قراءة شخصية في أسباب ودلالات انتفاضة 30 يونيو المصرية

قراءة شخصية في أسباب ودلالات انتفاضة 30 يونيو المصرية

تتفق شرائح النخب التي انخرطت في ثورة يناير، على أن النظام السياسي الحالي يعد أسوأ بكثير، من كافة الوجوه، من النظام الذي حكم مصر في مرحلة ما قبل الثورة، غير أن هذه الشرائح ما تزال، رغم ذلك، تتبادل الاتهامات في ما بينها حول المسؤولية عما آلت إليه الأمور، أخطرها الاتهامات المتبادلة إجمالا بين التيارات الإسلامية والتيارات العلمانية.
فالأولى ما تزال تعتقد أن الثانية هي من ينبغي أن تحمل هذه المسؤولية كاملة، لأنها تحالفت مع مؤسسات الدولة العميقة للإطاحة بأول رئيس منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر السياسي. أما الثانية فما تزال تصر على أن الأولى هي من ينبغي تحميله هذه المسؤولية بالكامل، لأنها سعت ليس فقط لتهميش وإقصاء شركاء الثورة، التي لولاها لما انفتح أمامها الطريق للوصول إلى السلطة أصلا، وإنما أيضا لوضع مشروعها السياسي الخاص، وليس مشروع الثورة، موضع التطبيق. وينطوي كلا الطرحين، في تقديري، على قدر لا يستهان به من قصر نظر وعدم النضج السياسي.
فإصرار التيارات الإسلامية على الاندفاع نحو إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية قبل استئصال جذور النظام القديم، أثار شكوكا مبكرة حول نيتها استخدام الصندوق أداة لبناء شرعية بديلة للشرعية الثورية، وبالتالي ساعد على خلق حالة استقطابية خطرة، عمقت فجوة عدم الثقة بين الجانبين. وخوف التيارات العلمانية، المبالغ فيه أحيانا، من سعي التيارات الإسلامية للانفراد بالسلطة، بهدف بناء دولة دينية تحكمها الشريعة الإسلامية، جعلهم لا يأبهون بحجم الأخطار المحدقة بالثورة، خاصة من جانب فلول النظام القديم، وبالتالي ساعد، بقصد أو بدونه، على بناء تحالف موضوعي مع قوى الدولة العميقة، وهو التحالف الذي جسدته أحداث 30 يونيو بوضوح.
لو كان قد توافر لدى الجانبين حد أدنى من النضج السياسي، ومن عمق الرؤية الاستراتيجية، لأدركا معا أن وحدة القوى التي شاركت في ثورة يناير هو السبيل الوحيد لاستئصال جذور النظام القديم، كشرط لا غنى عنه لتهيئة الأجواء نحو منافسة سياسية وحزبية شريفة، تضمن في المستقبل حق كل طرف في السعي لبناء الدولة وفق رؤيته أو مشروعه الخاص. بعبارة أخرى يمكن القول إن الإدارة الرشيدة لتعقيدات وإشكاليات المرحلة الانتقالية، كانت تفرض على تيارات الإسلام السياسي، خاصة جماعة الإخوان، بذل كل ما في وسعها لاستئصال جذور النظام القديم أولا، بالتعاون مع قوى الثورة، بدلا من السعي لاستعراض عضلاتها عبر صناديق الانتخابات، وتفرض على القوى الليبرالية بدورها بذل كل ما في وسعها للعثور على صيغة لعمل سياسي مشترك يسمح بتجنيب البلاد الوقوع في فخ الاستقطاب الخطر. غير أن العمى الذي أصاب الفريقين خلق بيئة مواتية لظهور تحالفات كانت في جوهرها مناهضة للثورة، وعقبة كأداء في طريق وضع مشروعها موضع التطبيق، كالتحالف المعلن بين جماعة الإخوان والقوى السلفية، والتحالف المستتر، أو غير المعلن بين بعض التيارات العلمانية وقوى الدولة العميقة. ما جرى في 30 يونيو 2013، لم يكن حدثا وليد اللحظة أو عفو الخاطر، وإنما كان نتاجا لمواقف وحسابات خاطئة من الجانبين، بدأت قبل تنحي مبارك في 11 فبراير 2011، وراحت تتراكم على مدى شهور طويلة، إلى أن انفجرت بعد أكثر من عامين على اندلاع الثورة. ويكفي أن نتذكر هنا حجم الخلافات التي اندلعت بين الطرفين، سواء إبان المرحلة الانتقالية التي أدارها المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو المرحلة التي تلت إعلان فوز الدكتور مرسي في الانتخابات الرئاسية، التي جرت خلال شهري مايو ويونيو 2012. ففي المرحلة الأولى وقعت خلافات عديدة نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر: الخلافات حول استفتاء مارس 2011 (الذي أطلق عليه البعض «غزوة الصناديق»)، الخلافات حول أساليب ممارسة العمل السياسي عقب رحيل مبارك (دعوة البعض إلى نبذ التظاهر والتعبئة الجماهيرية والاحتكام إلى «القبة» بدلا من «الميدان»)، الخلافات حول الإعلان الدستوري، الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة (والذي تضمن نصوصا لم تشملها التعديلات الدستورية التي تم الاستفتاء عليها)، الخلافات حول ملابسات حل مجلس الشعب، قبل أسابيع من إجراء الانتخابات الرئاسية، إلخ. وفي المرحلة التالية، التي تولى فيها مرسي إدارة البلاد، وقعت خلافات عديدة نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر: الخلافات حول قرار الدكتور مرسي عودة مجلس الشعب المنحل لممارسة مهامه، الخلافات حول طريقة تشكيل وعمل الجمعية التأسيسية المكلفة بوضع الدستور، الخلافات حول تعيين هشام قنديل رئيسا للوزراء، ودلالات هذا التعيين، الخلافات حول الإعلان الدستوري الذي أصدره مرسي وما تلاه من أحداث أدت إلى إقدام بعض القوى الإسلامية على فرض حصار حول المحكمة الدستورية ومدينة الإنتاج الإعلامي إلخ. ولا جدال في أن تراكم هذه الخلافات مهد الأجواء المحلية والإقليمية للانفجار الجماهيري الذي وقع في 30 يونيو.
لم تكن تحركات النخب المناهضة للتيار الإسلامي، أو انحياز الجيش والأجهزة الأمنية إلى هذه النخب واستخدامها كأدوات في الصراع السياسي المحتدم، أو حتى دخول بعض القوى الإقليمية على خط الأزمة، والنزول بثقلها لتمويل التحركات المناهضة لهذا التيار، كفيلة وحدها، في تقديري، بإسقاط حكم الجماعة. العامل الحاسم في هذا السقوط، من وجهة نظري، كانت تغير مشاعر «الأغلبية الصامتة» تجاه الإخوان. ومن المعروف أن هذه الشريحة المجتمعية المهمة لم يكن لديها مانع من تجربة حكم الجماعة عقب سقوط مبارك، وصوتت قطاعات عريضة منها لصالح مرشحيها في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، غير أن السلوك اللاحق للتيارات الإسلامية عموما، وللجماعة بصفة خاصة، ساعد على تعميق الإحساس بأنها غير مؤهلة لحكم البلاد، ودفع أعدادا كبيرة للنزول إلى الشارع في 30 يونيو للمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة.

