هل يمكن أن تصبح الولايات المتحدة مسالمة؟

هل يمكن أن تصبح الولايات المتحدة مسالمة؟

اتحد قطبا الأعمال في الولايات المتحدة جورج سوروس وتشارلز كوك لتمويل مركز تفكير جديد للسياسة الخارجية في واشنطن. ويهدف إلى التعريف بنهج جديد قائم على الدبلوماسية وضبط النفس بدلا من تبادل التهديدات وفرض العقوبات وشنّ الهجمات.

واشنطن – في واحدة من أبرز الشراكات في التاريخ الأميركي السياسي الحديث، أعلن رجلا الأعمال الأميركيان الليبرالي جورج سوروس واليميني تشارلز كوك عن شراكة لتمويل مركز أبحاث جديد مهمته “تحريك السياسة الخارجية الأميركية بعيدا عن واقع الحرب التي لا نهاية لها ونحو دبلوماسية قوية”.

يحمل هذا الخبر دلالات سياسية كبرى تتعلق بالصراعات الانتخابية الأميركية الداخلية والمواقف المعارضة لسياسات ترامب ولها تداعيات على منطقة الشرق الأوسط والعالم، حيث تتدخل الولايات المتحدة في كل مكان.

وسيضم المعهد مجموعة من معارضي حرب العراق ومن منتقدي الجيش الأميركي والسياسة الخارجية للبيت الأبيض على غرار تريتا بارسي، مؤسس المجلس الوطني الأميركي الإيراني، والكولونيل المتقاعد أندرو باسيفيتش، المحارب القديم في حرب فيتنام والمعارض لحرب العراق.

هنا، يجد المتابعون مبررا جديدا لحالة التخبط والارتباك التي بدت على ترامب في ما يتعلق بالتصعيد ضد إيران. بينما كانت القوات الأميركية على وشك أن تضرب ثلاثة مواقع في إيران، إثر حملة تجييش قوية لم يدخر ترامب وإدارته جهدا للترويج لها، ألغى الرئيس الأميركي العملية. وبرر الأمر بحجة حماية المدنيين.

وفي تبريره لموقفه، غرّد قائلا “كنا على أهبة الاستعداد عسكريا للرد الليلة الماضية (الخميس 20 يونيو) وضرب ثلاثة مواقع عندما سألت: كم عدد الأشخاص الذين سيقتلون؟ وكان جواب الجنرال: 150 شخصا سيدي. وقبل عشر دقائق من الضربة أوقفتها”.

ردا على هذا الموقف، تعددت القراءات والتفسيرات لقرار ترامب. واعتبر بعضها أن الأمر مرده شخصية الرئيس، الذي يفتقر إلى الخبرة في الشؤون الخارجية باستثناء تعاملاته التجارية. وقال آخرون إن ترامب حائر بين ضرورة المواجهة العسكرية وتنفيذ وعوده الانتخابية، وهو الذي بنى حملته الانتخابية على “الخروج من هذه الحروب التي لا تنتهي”.

وينضم الآن إلى هذه القراءات، الحديث عن الشراكة بين سوروس وكوك كأحد الأسباب القوية وراء مواقف ترامب الذي تتصاعد الآراء المنتقدة لسياسته في الداخل ويواجه مواجهة صعبة من الديمقراطيين في حملة الاستعداد لانتخابات 2020.

يعتبر سوروس، الذي اتهم ترامب بمحاولة إدارة البلاد كـ”مؤسسة إجرامية”، شخصية مؤثرة في أوساط السياسيين ورجال الأعمال وأرباب الشركات الكبرى والولايات المتحدة والعالم. ووصف ترامب بأنه “خطر” على العالم، متوقعا أن يغادر المكتب البيضاوي بحلول 2020.

ولفت الملياردير الأميركي إلى أن “المجتمعات المفتوحة تعيش أزمة، كما تشهد ظهورا قويا لنظم دكتاتورية وعصابات تحكم بعض الدول في الوقت الراهن، وخير مثال على ذلك الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا”. وينتقد تقارب ترامب مع كوريا الشمالية.

