العواقب غير المقصودة من زيادة تأزم الوضع في الخليج

العواقب غير المقصودة من زيادة تأزم الوضع في الخليج

تبنّت السعودية، كونها أكثر منتجي النفط تأثيراً في أسواق النفط، سياسة مقتضاها أنها مصدر آمن يمكن الاعتماد عليه لإمدادات النفط والمنتجات النفطية والبتروكيماوية، ووافقها في ذلك بعض دول الخليج، مثل الإمارات.

من هذا المنطلق، أدركت السعودية والإمارات أهمية حماية المنشآت النفطية وتلافي أي مشاكل في المنطقة، وحاولتا خلال سنوات طويلة أن تكونا مصدراً آمناً للطاقة يمكن الاعتماد عليهما، تحت أي ظروف، ومهما كانت الضغوط، وأصبحت سياسة معلنة وواضحة. ومن هذا المنطلق حاولت السعودية في كثير من الأحيان تحييد النفط عن السياسة، على الرغم من صعوبة ذلك، وتطلّب الأمر أحياناً ضبط نفس وصبراً شديدين، وتجاهلاً وغضّ طرف في أحيان أخرى.

هذه السياسة غابت عن هؤلاء الذين اتهموا السعودية والإمارات بافتعال الهجوم على ناقلات النفط، فخسائرهما على المدى الطويل من تحوّلهما إلى مصدر غير آمن للطاقة هائلة تفوق أي منافع أياً كانت.

هذه السياسة، كونها مصدراً آمناً للطاقة يعتمد عليه في كل الظروف، لم تأتِ من فراغ، إنما من تجارب تاريخية مكلفة، معظمها لم يكن لها يد فيها، وإن أي عمليات، مهما كان حجمها، تشكّك في كون السعودية مصدراً آمناً للطاقة، تتنافى مع السياسة السعودية وحلفائها، وتتنافى مع مصلحة السعودية ودول الخليج أجمع. فما هي هذه التجارب؟

الطلب المستقبلي على النفط

ترتّب على المقاطعة النفطية عام 1973، ثم الثورة الإيرانية عام 1979، ثم الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1980 و1988، ولاحقاً غزو العراق الكويت عام 1990، فحرب الخليج عام 1991، تراث ضخم في الدول الغربية والشرقية من الكتب والمقالات والخطب السياسية والمقابلات التلفزيونية والقوانين والسياسات التي تدعو إلى أمرين:

1-تخفيض الاعتماد على واردات النفط من الشرق الأوسط.

2- تخفيض الاعتماد على النفط بشكل عام لصالح مصادر الطاقة الأخرى.

ثم تعزّزت هذه الأمور بالاحتلال الأميركي للعراق، والتكاليف الهائلة التي تكلفتها الولايات المتحدة، ثم ما نتج من ذلك من تسليم العراق إلى إيران، وتوسعها في المنطقة، وتطوير برنامجها النووي.

ومن نتائج ذلك تبني قوانين وسياسات أسهمت في تخفيض الدول الغربية وارداتها من النفط من منطقة الخليج، ويكفي هنا أن نذكر أن الفرق بين الطلب الذي كان متوقعاً منذ سنوات لهذا العام، أكبر من الطلب الفعلي بأكثر من 10 ملايين برميل يومياً.

هذا يعني أن الانخفاض في الطلب وحده أكبر من إنتاج السعودية الحالي!

تخفيض هذه الدول اعتمادها على النفط الخليجي يفسر تركيز منطقة الخليج على الدول الآسيوية الآن، فماذا حصل؟

بحجة عدم استقرار الدول النفطية في الشرق الأوسط، واحتمال مشاكل في الخليج ومضيق هرمز، وفي سبيل تحقيق “أمن الطاقة”، الذي أصبح جزءاً من “الأمن القومي”، جرى تبني سياسات عدة منها:

1- تبني قوانين لزيادة كفاءة استخدام الطاقة، بما في ذلك تحديد سرعة السيارات، وإجبار الشركات على صناعة سيارات صغيرة، وزيادة أداء محركات السيارات.

2- تشجيع مصادر الطاقة البديلة بما في ذلك الطاقة النووية والمتجددة.

3- تشجيع التنقيب عن النفط داخلياً، ما أسهم في جلب أكثر من خمسة ملايين برميل يومياً من ألاسكا وبحر الشمال، ثم أكثر من مليون ونصف مليون برميل يومياً من المياه العميقة في خليج المكسيك.

4- تشجيع الشركات العالمية على التنقيب عن النفط في مناطق جديدة ودول تعتبر صديقة للدول الغربية، فزاد إنتاج العديد منها خصوصاً كندا وعدداً من دول أميركا اللاتينية والأفريقية.

ولعل من أهم نتائج هذه السياسات زيادة العداء للعرب، وتحويل هذا العداء إلى دراسات وكتب أكاديمية، يظن البعض أنها أصبحت حقيقة علمية.

دروس الماضي للمستقبل

ما ذكر أعلاه باختصار شديد، هو سبب تبني السعودية وحلفائها فكرة أن يكونوا مصدراً آمناً للطاقة يعتمد عليه في كل الحالات.

وما ذكر من مشاكل سيتكرر مرة أخرى، إذا تأزمت الأمور في منطقة الخليج حيث سيتبنى صناع القرار في الغرب سياسات تزيد من ابتعادهم عن النفط بشكل عام ونفط الخليج بشكل خاص. وكما حصل في الماضي وسيستغل حماة البيئة الأمر للترويج لسياسات يدعمونها، كما سيستغل أعداء العرب الفرصة بهدف تحجيم وتقليل دور الدول العربية في المجتمع الدولي والاقتصاد العالمي.