خوف التيارات العلمانية من سعي التيارات الإسلامية للانفراد بالسلطة، جعلهم لا يأبهون بحجم الأخطار المحدقة بالثورة

كان الرأي الغالب داخل معظم فصائل التيار الإسلامي، حتى وقت قريب، يفترض أن كل من شارك في 30 يونيو ينتمي عمليا إلى الثورة المضادة، أو يعمل بتوجيهات من قوى الدولة العميقة، أو حصل على أموال من دولة الإمارات، أو السعودية! غير أن هذا الإدراك بدأ ينحسر رويدا رويدا لصالح توجهات أكثر عقلانية، بدت وكأنها تبحث عن فرصة للتعبير عن نفسها بوضوح أكبر، ثم وجدتها عقب الرحيل المفاجئ للدكتور محمد مرسي. فقد أصدر المكتب العام لجماعة الإخوان المسلمين مؤخرا بيانا حول ما سماه «الواقع الجديد للقضية المصرية»، وردت في ختامه فقرة بالغة الأهمية تقول: «قمنا بمراجعات داخلية متعددة، وقفنا خلالها على أخطاء قمنا بها في مرحلة الثورة ومرحلة الحكم، كما وقفنا على أخطاء وقع فيها الحلفاء والمنافسين من مكونات الثورة، وقد تسببت تلك الأخطاء والخلافات في تمكين الثورة المضادة من زمام الأمور، لذا فإننا نعلنُ أنَّ جماعة الإخوان المسلمين تقفُ الآن على التفريق بين العمل السياسي العام، والمنافسة الحزبية الضيقة على السلطة، ونؤمن بأن مساحة العمل السياسي العام على القضايا الوطنية والحقوق العامة للشعب المصري، والقيم الوطنية العامة وقضايا الأمة الكلية، هي مساحة أرحب للجماعة من العمل الحزبي الضيق والمنافسة على السلطة، وسنعمل في مرحلة ما بعد إنهاء الانقلاب العسكري كتيار وطني عام ذي خلفية إسلامية، داعمين للأمة ونمارس الحياة السياسية في إطارها العام، وندعم كل الفصائل الوطنية التي تتقاطع مع رؤيتنا في نهضة هذا الوطن في تجاربها الحزبية، ونسمح لأعضاء الإخوان المسلمين والمتخصصين والعلماء من أبنائها بالانخراط في العمل السياسي من خلال الانتشار مع الأحزاب والحركات التي تتقاطع معنا في رؤيتنا لنهضة هذه الأمة… وسيعمل المكتب على التواصل خلال الفترة المقبلة مع كافة المنتمين للمعسكر المناهض للحكم العسكري، لطرح رؤيته لتوحيد الأهداف والمنطلقات للثورة المصرية، من واقع المسؤولية الوطنية والأخلاقية، لصنع أرضية فكرية مشتركة، تعمل على إعادة النضال الثوري للمساحة الفاعلة من جديد».
ليس من الواضح بعد ما إذا كان هذا التوجه الجديد يحظى بتوافق عام داخل الأطر القيادية للجماعة، لكنني أعتقد أنه سيكون له ما بعده، سواء داخل الجماعة أو خارجها، خاصة أن تلك هي المرة الأولى التي تعترف فيها الجماعة رسميا بارتكابها لأخطاء، أثناء وبعد ثورة يناير، ساهمت في التمكين للثورة المضادة وفي وصول الأوضاع في مصر إلى ما هي عليه الآن. وأيا كان الأمر، فمما لا شك فيه أن هذا البيان، بصرف النظر عما إذا كان يعبر عن «إخوان الخارج» أكثر مما يعبر عن «إخوان الداخل»، سوف يساعد على قراءة أكثر موضوعية لما جرى في 30 يونيو، ما قد يمهد لإعادة فتح باب الحوار بين القوى الإسلامية والقوى العلمانية، وبالتالي لفتح صفحة جديدة في تاريخ مصر السياسي.