بمساواة أمام القوانين.

● إدارة الشؤون الدينية حسب القوانين والتمسك بالاستقلالية وإدارة الذات وهو ما يعني عدم ارتباط المؤسسات الدينية في الصين بالخارج بأي شكل من الأشكال. وبحسب ما جين فقد بادرت المؤسسات الدينية المسيحية في الصين بفك ارتباطها مع الخارج في تعبير عن إنهاء حالة الارتهان بالغرب التي كانت سائدة في الماضي، وهو الأمر الذي حذت حذوه الأديان
الأخرى.

● يرسم المبدأ الرابع علاقة الصين بالديانات الخمس المتواجدة فيها بإرشاد وحث تلك الأديان على التناغم مع المجتمع الاشتراكي، بهدف جعل المتدينين الصينيين يحبون الوطن أكثر ويساهمون بقدر أكبر في تطوير المجتمع، بحسب المسؤول في الحزب الشيوعي الصيني الذي أكد على تقديم الأوساط الدينية مساهمات مهمة في ما يتعلق بتطوير الاقتصاد، وتناغم المجتمع وازدهار الثقافة ووحدة القوميات ووحدة الوطن.

ويشدّد نائب رئيس دائرة الاثنا عشر في إدارة الجبهات الموحدة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على تمسّك الصين بسياسة “تصيين الأديان”، وهو الأمر الذي أشار إلى تأكيد رئيس مجلس الدولة الصيني عليه في المؤتمر العام للمؤتمر الوطني لنواب الشعب الذي عقد في بكين مؤخرا، والذي تضمن تقريره التمسك باتجاه “تصيين” الأديان الموجودة في الصين وإدارة تلك الأديان بحسب القوانين الصينية والعمل على الاستفادة من مساهمات الأوساط الدينية في بناء المجتمع المتطور اقتصاديا، وهو ما يتم عبر إشراك المتدينين في مؤسسات الدولة على مستويات مختلفة، حيث يتواجد خمسة نواب في المؤتمر الوطني لنواب الشعب وأربعة عشر عضوا في المجلس الاستشاري السياسي الوطني ينتمون للأديان الخمسة في الصين، ويساهمون في رسم السياسات واقتراح الحلول.

ويقدّم المسؤول في الحزب الشيوعي تفسيرا لمفهوم “تصيين الأديان” مشيرا إلى أن ذلك يعني شرح الأديان من خلال القيم الاشتراكية الصينية والحضارة الصينية العريقة، كما يعني محافظة تلك الأديان بالتعاليم الجوهرية لعقائدها الأساسية، إلى جانب الاندماج في الحضارة الصينية حتى تتمكّن من تقديم مساهمات قيّمة، لتطوير الوطن وتحقيق الحلم الصيني بالنهضة الكبيرة.

طريق حرير ثقافي
في معرض حديثه عن العلاقات التاريخية الصينية العربية، يشير ما جين إلى دخول الإسلام للصين عبر طريق الحرير في القرن السابع الميلادي. وبدأ بناء أقدم المساجد في شيآن عاصمة الصين القديمة وبعض المدن الساحلية جنوب الصين، مثل جوانزو في عهد أسرة مينغ التي شهدت قيام رحالة صيني مسلم بأول رحلة حج.

ويؤكد ما جين أنه بعد تأسيس الصين الجديدة شهد الاهتمام بالأديان تطورا لافتا، وتم دعم المؤسسات الدينية الإسلامية الصينية لإقامة علاقة ودية مع الدول العربية، حيث تم في عام 1953 تأسيس الجمعية الإسلامية الصينية التي سعت إلى تنظيم مشاركة المسلمين الصينيين في فريضة الحج، غير أن ذلك لم يتحقق حينها بسبب عدم وجود علاقات دبلوماسية بين الصين والسعودية آنذاك، إضافة إلى الحصار الغربي الذي كان مفروضا على الصين.