روسيا والولايات المتحدة أكبر المستفيدتين

من سخريات القدر أن أكبر مستفيد من أي مشاكل في الخليج، أو من أي هجوم أميركي على بعض المنشآت الإيرانية، وأي رد فعل إيراني على ذلك، أو من حرب شاملة في المنطقة، هي روسيا، إذ تبنّى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ رئاسته الأولى روسيا سياسة جعلها مصدراً آمناً لإمدادات الغاز إلى أوروبا.

ومع مرور الزمن، توسع الأمر ليشمل النفط، وليشمل بعض الدول الآسيوية مثل الصين، وهذا يعني أن من النتائج غير المقصودة من أي حراك عسكري أميركي في منطقة الخليج هو دعم قطاعَي النفط والغاز الروسيين! فكيف سينظر الأميركيون إلى ذلك؟ وما سيكون رد فعل الدول الأوروبية على ذلك؟ أليس من سخريات القدر أنهم يحاولون التخلي عن نفط الخليج ليقعوا في الفخ الروسي؟

تركيا في مأزق

مشكلة الاقتصاد التركي الرئيسة ليست انخفاض الليرة أو المديونية العالية للشركات التركية فقط، وإنما اعتماده على واردات النفط والغاز من إيران وروسيا. وفي ظل المشاكل في الخليج، والخوف من زيادة الاعتماد على روسيا، فإنه لا خيار أمام الحكومة التركية سوى البحث عن النفط والغاز في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط، ما دفع الأتراك للتنقيب في مياه تعتبرها أوروبا والولايات المتحدة تابعة لقبرص، بينما لا ترى الحكومة التركية ذلك.

مشكلة الإدارة الأميركية هنا أنها لا تستطيع أن تطلب من تركيا وقف واردات النفط والغاز من إيران وروسيا، ثم تحاول منعها من التنقيب في شرق المتوسط، لهذا، فإنه يتوقع أن يبدي الأوروبيون انزعاجهم، وستتجاهلهم تركيا، بينما ستتغاضى الحكومة الأميركية عن الجهود التركية، مقابل أن تقوم تركيا باستيراد الغاز المسال الأميركي.!

وقد يترتب على حدوث عجز في إمدادات النفط، قيام تركيا بشراء النفط المقبل عبر أنبوب كركوك جيهان، بدلاً من قيام كردستان بتصديره، ما قد يزعج إسرائيل التي تعتمد بشكل كبير على النفط المصدّر من كردستان. لهذا فإنه من النتائج غير المقصودة لتأزّم الوضع في الخليج اضطرار الحكومة الأميركية إلى دعم الحكومة التركية!

قطر والعراق أكبر الخاسرين على المدى الطويل

وتفاقم الأحداث في الخليج العربي وانخفاض صادرات النفط منه، سيجبران دول المنطقة على الاستمرار في تطوير البدائل لمضيق هرمز. ما يعني أن باستطاعة السعودية والإمارات والبحرين والكويت بناء أنابيب إضافية لتجاوز هذا المضيق، غير أن العراق لا يستطيع ذلك لأن بناء أنابيب عبر السعودية أو الأردن يعني بالضرورة تخلّي العراق عن إيران، وتوافق سياساته مع دول الخليج.

وهذا أمر مستبعد في المستقبل المنظور، وتوسع العراق في إنتاجه في الجنوب في ضوء استمرار تأزم الوضع العسكري في الخليج، يعني انخفاض صادرات العراق، خصوصاً مع ارتفاع تكاليف التأمين والحراسة والأمن، ما سيؤثر سلباً في إيرادات العراق المالية من جهة، وفي رغبة الشركات العالمية في الاستثمار في الحقول النفطية العراقية من جهة أخرى.

أما بالنسبة إلى قطر، ولو عادت العلاقات الأخوية مع دول الخليج، فإن صادرات الغاز المسال لا تجري إلا عبر الناقلات البحرية، والتي لا بديل لها إلا المرور عبر مضيق هرمز، إذ لا يمكن نقله في الأنابيب، ما يعني أن الدول المستوردة ستنظر إلى الغاز المسال القطري على أنه مصدر غير آمن للطاقة، وربما أعلى تكلفة بسبب زيادة أسعار التأمين والحماية العسكرية للسفن، وبالتالي سيصبح مصدراً رافداً أو ثانوياً، وستقوم باستيراده من مناطق أكثر أمناً مثل الولايات المتحدة وأستراليا وروسيا.

وهنا، مرة أخرى، نجد أن روسيا والولايات المتحدة مستفيدتان من توتر الأوضاع في الخليج، لكن في مجال الغاز المسال هذه المرة.

خلاصة الأمر أن تفجيرات السفن، وزيادة توتر الأوضاع في المنطقة، وأيّ عمليات عسكرية فيها، ستضرّ بمصالح دول الخليج النفطية خصوصاً على المدى الطويل، ويحرج السعودية والإمارات، بينما يشجع إيران على التنمّر وإثارة المزيد من المشاكل.

السعودية والإمارات تنظران إلى مصالحهما على المدى الطويل، بينما ينظر النظام الإيراني إلى مصالحه على المدى القصير. وعلى الرغم من وجود حلول عدة للتخلص من مشاكل إيران، إلا أن أحلاها شديد المرارة! والمأساة، أن هناك في إيران من يريد أن يشرب العلقم باختياره، ولكنه يحاول أن يُجبر الآخرين على شربه معه!

اندبندت