وكان موقع ويكليكس نشر وثائق وصفت سوروس بـ”رئيس الظل للولايات المتحدة، وصانع سياسات سواء في أميركا أو في أكثر من 100 دولة أخرى حول العالم لفرض أجندة سياسية يؤمن بها ويحارب بكل قوته من أجل فرضها سواء في الداخل أو الخارج”.

ووفقا للوثائق فإن لسوروس نفوذا كبيرا داخل البيت الأبيض وأيضا الحزب الديمقراطي، من خلال عدة مؤسسات يمتلكها مثل مجموعة الأزمات الدولية والمجتمع المفتوح والتقدم وغيرها الكثير. من هنا يأتي قلق إدارة ترامب الذي يتضاعف عندما يلتقي الخصمان سوروس وكوك عند نقطة مشتركة لإنهاء سياسة “الحرب الأبديّة الأميركية”، على حد تعبيرهما.

وكتب الصحافي الأميركي ستيفن كينزر في صحيفة ذو بوسطن غلوب معلقا على هذه الشراكة مشيرا إلى أن رجل الأعمال الأميركي جورج سوروس الداعم للسياسات الليبرالية وتشارلز كوك وهو أحد مالكي شركة صناعات كوك ذات الأنشطة الصناعية والتجارية والاستثمارية لا يحملان العديد من القواسم المشتركة ويمكن اعتبارهما قطبين متضادين.

وبينما يعدّ سوروس ليبراليا تقليديا، ينتمي كوك وشقيقه الذي يشترك معه في ملكية شركة الصناعات إلى اليمينيين الذين يحلمون بتخفيض الضرائب وتفكيك الحكومة. ولا يتمتع سوروس بشعبية في التيارات اليمينية، وذلك لدعمه لسياسات مثل الهجرة. من جهته، يتعرض كوك لانتقادات لاذعة بسبب انتمائه إلى الحزب الجمهوري ومعارضته لسياسات المناخ.

لا يتفق سوروس وكوك على العديد من الأمور، لكنهما يجتمعان في معارضتهما للحرب الأميركية الطويلة وفي فكرة ضرورة إنهاء هذه الحرب والانتقال نحو تبني سياسة خارجية جديدة ومختلفة. وكثيرا ما انتقد سوروس السياسة الأميركية التي تطغى عليها العسكرة لفترة طويلة. وكتب سنة 2006، في صحيفة وول ستريت جورنال قائلا “إن في ما يسمى الحرب على الإرهاب، ليست إرادتنا هي المختبرة، بل فهمنا للواقع″.

وكان كوك عبّر عن رأيه في السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الأخيرة قائلا، في لقاء تلفزيوني سنة 2015، إنه يعتبر السياسة الخارجية شكلا من أشكال الجنون. وتابع قائلا “إننا نستمر في طرد الدكتاتوريين ولا نحصل على أي بديل أفضل بعد ذلك. نحن نفسد حياة الكثير من الناس وننفق ثروات البلاد ونضحي بحياة الأميركيين وصحتهم. فأين هي الفوائد التي يمكن أن نقول إنها استحقت كل هذا العناء؟”.

ويبدي كوك معارضة لسياسات ترامب، الذي اعتبره يخاطر بانزلاق الاقتصاد الأمريكي المزدهر إلى هوة الركود.

ضبط النفس
تلعب مراكز التفكير دورا هاما في صناعة السياسة الأميركية. توظف هذه المراكز خبراء لتقديم المشورة للسياسيين والصحافيين وموظفي الكونغرس وعموم الأميركيين. يكتب الباحثون فيها أعمدة ويظهرون على القنوات الإخبارية.

ويتوقع أن يكون المركز الجديد الذي تشارك في تأسيسه سوروس وكوك أحد المراكز المؤثرة. ويهدف المركز إلى التعريف بنهج جديد قائم على الدبلوماسية وضبط النفس بدلا من تبادل التهديدات وفرض العقوبات وشنّ الهجمات. وقالت مجلة فوكس الأميركية إن هذا المركز سيعمل على تغيير مجرى السياسة الخارجية الحالية.

فعلى مستوى السياسة الخارجية، تشجع جميع مراكز التفكير الرئيسية في واشنطن “عقيدة التدخل” بحجة أن الولايات المتحدة تواجه تهديدات من كل مكان، لذلك يجب أن تكون حاضرة في كل زاوية من العالم عبر توزيع أكثر من 800 قاعدة عسكرية وإنفاق تريليونات الدولارات على مواجهات لا نهاية لها مع دول أجنبية.