ويلفت المسؤول في الحزب الشيوعي الصيني إلى حرص القيادة الصينية على مشاركة المسلمين الصينيين في الحج، حيث عقد العام 1955 مؤتمر باندونج لدول العالم الثالث في إندونيسيا، وشارك في هذا الاجتماع رئيس مجلس الدولة الصيني آنذاك والتقى بالمسؤولين السعوديين في المؤتمر الذين وافقوا على منح تأشيرات للحجاج الصينيين.

وتم في ذات العام توجيه دعوة إلى وزير شؤون الأوقاف المصري لزيارة الصين، وتعززت العلاقات العربية الصينية لاحقا، من خلال تشكيل رؤساء الجمعيات الإسلامية الصينية وفودا للحج وقيامهم بالعديد من الزيارات للدول العربية.

ورافق سياسة الإصلاح والانفتاح التي انطلقت في الصين قبل أكثر من أربعين عاما خطوات في اتجاه تعميق العلاقات الصينية العربية في العديد من الجوانب، ومن ذلك عقد اتفاقات التبادل الثقافي بين الحكومة الصينية والحكومات العربية.

وتم دمج التبادل الديني ضمن هذه الاتفاقيات والتي تشتمل على إقامة المعارض وإرسال المدرّسين والطلاب وإقامة بعض المعاهد الثقافية الإسلامية، كما ترتبط الجمعية الإسلامية الصينية بعلاقات ثنائية مع المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر ورابطة العالم الإسلامي والمؤتمر العالمي للمسلمين.

ظلت الصين في منأى عن تفاعلات تيارات وجماعات ما بات يُعرف بالإسلام السياسي، غير أن الخطاب السياسي والإعلامي في الصين بات أكثر اهتماما بمصطلحات التطرف والإرهاب إثر الأحداث التي شهدتها بعض مناطق إقليم شنجان في أقصى شمال غرب الصين، والتي تقطنها أغلبية مسلمة من عدة قوميات من بينها أقلية الإيغور التي يتردد اسمها كثيرا في الآونة الأخيرة، وخصوصا في الإعلام الغربي الذي يتحدث عن تعرض هذه الأقلية لحملات اضطهاد وقمع للحرية الدينية وإيداع ما يقارب المليون من أبنائها في معسكرات اعتقال جماعية.

وترفض الحكومة الصينية المزاعم الغربية معتبرة أنها جزء من الحملة التي تستهدف حالة الانسجام في المجتمع الصيني بين دياناته وقومياته المختلفة الست والخمسين، التي تشكل 55 منها أقليات إلى جانب أغلبية الهان بما يزيد عن 90 بالمئة من إجمالي عدد السكان.

ويعلق ما جين على تقارير تعرض الإيغور للاضطهاد بالقول إن عدد المسلمين في إقليم شنجان ذاتي الحكم ويتجاوز عشرة ملايين نسمة، وكذلك القوميات المسلمة في هذا الإقليم متعددة.

ويشير إلى أن عدد المساجد في مقاطعة شنجان وحدها 24 ألف مسجد من بين إجمالي عدد المساجد في الصين والذي يبلغ 35 ألفا، فيما يبلغ عدد الأئمة في المقاطعة وحدها 28 ألفا من بين عدد الأئمة في الصين الذي يبلغ 50 ألفا.

وعن حقيقة وجود مراكز اعتقال تضم مئات الآلاف من أبناء الإيغور في إقليم شنجان، نفى ما جين وجود مثل هذه المعتقلات، مشيرا إلى إنشاء مراكز للتدريب المهني تتمتع بظروف جيدة، وتهدف إلى إعادة تأهيل بعض الأشخاص الذين تأثروا بالأفكار المتطرفة أو لم ترق مشاركتهم في النشاطات الإرهابية إلى مستوى خطير، حيث يتم تدريسهم قوانين الدولة واللغة الرسمية وبعض المهن تمكّنهم من الحصول على فرص عمل بعد مغادرتهم مراكز التدريب، ويتعلمون كيفية الابتعاد عن الأفكار المتطرّفة تمكّنهم من الاندماج في المجتمع بشكل أفضل.

