محنة استخدام القوة والخداع في مواجهة الحراك الشعبي

محنة استخدام القوة والخداع في مواجهة الحراك الشعبي

وصل الحراك الشعبي في السودان والجزائر إلى محطة “الاستعصاء الديمقراطي”. والدرس كان مكتوباً على الجدار وسط تمارين الحوار: الحراك الشعبي ينجح في هزّ النظام وكرسي الرئيس، لكنه يحتاج إلى قوة العسكر لإكمال المهمة. والجيش يوظف الحراك الشعبي للإقدام على إسقاط الرأس الذي صار بقاؤه مضراً للنظام. والظروف وموازين القوى الداخلية والخارجية تفرض نوع المرحلة الانتقالية من فصل إلى آخر في اللعبة: فإما إعادة إنتاج النظام لنفسه بوجوه مختلفة، وإما تقاسم الثورة والسلطة بما يكرس معادلة: نصف ثورة ونصف سلطة.
وهذا بالطبع حيث ينحاز الجيش إلى الحراك الشعبي السلمي. النموذج التونسي في ثورات ما سُمي بـ “الربيع العربي” كان استثناءً من القاعدة، إذ هرب رأس النظام ووقف الجيش على الحياد، بحيث أمسكت قوى الحراك الشعبي بالسلطة الانتقالية. النموذج المصري تكرر في السودان لجهة إبقاء السلطة الانتقالية في يد مجلس عسكري بعد تنحي الرئيس حسني مبارك وإزاحة الرئيس عمر البشير. أما النموذج الجزائري، فبدا ذا طابع خاص، هو التطبيق الكلاسيكي للدستور بعد استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، عبر تسلم رجال النظام المدنيين السلطة الانتقالية نظرياً، مع بقاء مركز السلطة في يد الجيش وتحديداً في يد رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح. والنموذج اليمني بدأ بعد الحراك الشعبي بتقاسم السلطة بين المعارضة والنظام عقب استقالة الرئيس علي عبدالله صالح إثر تسوية داخلية وخارجية. ثم انقلب الحوثيون على التسوية بالاتفاق مع علي صالح قبل أن يقتلوه. ويرتسم المشهد اليمني اليوم حرباً أهلية وصراعاً إقليمياً ودولياً، تدعم فيه إيران الحوثيين، ويدعم التحالف العربي بقيادة السعودية الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي.
أما انحياز الجيش إلى النظام ضد الحراك الشعبي، فقاد إلى نماذج مخيفة من التراجيديا. في ليبيا، كان العنف والقمع من البداية، وحدثت انشقاقات عسكرية، ثم دخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) على الخط، عبر العمل العسكري المباشر وانتهى الأمر بعد مصرع معمر القذافي بحرب أهلية تدعم أطرافها قوى إقليمية ودولية. في سوريا اصطدم الحراك الشعبي السلمي في الأشهر الأولى بالعنف السلطوي. وحصلت انشقاقات في صفوف الجيش وتكرست “عسكرة الثورة” ومعها مشاركة كل القوى الإقليمية والدولية بشكل مباشر وغير مباشر في حرب سوريا. وأعلن ظهور “داعش” و”جبهة النصرة” وتنظيمات إرهابية عدة آتية من نحو 80 بلداً، نهاية المعارضة السلمية.
والسؤال المطروح هو: هل انتهى زمن الثورات السلمية الشعبية، بعد تكاثر تلك الظاهرة إبان سقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة؟ ألم تكن الحرب الباردة بين الجبارين، سلسلة حروب حارة بين وكلائهما الصغار؟ الجواب التاريخي صادم: لا ثورة نجحت من دون عنف. لا الثورة الأميركية. لا الثورة الفرنسية. لا الثورة البولشفية. لا الثورة الصينية. ولا الثورة الكوبية. حتى الثورة الإسلامية في إيران، نجحت لأن الجيش انهار، وبالتالي سقطت الثكنة أمام تحالف “الجامع والبازار”. ومن “الثورة العربية الكبرى” ضد السلطنة العثمانية بدعم بريطاني في الحرب العالمية الأولى إلى آخر ثورة عربية، فإن الأكثرية كانت انقلابات عسكرية سعى أصحابها لتحويلها إلى ثورات من دون الاقتراب من جوهر الثورة: “الثورة ليست مجرد تغيير شكل الحكم بمقدار ما هي تغيير نظام المجتمع” كما قالت حنة أرندت (منظّرة سياسية يهودية من أصل ألماني).
أليس أوسع حراك شعبي سلمي مستمر على مدى أسابيع هو ما شهدته ولا تزال شوارع السودان والجزائر؟ أليس الرابح الأول، حتى إشعار آخر، هو الجيش؟ قايد صالح هو الجنرال الذي اختاره بوتفليقة لقيادة الجيش. والتبدل الجزئي في موقفه كان بسبب محاولة “العصابة” إقالته من منصبه. والمجلس العسكري السوداني الانتقالي هو اللجنة الأمنية التي شكّلها البشير لقمع الحراك الشعبي، غير أنها وجدت أمامها فرصةً للإمساك بالسلطة التي كان رأسها أصبح على الأرض بقوة الحراك الشعبي.
وليس من السهل التمييز بين أسلوب البشير وأسلوب المجلس العسكري. كلاهما من قماشة واحدة. كل منهما يمارس “التزلج السياسي” بين الحوار والقمع. ساعة يطلب مشاركة الجميع في السلطة، وساعة يأخذ المعارضين إلى السجون. كثير من المخاتلة والخداع وقليل من الصراحة والشفافية. والشعار الثابت هو “تمسكن حتى تتمكن”. ومن الوهم تصور هؤلاء الجنرالات الذين تكثر السيوف والنجوم والتيجان على أكتافهم يؤمنون بالثورة ويسلمون بالديمقراطية. فهم حراس النظام الذي صار رئيسه من الأعباء المرمية عليه بعد 30 سنة توتاليتارية. وهم يعرفون العوائق التي يقف عندها الحراك الشعبي.
لكن من الصعب عليهم تجاهل موازين القوى، فهم يضعون على الطاولة ورقة مهمة هي القوة وتأييد بعض العواصم للتفاهم على سلطة تضمن الاستقرار. وفي المقابل، فإن أوراق الحراك الشعبي على الطاولة مهمة جداً: المقدرة على النزول إلى الشارع وإعلان الإضراب والعصيان المدني. دعم الأمم المتحدة والدول الكبرى لتسليم السلطة إلى المدنيين. ضغط الاتحاد الأفريقي الذي قرر تعليق عضوية السودان إلى أن يتسلم المدنيون السلطة. وحاجة العسكر إلى المدنيين في النهاية الذين لولاهم لبقي الجنرالات في خدمة البشير. وليس أخطر من المجزرة التي حدثت بفعل الاندفاع إلى فض الاعتصام بالقوة سوى إنكار الدور فيها. والمفارقة هي اتهام الثوار بأنهم الذين يريدون نقل البلاد “من نظام شمولي إلى نظام أكثر شمولية”.
ومهما يكن، فإن المجزرة ليست نقطة في نهاية السطر السوداني. فاللعبة مفتوحة. وكما في الذكرى الـ30 لمجزرة ساحة تيان آن مين في بكين، كذلك في مجزرة فض الاعتصام: لا مجال للنسيان، ولا جدوى من سياسة لوم الضحية. و”أكاذيب مكتوبة بالحبر لا تخفي حقائق مكتوبة بالدم”، كما قال الكاتب الصيني لو شوي.

اندبندت