بُعدان لبناني وإقليمي لـ«حروب» جبران باسيل

بُعدان لبناني وإقليمي لـ«حروب» جبران باسيل

فتح ما حدثَ قبل بضعة أيام، في إحدى قرى قضاء عاليه بجبل لبنان، عدةَ ملفات دفعة واحدة… كلُّها تجمع بين ماضٍ أليم وحاضر مأزوم ومستقبل مقلق. في منطقة حيث بالكاد تعني الحدود الدولية السيادية شيئاً، تتعايش الهواجس والأطماع وذهنية الغلبة والإلغاء جنباً إلى جنب في ضمائر الناس. ولكن خلف الهواجس والأطماع العشائرية والمذهبية الصغيرة تقف مخطَّطات أكبر وأخطر.
أصلاً، الكبار في عالمنا هم الذين حدَّدوا هويات الصغار، وأسهموا في ابتكار طموحاتهم ومخاوفهم السياسية، ثم رسموا الحدود بموجب صفقات عقدت في اجتماعات مغلقة.
وعندما قال أحد الوزراء الجدد في تيار الرئيس اللبناني ميشال عون، أخيراً، إنَّ «المسيحيين عادوا إلى الجبل من فوق»، فإنه كان يختصر ذهنية قاصرة وجهولة تعبِّر تماماً عن ضيق أفق الصغار عندما يحاولون تعريف هويتهم وتبرير ما يفعلونه لتأكيدها. وطبعاً، تغدو المشكلة أسوأ بكثير عندما يتجاهل رئيس التيار نفسه جبران باسيل – صهر رئيس الجمهورية ووزير الخارجية – أنه بجولاته في المناطق اللبنانية، ومخاطبته مكوِّنات الكيان اللبناني «من فوق» أيضاً، يستفزُّ مخاوف مَن لا يرتضون أن يعيشوا «تحت» كمواطنين «درجة ثانية»… في دولة يحكمها بحِراب غيره.
في الحقيقة، باسيل يتصرَّف منذ فترة كـ«رئيس جمهورية الظل»، متجاوزاً رئيس الحكومة. وهو في ذلك يستقوي بسلاح «حزب الله»، الذي فرض عون رئيساً، ثم فرض قانون الانتخابات الذي أراده، وهذا بجانب كونه (أي باسيل) رئيس الكتلة النيابية الوازنة التي أمَّنها له الحزب والانتخابات.
باختصار، يتصرف على أساس أنه مرشح «حزب الله» ومحور طهران – دمشق لرئاسة الجمهورية، وبالتالي، فترئيسه محسوم.
وفق هذا الطموح، يتحرَّك الوزير – الصهر في كل المناطق اللبنانية، معلناً أن «لا خصوصيات» لأي منطقة لبنانية، وأن لا منطقة يمكن أن تكون مقفلة في وجهه ووجه رسائله السياسية. والغريب، أن هذا الإعلان يخالف تفكير تيار عون وممارسته بالنسبة «لاستعادة حقوق المسيحيين (بالذات)»، والمحافظة على «أراضي المسيحيين» في وجه محاولات مسلمين شراء عقارات في مناطق مسيحية، بل واحتكار تمثيل المسيحيين في المناصب السياسية والإدارية والقضائية والعسكرية.
قبل فترة قصيرة من الحادث المؤسف الذي شهدته بلدة قبرشمون، في قضاء عاليه، كان لباسيل خطاب ناري نكأَ فيه – كعادته في جولاته – كلَّ جراح الحروب والحزازات الدفينة، واستنهض المآسي والمخاوف وما يرافقها من أحقاد. ولئن كان الجانب المعلن من هذه الخطب مهاجمة «الطبقة السياسية المسؤولة عن حروب الماضي»، فإن الغاية الحقيقية أقل براءة من ذلك بكثير.
إذ إنَّ خطاب باسيل من ناحية، يذكِّر الشباب المسيحي الذي لم يعاصر تلك الحروب بوجود عدوّ لا يستطيع مواجهته إلا «المسيحي القوي»، أي تيار عون. ومن ناحية ثانية، يقول للمسيحي الأكبر سناً، الذي عاش مآسي الحرب اللبنانية 1975 و1990 أن العونيين هم الذين أعادوه إلى أرضه منتصراً «رغم أنف الخَصم» – الدرزي أو السنّي أو حتى الشيعي – الذي هجَّره… وهم وحدهم قهروا ذلك الخصم بعدما كان قد تغلّب على القوى المسيحية الأخرى («القوات اللبنانية» و«الكتائب» و«الأحرار» و«المرَدة» وغيرها).