ويرجع ما جين المواضيع المثارة حول ملف الإيغور إلى عدد من الأسباب يأتي في مقدمتها المعايير المزدوجة التي قال إن الغرب ينتهجها، وعدم رغبته في في رؤية النجاح الاقتصادي الذي تحققه الصين في ظل النظام الاشتراكي.

ويعتبر ما جين أن مشكلة الإرهاب التي يعاني منها العالم موجودة بشكل أو بآخر في منطقة شنجان الصينية، مشيرا إلى تأثر هذه المقاطعة بموجات التطرّف والإرهاب القادمة من آسيا الوسطى وغرب آسيا، إلى جانب الدعوات الانفصالية التي ترتبط بصلة وثيقة بالتطرف والدعوة إلى ما تعتبرها تلك الجماعات حربا مقدسة “جهاد” والتي كان من نتائجها على سبيل المثال إقدام الإرهابيين على قتل رئيس الجمعية الإسلامية في المقاطعة.

ويضيف أن الحكومة الصينية تتعامل بشكل صارم مع هذه الحركات وهو ذات الأمر الذي ستتخذه أي حكومة في العالم تجاه ما تعتبره إرهابا، لافتا إلى أن الحكومة الصينية أصدرت كتابا أبيض حول جهودها لمكافحة التطرّف والإرهاب وحقيقة ما يجري في إقليم شنجان.

مسلمون بهوية صينية
يتمتع المجتمع الإسلامي في الصين بخصائص فريدة تميّزه عن باقي المسلمين في العالم، حيث يطغى الانتماء الوطني والقومي على ملامح الهوية الشخصية للمسلم الصيني، وتتبدّى بشكل جليّ هذه الخصوصية من خلال عمارة المساجد في الصين التي تتطابق كليا مع قوانين العمارة الصينية، ما يكشف عن الانحياز المبكّر لمسلمي الصين لثقافتهم الوطنية. ويبدو الجامع الكبير في مدينة شيآن، العاصمة القديمة للصين امتدادا لفن العمارة السائد في عهد أسرة تانغ.

ولم يحمل المسجد الذي يعدّ واحدا من أوائل المساجد التي شيّدت في الصين سنة 742 للميلادي مؤثرات لموجة المدّ الإسلامي القادم عبر طريق الحرير البحري القديم. ويشير أحد القائمين على الجامع الذي يقع في قلب مدينة شيآن إلى أحد الأبراج الصينية القديمة في منتصف المسجد تقريبا، مؤكدا أن هذه هي المئذنة والتي لم تتأثر بفن العمارة الإسلامي كبقية المساجد في العالم التي تعدّ المآذن الإسلامية التقليدية قاسما مشتركا في بنائها. وقال إن بعض أجزاء هذا المسجد التاريخي ساهم في بنائها وتصميمها بعض أفراد السلالات الإمبراطورية الحاكمة في الصين.

وعن مغزى هذا التناغم والتماهي الثقافي بين مسلمي الصين وبلدهم الأم، أضاف أن المسلمين في الصين حرصوا على مرّ التاريخ على التأكيد على هويتهم الصينية التي لا تتعارض مع دياناتهم، وأن هذه الرسالة ساهمت في طمأنة العديد من السلالات الإمبراطورية الحاكمة التي تعززت لديها حالة الانتماء الحقيقي إلى الصين من قبل المسلمين، وأنهم جزء أصيل وليس دخيلا على المجتمع الصيني والثقافة الصينية.

ويقع الجامع الكبير بشيآن في قلب المدينة القديمة محاطا بسور، وداخل هذا السور تتواجد غالبية مسلمة، يمكن تمييزها بسهولة من خلال القبعات البيضاء التي يعتمرها المسلمون الصينيون، إضافة إلى لافتات المحلات التجارية والمطاعم التي لا يخلو معظمها من كلمة “حلال” المكتوبة بالعربية. ويتميز جامع شيآن بكتابة القرآن الكريم كاملا على جدرانه الداخلية على خلفية من الخشب، باللغتين العربية والصينية.

العرب