الأزمة الإيرانية ـ الأمريكية والخسائر العراقية

الأزمة الإيرانية ـ الأمريكية والخسائر العراقية

الواقع على الأرض أنه ارتفعت سخونة التهديدات بالحرب بين (أمريكا وإيران) لتنتقل من فضاء الإعلام والتحريض وتهيئة الرأي العام الأمريكي والشرق أوسطي، إلى مستوى الإجراءات الوقائية والاستعدادات اللوجستية، فقد سعت لتشكيل حلف دولي من تسع دول بقيادتها، ويضم (مجلس التعاون الخليجي) لمواجهة الخطر الإيراني، ناهيك عن التهديدات الصريحة من قبل دونالد ترامب ووزير خارجيته وأركان حربه، بتوجيه ضربات ساحقة لإيران، تقابلها تهديدات أكثر نارية لقادة إيران ضد أمريكا وإسرائيل.
صوت الحرب هو الأعلى في أفق الأيام المقبلة، واللافت في ملف الصراع الامريكي الإيراني، دخول إسرائيل (العملي) على خط الحرب المباشرة في ضرب قواعد ووجود القوات الإيرانية في سوريا، والتهديد بملاحقتها في العراق ولبنان وداخل إيران، وادعائهم وجود مخازن للسلاح الذري في إيران، كما أعلنها رئيس وزراء إسرائيل، في خطابه في الأمم المتحدة وعرضه لصور ووثائق، الأمر الذي يجعل جدية الحرب تتقدم، في ظل انعدام أي مبادرات دولية للحوار والسلام، ما يجعل الشرق الأوسط يقترب من شفا بركان، إذا انفجر فسوف تحدث كارثة كبرى.
اندلاع الحرب يعني اشتباك جبهة أمريكا وإسرائيل ومنظومة دول الخليج والدول الحليفة لها، مقابل جبهة إيران وحلفائها في الشرق الأوسط، ولن تقف بقية الدول مثل تركيا وروسيا وغيرهما موقف المتفرج، بل ستتدخل لحماية مصالحها وفرض إرادتها، ما يجعل الشرق الأوسط يشتعل بحرب واسعة النطاق ومتعددة الخنادق. هذه وِكالة رويترز تنقل عن مصادر نفطية وأمنية أن شركة «إكسون موبيل» الأمريكيةَ أجلت جميع موظفيها من حقل غرب «القرنة 1 النفطي» في محافظة البصرة جنوب العراق إلى دبي. حيث تم إخلاء 28 موظفاً في ليلة واحدة إلى المطار والباقين إلى المخيم، وتم إخلاؤهم إلى المطار ولم يبق في الحقل أي موظفين». الإخلاء تم على عدة مراحل بين مساء الجمعة وصباح السبت. نعم هي بدايات ملحوظة من حظر في القنصليات بين (أربيل وبغداد) وكأن العراق تنقصه نزاعات وتصفيات حسابات بعد دمار (أمريكي- عربي) لقرابة الثلاثين عامًا.. ففي ظل التحشيد العسكري المتصاعد بين إيران والولايات المتحدة، وبعد إرسال حاملة الطائرات إبراهام لينكولن، دخلت الجبهة العراقية على الخط، وطار بومبيو، إلى بغداد حاملاً صوراً تؤكد على أن قوات «الحشد الشعبي» العراقية، نصبت شبكة صواريخ قرب القواعد الامريكية على الحدود السورية استعدادًا لضربها.
بالعودة لواقع الأمر على الأرض نجد أن الإدارة الأمريكية سحبت معظم طاقم سفارتها في بغداد، تحسباً لحدوث هجَمات، وطلبت من رعاياها عدم السفر إلى العاصِمة العِراقية، مع التأكيد على أنها تلقت معلومات بأن هناك مخاطر، مَبعثها أن إيران تُهدد مصالحها، تماماً مثلما فعلت الشيء نفسه عندما تعرضت سفارتها في المِنطقة الخضراء الأضخم في العالم، وقنصليتها في البصرة لهُجومٍ بالصُواريخ في سبتمبر/أيلول الماضي، فقلصت الأُولى، وأغلقت الثانية خوفاً ورُعباً. وسط ذلك هل رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي لا يستطيع حماية القوات الأمريكية، أو لجم أي عمل يُمكن أن تُقدم عليه فصائل الحشد الشعبي ضدها؟ هنا بومبيو ذهب إلى العنوان الخطأ، فهذه الفصائل التي يبلُغ تِعداد قواتها 150 ألفًا، ومُجهزة بمَعدات ثقيلة، تُعتبر أقوى من الجيش العراقي نفسه، والأمر الثاني، أن معلومات بومبيو عن خطر هذه الفصائل على المصالح الأمريكية لم تُقنِع أحداً بِما في ذلك الحُلفاء في أوروبا، وهذا ما أكده الجِنرال كريس غيكا البريطاني، المُتحدث باسم التحالف الدولي في العِراق وسوريا على «أن مُستوى التهديد الذي تُشكله هذه الفصائل المُوالية لإيران ضَد القوات الأمريكية لم يتصاعد»، أي أنه يقول وباختصارٍ شديدٍ لبومبيو: (أنت كاذب).