هذا الخطاب، فعلياً، حملة إلغائية للقوى المسيحية المنافسة الهدف منها إخراجها من المعادلة السياسية، ومن ثم، حصر «الشرعية التمثيلية المسيحية» بعون وباسيل وتيارهما.
وبناءً عليه، فالإصرار على إلغاء القوى المسيحية المنافسة للعونيين يشكِّل أحد البُعدين الجيو سياسيين للمسار الراهن للسياسة اللبنانية، أما البعد الآخر، وهو أوسع وأشمل وأفظع، فهو المخطّط الإيراني المندرج في التصوُّرات المخصَّصة لخريطة الشرق الأوسط الجديد.
كثرة من المسيحيين ما زالوا في مرويَّاتهم عن الحرب اللبنانية يشيرون – مقتنعين – إلى «عرض» الدبلوماسي الأميركي دين براون على مسيحيي لبنان الهجرة منه، على أن تسهل الدول الغربية هذه الهجرة، وبالذات، إلى كندا. وجاءت مأساة «حرب الجبل» لتعزّز خوف المسيحيين من التهجير.
أما بالنسبة للموحدين الدروز، فيعود هاجس الخوف من التهجير إلى الثلث الأول من القرن الـ19 منذ حملة إبراهيم باشا (ابن محمد علي حاكم مصر). وتعزّز أكثر في حركات 1840 – 1860، وأخيراً الحرب اللبنانية (1975 – 1990). وفي حالتي المسيحيين والدروز، يفاقم هاجس التهجير «العامل الديموغرافي» لكون نسبة الزيادة الطبيعية في الجانبين منخفضة جداً، بالمقارنة مع نسبة الزيادة السكانية العالية عند السنة والشيعة.
ثم، بعد تهجير ما لا يقل من 20 مليون سنّي في كل من سوريا والعراق، خلال العقدين الأخيرين، يمكن تماماً إدراك أسباب تخوّف الأقليتين الصغيرتين التي قرّر العونيون – بدفع من «حزب الله» والنظام السوري – نسف توافقهما عبر «مصالحة الجبل» عام 2001… وإعادة زرع الفتنة بينهما.
«حزب الله»، وقبله النظام السوري، عمل على تقسيم المسيحيين والدروز، واصطنع له في أوساطهم أتباعاً يحرّكهم كما يشاء، ويفتعل عبر هؤلاء الأتباع إشكالات أمنية عند الطلب. وبالأمس، بينما كان الجبل يودِّع ضحيتي حادث قبرشمون، وقع في مدينة السويداء «معقل» الموحدين الدروز في سوريا، تفجير «داعشي» استهدف أحد شيوخ تنظيم «رجال الكرامة» المناوئ لحكم الأسد والإيرانيين.
ضحيَّتا قبرشمون، وهما شابان من مناصري النائب طلال أرسلان، من أبناء عائلتين «جنبلاطيتين» وفق التعريف التقليدي لـ«الغرضية» الدرزية اليزبكية – الجنبلاطية من القرن الـ18، وهذه حالة ولاء عشائري لا علاقة لها مطلقاً بالسياسة المعاصرة، بجانب أن أرسلان نفسه ليس «يزبكياً» أصلاً.
وعليه، ما يستحق الإشارة هو أن استهداف الموحدين الدروز في عاليه والسويداء وجهان لعملة واحدة، علماً بأن أكبر عائلات مدينة السويداء عديداً تتحدر من مدينة عاليه، بالذات. ثم إن الهدف الاستراتيجي من هذا الاستهداف المُعدّ بعناية يتصل بالخريطة المستقبلية للمنطقة وشروط التعايش الدولي مع المخطط الإيراني.
ثم إن باسيل، الذي يشكِّل «رأس حربة» حزب الله في سعيه لاحتواء المسيحيين وإخضاعهم للحزب بعد تهديدهم بـ«داعشية» السنّية السياسية، متحالف مع أتباع «حزب الله» من الدروز الذين كلَّفهم الحزب بالمهمة نفسها… أيضاً تحت ذريعة التصدي لـ«التكفيريين» (السنة، طبعاً).
إنه فصل جديد ومقلق من تحالف «بعض» الأقليات!