وتعدّ هذه المبادئ الروح التي تحرك المراكز المحافظة مثل معهد إنتربرايز الأميركي للأبحاث السياسية العامة، ومؤسسة التراث التي تمثّل أكبر مراكز الفكر المحافظ في الولايات المتحدة والتي تقدم الدعم الاستشاري والبحثي للحزب الجمهوري. وتمتد هذه الأفكار إلى المؤسسات الليبرالية مثل مركز التقدم الأميركي ومعهد بروكينغز.

لذلك، تعدّ هذه الفكرة غريبة على واشنطن، وفق ستيفن كينزر، حيث يشجع كل مركز تفكير رئيسي استراتيجيات مثل النزعة العسكرية القائمة على أفكار المحافظين الجدد المؤمنين بقوة أميركا وهيمنتها على العالم أو التدخل على أساس الليبرالية الدولية. ويأمل مؤسسوه في أن تنتقل أفكارهم إلى أعضاء الكونغرس والسلطة التنفيذية مثلما انتشرت دعوات مراكز الفكر المؤيدة للتدخل لعقود.

رغم تناقض أفكارهما، توصل جورج سوروس وتشارلز كوك إلى نقطة يتفقان عليها وهي أن: على الولايات المتحدة إنهاء حربها الطويلة والانتقال نحو تبني سياسة خارجية جديدة ومختلفة. وسيعملان على الترويج لفكرتهما ضمن سياسة تقوم على مبدأ “عش ودع الآخر يعيش”.
يعمل سوروس وكوك معا لإحياء صورة الولايات المتحدة المسالمة التي أصبحت باهتة ومضمحلة بسبب الاستراتيجيات التي اعتمدتها خلال العقود السابقة.

وسيجعل انتماؤهما إلى طرفي الطيف السياسي وأموالهما من هذا المركز الجديد صوتا بعيدا عن القرارات المعتمدة وسط الهتافات التي تعلو في واشنطن مشجعة على سياسة حافة الهاوية.

وأشاد رئيس المجلس الوطني الأميركي الإيراني السابق والمؤسس المشارك لمركز التفكير الجديد، تريتا بارسي، بأهمية هذه الخطوة المتمثلة في اتحاد شخصين مختلفين كانا راغبين في وضع خلافاتهما جانبا والانضمام إلى هذا المشروع، إذ يظهر استعدادهما مدى أهمية إنهاء الحرب التي لا تنتهي.

وأضاف “سنتحدى أسس السياسة الخارجية الأميركية بطريقة مبتكرة لم يسبق لها مثيل خلال الخمس وعشرين سنة الماضية”.

وفق صحيفة بوسطن غلوب من المقرر أن يطلق على المركز الجديد اسم “معهد كوينسي للحكم المسؤول”.

ويحيل الاسم إلى رئيس الولايات المتحدة السادس، جون كوينسي آدمز، الذي أعلن في خطاب مهم ألقاه خلال الاحتفال بذكرى الاستقلال سنة 1821 أن الولايات المتحدة لا تخرج بحثا عن “وحوش” لتدميرها، وإنما تأمل في حرية واستقلال الجميع. فـ”هي بطلة نفسها ومدافعة عن حقوقها فقط”. وسيقوم معهد كوينسي بترويج سياسة خارجية تقوم على مبدأ “عش ودع الآخر يعيش”.

سياسة مثالية
يخطط المعهد لبدء نشاطه في سبتمبر وإقامة حفل رسمي لتدشين أعماله في الخريف. وساهم كل من المانحين المؤسسين، مؤسسة سوروس ومؤسسة تشارلز كوك، بنصف مليون دولار لتمويل المركز. كما حوّلت جهات مانحة أخرى 800 ألف دولار إلى المؤسسة.

بحلول السنة المقبلة، يأمل المركز في تجميع ميزانية تصل إلى 3.5 مليون دولار وانتداب خبراء في الشؤون السياسية ليصدروا أفكارا يستغلها الكونغرس وتطرح في المناقشات العامة.