العراق سيكون مسرحاً لصراع الآخرين، وأي طرف ينتصر في هذه الحرب المدمرة فلن يقبض العراق سوى الخراب والتدمير

بالعودة إلى الداخل الأمريكي نجد أن ترامب الذي أرسل حاملات الطائرات والسفن والقاذفات العِملاقة إلى الخليج لإرهاب الإيرانيين، بات الآن هو المذعور الذي لا يعرِف من أين سيأتيه ولقُواته الخطر، والأهم من ذلك أنه لم يعُد يتحدث مُطلقاً عن المرحلة الثانية من العُقوبات التي فرضها على طِهران، أي «تصفير الصادرات النفطية الإيرانية»، وبات يُرسل الوسطاء لاستِجداء حل تفاوضي. وهو القائل إنه «سيرُد بقوةٍ على أي عدوان تتعرض له أمريكا ومصالح حُلفائها في المِنطقة»، إلى ذلك فهو يرُد ويُرسل وزير خارجيته إلى العِراق لتأمين أرواح قواته، وفُرصه الانتخابية لدورةٍ رئاسيةٍ ثانية، لأن مقتل جندي أمريكي واحد في العِراق يعني انهيار طُموحاته في هذا المِضمار. واقع الأمر يؤكد أنه لا أحد يُريد الحرب في الشرق الأوسط، باستِثناء الثلاثي (بومبيو وبولتون ونتنياهو) الذين يُحرضون عليها، وأي خطأ أمريكي سيجعل إدارة ترامب، وأمريكا عامةً، تدفع ثمناً باهِظاً، مادياً وبشرياً.. هنا نكاد نجزِم بأن جُندياً أمريكياً واحِداً من تِلك القوات الموجودة في العِراق وسوريا لن يعود حياً إلى بلاده.. ناهيك من أولئك الذين يُرابطون فوق السفن وحامِلات الطائرات، ولا نتحدث هُنا عن الحُلفاء الذين سيُشاركون في هذه الحرب، أو سيكونون ميدانها، فهذا تحصيل حاصِل، وسيُترَك أمرهم لمن يتولى ذلك.
على الجميع أن يتذكر جيداً، أنه سبق أن وثقت منظمة اليونيسيف آثار الحصار على العراق بقولها إن خمسة آلاف طفل عراقي كانوا يموتون شهرياً بسبب هذا الحصار، ووثقت مؤسسة الأبحاث البريطانية «أو آر بي» موت 2.1 مليون مدني عراقي منذ الغزو الأمريكي للعراق حتى 2007، المسؤولون عن قتل العراقيين بالحصار والعدوان العسكري ليسوا بوش الأب والابن وثاتشر وبلير فقط، بل كل من أعطى الذرائع لهذا الحصار والعدوان. مع مرور العقود جاء ترامب وبومبيو والحلفاء في جوار العراق.. فهل أضحى العراق ضحية بين خطيئة سابقة لبعض العرب وخطايا حكام أمريكا؟ عليه فالعراق المقسوم بين إيران وأمريكا، هل سيكون ساحة حرب، وهل يدخلها بالإنابة عن هذا الطرف أو ذاك؟ فالعراق أضحى اليوم هو الخط الأقوى من العراق الأمريكي، ووجود الأذرع العسكرية لعشرات الاحزاب والتنظيمات والمليشيات التابعة لايران وتهديدها الصريح لأمريكا، يضع العراق في حسابات الربح والخسارة للطرفين، وفي ظل حكومة عراقية تعاني تشتتا في الموقف الوطني، وهيمنة الاستقطابات الطائفية والعرقية، فإن العراق سيكون مسرحاً مفتوحا لصراع الآخرين، وأي طرف ينتصر في هذه الحرب المدمرة فإن العراق لن يقبض سوى المزيد من الخراب والتدمير، ولن يكون بمأمن من التقسيم الجغرافي أيضا، أو حسب مقتضيات المنتصر في تلك الحرب، وضرورات إعادة رسم وتوزيع جغرافياً الشرق الأوسط، بما يتناسب مع استراتيجية الدول المنتصرة.

القدس العربي