ومن بين المؤسسين العديد من منتقدي السياسة الخارجية الأميركية المعروفين، بمن فيهم سوزان ديماجيو، وهي باحثة بارزة ومديرة المبادرة الإيرانية في منظمة “نيو أميركا”، تشجع التفاوض مع الصين وإيران وكوريا الشمالية حيث تركز على الأمن القومي في أنحاء الشرق الأوسط وآسيا والمبادرات الجديدة بشأن الحكم الإقليمي والعالمي.

رغم تناقض أفكارهما، توصل جورج سوروس وتشارلز كوك إلى نقطة يتفقان عليها وهي أن: على الولايات المتحدة إنهاء حربها الطويلة والانتقال نحو تبني سياسة خارجية جديدة ومختلفة. وسيعملان على الترويج لفكرتهما ضمن سياسة تقوم على مبدأ “عش ودع الآخر يعيش”.
ستيفن كينزر: سوروس وكوك يعملان معا لإحياء صورة أميركا المسالمة
كما يحضر اسم الباحث والمؤرخ المتخصص في تاريخ الولايات المتّحدة ستيفان فيرتهايم، والمختص في العلاقات الدولية والدراسات الأمنية والسياسة الخارجية والتاريخ الدبلوماسي والعسكري الأميركي، الكولونيل السابق أندرو باسيفيتش، الذي يعد من أشد منتقدي غزو العراق.

وقال باسيفيتش عندما سئل عن السبب وراء رغبته في الانضمام إلى المعهد “سيدعو معهد كوينسي التقدميين والمحافظين المناهضين للتدخل في توجيه الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات الأخرى إلى النظر في نهج جديد أقل عسكرة. نحن نعارض حربا لا نهاية لها ولنتائجها السلبية. نحن نريد استعادة مبادئ السعي لتحقيق السلام في أجندة سياسة البلاد الخارجية”.

بعبارة أخرى، يعني هذا أن معهد كوينسي سيدعو إلى انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان وسوريا، والعودة إلى الصفقة النووية مع إيران، واعتماد سياسات أقلّ حدّة مع روسيا والصين، ووضع حد للحملات الرامية إلى تغيير نظام فنزويلا وكوبا، وفرض تخفيضات في ميزانية الدفاع.

وتقول بوسطن غلوب إن المركز يهدف إلى إصدار أربعة تقارير قبل نهاية السنة الحالية: تقريرين يقدّمان خططا بديلة للسياسات المعتمدة مع الشرق الأوسط وشرق آسيا، أحدهما عن “إنهاء الحرب التي لا نهاية لها”، والآخر عن “دمقرطة السياسة الخارجية”.

جاء في بيان المركز أن على “الولايات المتحدة التواصل مع العالم بنيّة التعاون السلمي مع الشعوب الأخرى. وأن تمجّد السلام وتسعى إلى نشره عبر قرارات دبلوماسية. لا يجب أن يمثل استخدام القوة المسلحة طابع المشاركة الأميركية في العالم. تنهي القوة حياة الشعوب، وتدمّر علاقات لا يمكن إصلاحها. يجب أن تتحول القوة إلى حلّ أخير نادرا ما يوظّف. إن الجيش موجود للدفاع عن شعب وأراضي الولايات المتحدة، وليس للعمل شرطة عالمية”.

من خلال هذا البيان تبدو مبادئ المركز مثالية في أطروحاتها السلمية. وربما لو كان المموّلون الرئيسيون أشخاصا آخرين غير سوروس وكوك، لسخر الأميركيون أنفسهم من هذه النظريات الحالمة وتنبأوا بفشل المشروع قبل تأسيسه.

وقد سعى الرئيس باراك أوباما إلى تطبيق جانب من هذه السياسة “السلمية”، من خلال الانسحاب من العراق أو بتوقيع الاتفاق النووي مع إيران، لكن، سرعان ما انهارت المثاليات التي روجت لها السياسات على وقع تداعيات السياسات الأميركية نفسها وما زرعته الولايات المتحدة على مدى سنوات. مع ذلك، يرى بارسي أن هناك فرصة في بروز بعض التيارات في السياسة الأميركية.

وقال إن المركز سيعد فاشلا إذا بقي يلعب دور المنتقد بعد 10 سنوات، عوضا أن يكون مؤثرا يغيّر اتجاه السياسة الخارجية الأميركية.

العرب